إن من كرمِ الله – جل وعلا – ومنَّته على عبادِه: أن منَحَهم قلوبًا تحمِلُ عاطفةً دينيَّةً يرتَقُون بها إليه – سبحانه -، إن هم استثمَرُوها وملؤُوها بحبِّه وحبِّ رسولِه – صلى الله عليه وسلم -، ولم يفصِلُوا بين المحبَّتين قولاً وعملاً وتصوُّرًا.
فإن محبَّة النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – من محبَّة الله، ولم يُحبَّ الله من لم يُحبَّ نبيَّه – صلى الله عليه وسلم -، وإن حلَفَ الأيمانَ كلَّها بين الرُّكن والمقام أنه يحبُّ الله؛ لأن الله – جل وعلا – يقول: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )[آل عمران: 31].
إنه رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -، سيِّدُ ولد آدم .. هو الرحمةُ المُهداة .. والنِّعمةُ المُسداة .. من أطاعَه فقد أطاعَ الله، (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) [النساء: 80].
ومن بايَعَه فإنما بايَعَ الله، (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح: 10].
وحُكمُه من حُكم الله، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65].
الله أكبر! ما أعظمَ تلكُم الآيات .. وما أعظمَ ما تضمَّنَته من معاني المحبَّة والانقِياد بالطاعة لرسولٍ (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].
عباد الله:
إن ارتِفاعَ شأن الأمة وقوَّتها وعزَّتَها وانتِصارَها على أعدائِها كلُّ ذلكم مرهونٌ بمدَى محبَّتهم لنبيِّهم – صلى الله عليه وسلم – قولاً وعملاً، ظاهرًا وباطنًا؛ فإن من قرأَ سجِلَّ الأمة الحافِلِ بالنصر والتمكين والرِّفعةِ بين الأُمم سيُوقِنُ صحَّةَ هذا الأمر.
فإنه ما ضعُفَت الأمةُ واستكانَت إلا لضعفِ محبَّتها له – صلى الله عليه وسلم -، وبُعدِها عن نهجِه، وعدمِ نُصرتِه ونُصرة سُنَّته، حتى طغَى لديها تقديمُ العقل على الوحيِ الذي نطَقَ به، ما سبَّب ازدِيادَ الجُرأة على السنَّة النبوية المُفضِيَة إلى القَدح في مُبلِّغِها – بأبي هو وأمي، صلواتُ الله وسلامُه عليه -.
إن أمةً ضعُفَت فيها محبَّةُ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – وقصُرَت نُصرتُه لجديرةٌ بالذلِّ والهَوان، وتسلُّط الأُمم عليها. كيف لا، والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يقول: «لا يُؤمنُ أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه من والدِه وولدِه والناسِ أجمعين»؛ رواه البخاري ومسلم.
وقد قال الله – جل شأنُه -: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء: 141].
فإن من تأمَّل هذه الآية وذلكُم الحديث أدرَكَ أن من أحبَّ الرسولَ – صلى الله عليه وسلم – فقد آمَنَ، ومن آمَنَ فلن يكون للكافِرين سبيلٌ عليه، سواءٌ أكانوا أفرادًا في الأمة أو مُجتمعات بها.
وليس بلازمٍ من هذا الأمر أن الأمة إذا ضعُفَت لضعفِ تحقيقِ محبَّة النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ونُصرتِه أنه دليلٌ على كُرهِها له. كلا، فهذا فهمٌ مغلوط؛ وإنما المُراد غيابُ كمال المحبَّة التي تجعلُ أمرَه وحُكمَه ونُصرتَه مُقدَّمٌ على كل شيءٍ. فإن الشُّرور إنما تُرهَنُ بكمال المحبَّة له – صلى الله عليه وسلم – وجودًا وعدمًا، فقد قال الله – جل وعلا -: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – مُمسِكًا بيدِ عُمر – رضي الله عنه -، فقال له عُمر: يا رسول الله! لأنتَ أحبُّ إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي. فقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيدِه؛ حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسِك»، فقال له عُمر: فإنه الآن واللهِ لأنتَ أحبُّ إليَّ من نفسِي. فقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «الآنَ يا عُمر»؛ رواه البخاري.
قال شيخُ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: “إن قيامَ المِدحَة والثناء عليه والتعظيم والتوقيرِ له – صلى الله عليه وسلم – قيامُ الدين كلِّه، وسقُوطَ ذلك سقُوطُ الدينِ كلِّه”.
فتأمَّلوا – يا رعاكم الله – كلامَ شيخ الإسلام تأمُّل من يعِي واقِعَ أمَّته، ثم ليتذكَّر قولَ الله عن نبيِّه – صلى الله عليه وسلم -: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور: 54].
إن محبَّة النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ليس ضربًا من الخيال، ولا هي من التكليفِ بما لا يُطاق؛ وإنما هي روحانيَّةٌ وانشِراحٌ وسعادةٌ لا يُحِسُّ بها إلا من رُزِقَها، ولا يزهَدُ فيها ويُهوِّنُ شأنِها إلا من كان قلبُه لضَخِّ الدم فحسب؛ إذ هذه خِلالُ غِلاظِ الأكباد، قُساةِ القلوبِ، تُجَّار الدنيا، يملأون قلوبَهم بالصوارِفِ عنه – صلى الله عليه وسلم -. وما هذه واللهِ خِلال عباد الله الصادِقين المُخلِصين، وصحبِ نبيِّه الأمين – صلواتُ الله وسلامُه عليه -.
فإنه لما قدِمَ عُروةُ بن مسعودٍ في صُلحِ الحُديبية من طرف قُريش، قال واصِفًا ما رآه من الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين – وتعظيمِهم للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، قال: “واللهِ لقد وفَدتُ على الملوكِ ووفَدتُ على قيصَرَ وكِسرَى والنجاشِيِّ، واللهِ إن رأيتُ ملِكًا قطُّ يُعظِّمُه أصحابُه ما يُعظِّمُ أصحابُ محمدٍ محمدًا، واللهِ إن تنخَّمَ نُخامةً إلا وقعَت في كفِّ رجُلٍ منهم فدَلَكَ بها وجهَه وجلدَه، وإذا أمرَهم ابتدَرُوا أمرَه، وإذا توضَّأ كادُوا يقتَتِلُون على وضوئِه، وإذا تكلَّم خفَضُوا أصواتَهم عنده، وما يحُدُّون إليه النظر تعظيمًا له”؛ رواه البخاري.
وفي نفسِ القصة عند البخاري أيضًا: أن عُروةَ جعلَ يُحدِّثُ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – ويُشيرُ بيدِه إليه حتى تمَسَّ لحيةَ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، والمُغيرةُ بن شُعبة واقِفٌ على رأسِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – بيدِه السيفِ، فقال له: اقبِض يدَكَ عن لحيةِ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – قبل ألا ترجِعَ إليك. فقَبَضَ عُروةُ يدَه.
“ولما نزلَ النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – في دارِ أبي أيوب الأنصاري – رضي الله تعالى عنه -، كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أسفلَ الدار وأبو أيوب أعلاها. فلما أمسَى وباتَ، جعل أبو أيوب يذكُرُ أنه على ظهرِ بيتٍ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – أسفلَ منه، وهو بينَه وبين الوحي، فجعلَ أبو أيوب لا ينام، يُحاذِرُ أن يتناثَرَ عليه غُبار ويتحرَّك فيُؤذِيَه”؛ رواه مسلم.
ألا إنما العِزَّةُ والرِّفعةُ والتمكينُ بمثلِ تلكُم المحبَّة – عباد الله -.
قال ابن القيِّم – رحمه الله -: “والمقصودُ أنه بحسبِ مُتابعة الرسولِ – صلى الله عليه وسلم – تكونُ العِزَّةُ والكفايةُ والنُّصرةُ، كما أنه بحسبِ مُتابعَتِه – صلى الله عليه وسلم – تكونُ الهدايةُ والفلاح والنجاة”.
فالله – سبحانه – علَّق سعادةَ الدارَين بمُتابعَته – صلى الله عليه وسلم -، وجعلَ شقاوَةَ الدارَين في مُخالفَته. فلأتباعِه الهُدى والأمن والفلاح، والعِزَّةُ والكفاية، واللذَّةُ والولاية، والتأييد وطِيبُ العيش في الدنيا والآخرة.
ولمُخالفِيه الذلُّ والصَّغارُ، والخوفُ والضلال، والخُذلانُ والشقاءُ في الدنيا والآخرة.
ألا فاتقوا الله – عباد الله -، فها أنتم عرفتُم فالزَمُوا؛ فإن المُوفَّق من وفَّقَه الله، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة: 128، 129].
واعلموا أن محبَّة النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – دون اتِّباعِه ما هي إلا ادِّعاءٌ محضٌ لا يُجاوِزُ تُرقُوَةَ مُدَّعِيها. وإلا فأين المُتكبِّرُ عن محبَّة النبيِّ – صلى الله عليه وسلم -؟! وقد علِمَ أنه – صلى الله عليه وسلم – خيرُ من تواضعَ لله.
وأين الظالِمُ من محبَّته – صلى الله عليه وسلم -؟! وقد علِمَ بأنه – صلى الله عليه وسلم – أعدلُ الناس.
وأين الخائِنُ .. وأين السارِقُ .. والقاتلُ .. وغيرُهم كثيرٌ وكثيرٌ؟! أوَليسَ من الخَيبَةِ والخُسران أن يكون الجَمادُ والبهائِمُ أعظمَ استِحضارًا لمقامِ نبُوَّتِه – صلى الله عليه وسلم – من بعضِ البشر ذوِي العُقولِ والأفهامِ؟!
فقد جاء عند مسلم في “صحيحه” أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «إني لأعفُ حجَرًا بمكَّة كان يُسلِّمُ عليَّ قبل أن أُبعَث، إن لأعرفُه الآن».
وعند الترمذي: عن عليٍّ – رضي الله تعالى عنه – قال: “كُنتُ مع النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – بمكة، فخرَجنا في بعضِ نواحِيها، فما استقبَلَه جبلٌ ولا شجَرٌ إلا وهو يقولُ: السلامُ عليك يا رسول الله”.
وعند البخاري في “صحيحه”: “كان النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – يخطُبُ إلى جِذعٍ، فلما اتَّخذَ المِنبرَ تحوَّل إليه، فحنَّ الجِذعُ حَنينَ العِشار، فأتاهُ فمسَحَ يدَهُ عليه يُسكِّتُه حتى سكَت”.
وإن تعجَبُوا – عباد الله – من سلامِ الجَمادات وحَنينِها إليه، فعجَبٌ دُخولُ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – حائِطًا لرجُلٍ من الأنصار، فإذا جملٌ، فلما رأى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – حنَّ وذرَفَت عيناه. فأتاه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – فمسَحَ ذفرَاه – أي: أصلَ أُذنَيه – فسكتَ، فقال: «من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟»، فجاء فتًى من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله. فقال: «أفلا تتَّقِي اللهَ في هذه البَهيمة التي ملَّكَك الله إياها؛ فإنه شكَا إليَّ أنه تُجيعُه وتُدئِبُه – أي: تُتعِبُه -»؛ رواه أحمد وأبو داود.
فلا إله إلا الله! إن المرءَ ليَستحِي أن يستمِعَ إلى تعظيمِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – من قِبَلِ خلقٍ غيرِ مُكلَّف، في حين إن نفوسَنا قاصِرةٌ عن ذلكم التعظيم الذي أودَى بنا إلى التخاذُل عن نُصرتِه وحِمايةِ جنابِه من الاستِهزاءِ به، والقَدحِ في سُنَّته وشِرعَته.
أيُّ قسوةٍ نُودِعُها قلوبَنا تجاهَ نبيِّنا – صلى الله عليه وسلم -؟!
ألا رحِمَ الله الحسنَ البصريَّ حين قال: “يا معشرَ المُسلمين! الخشَبةُ تحِنُّ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شوقًا إلى لقائِه. فأنتم أحقُّ أن تشتَاقُوا إليه”.
فكيف – يا عباد الله -، فكيف يشتاقُ إليه من لا يُحبُّه؟! وكيف يشتاقُ إليه من لا ينصُرُه؟! وكيف يشتاقُ إليه من يستثقِلُ أمرَه ونهيَه؟!
إنه لن يشتاقَ إليه إلا قومٌ سرَى حبَّه – صلى الله عليه وسلم – في دمائِهم، وجرَى في عُروقِهم، وملَكَ ألسِنَتَهم وأفئِدَتهم، حتى يقول قائلُهم:
فإن أبي ووالِدَه وعِرضِي***لعِرضِ مُحمدٍ منكم وِقاءُ
إن رسولَنا – صلى الله عليه وسلم – لن يَضيرَه سُخريةُ الساخِرين، ولا استِكبارُ المُعانِدين؛ فإن الله قد كفَاه ذلكم بقولِه: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِ ينَ) [الحجر: 95].
بل إن شيخَ الإسلام – رحمه الله تعالى – ذرَ عن بعضِ السلف أنهم كانوا يتباشَرون بتعجيلِ الفتح والعِزَّة والتمكين إذا سمِعُوا الكفارَ يقَعون في النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ويستهزِئون به؛ لأن الله قال لنبيِّه – صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر: 3].
وهذه هي عاقبةُ كل من استهزَأَ برُسُل الله: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) [الأنعام: 10].
وإنما يضيرُ ذلكم الاستِهزاء إيمانَنا به، ويمتحِنُ قلوبَنا للتقوى، ويجعلُ فلاحَنا – أمَّة الإسلام – مرهونًا بتحقُّق قول الله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف: 157].
وليس هوائِي نازِعًا عن ثنائِه****لعلِّي به في جنةِ الخُلدِ أخلُدُ
مع المُصطفى أرجُو بذاكَ جِوارَه***وفي نَيل ذاك اليوم أسعَى وأجهَدُ