مراجعات ابن كثير ونقده لمتون مرويات السيرة النبوية في كتابه البداية والنهاية
عبدالرحمن بن علي السنيدي
ملخص البحث:
يتناول البحث مراجعات ابن كثير ونقده لمتون مرويات السيرة النبوية في كتابه البداية والنهاية.
وكمقدمة بدأت الدراسة بتناول أهم ما ألف في السيرة النبوية في عصر ابن كثير بإيجاز مع التطرق إلى أبرز المؤلفين ذوي الاتجاه النقدي، تلا ذلك التعريف بابن كثير ثم نبذة عن السيرة النبوية المضمنة في كتابه البداية والنهاية، محتوياتها وموضوعاتها العامة. ثم تناولت الدراسة موضوعها الأساسي (مراجعات ابن كثير ونقده لمتون مرويات السيرة النبوية)، ومما تم تناوله هنا طبيعة هذه المراجعات والنقود والملحوظات التي يوردها ابن كثير على المتون التي يوردها نقلاً عن مصادره، ثم مقاييس ابن كثير في نقد المتن، ومنها عرض الرواية على رواية أصح منها، واستدعاء تاريخ التشريع واستدعاء الحقائق ومعلومات التاريخ والمحاكمة العقلية للمتون وأقوال شيوخه، وأخيرًا تناول البحث ما أهمل ابن كثير نقده من متون.
مقدمة:
جاء ابن كثير في عصر نشط فيه التأليف في كل فن من فنون الدراسات الدينية والعربية، ومن الطبيعي أن يكون التأليف في ميدان السيرة النبوية مواكبًا لهذا النشاط الذي استقى مواده ونصوصه من الثروة الضخمة من الكتب والآراء والروايات التي سجلها العلماء والمحدثون والحفاظ قبل ذلك العصر.
فلقد شهد القرن الثامن الهجري في مصر والشام المملوكيتين ظهور عدة مؤلفين في مجال السيرة النبوية، أخرجوا مؤلفاتهم في هذا الفن بشكل مفرد أو ضمن مؤلف موسوعي كبير.
ومن هؤلاء المؤلفين "عبدالمؤمن بن خلف الدمياطي" (ت705هـ) وله كتاب: "المختصر في سيرة سيد البشر" وكتاب "أسماء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم"[1]، وشيخ ابن كثير "كمال الدين بن الزملكاني (ت627هـ) ".
وله كتاب في مولد النبي صلى الله عليه وسلم، أشار إليه ابن كثير، وذكر أنه تضمن شيئًا في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه عقد فصلاً في هذا الباب فأورد فيه أشياء حسنة ونبه على فوائد جمة وفوائد مهمة وترك أشياء أُخر حسنة[2].
ومن المؤلفين كذلك ابن سيد الناس محمد بن محمد بن سيد الناس الأندلسي الإشبيلي ولد بالقاهرة سنة 671هـ وتفقه على مذهب الشافعي، من شيوخه والده وابن دقيق العيد (ت702هـ)[3] والحافظ المزي وشيخ الإسلام ابن تيمية[4].
ألف في السيرة "عيون الأثر في فنون المغازي والسير" ومن ميزات هذا الكتاب تلك الدراسة النقدية التي جاءت في مقدمة الكتاب عن أبرز من ألف في السير والمغازي من الرواة الإخباريين وهما ابن إسحاق والواقدي[5] إضافة إلى شرحه للغريب من الألفاظ وذكره للفوائد والتعليق على بعض المتون[6] ومن المؤلفين الشاميين قطب الدين عبدالكريم بن عبدالنور الحلبي (ت735هـ) وله "المورد العذب الهني في الكلام على سيرة عبدالغني"[7].
ومحمد بن أحمد بن عبدالهادي (ت744هـ) وهو من تلاميذه شيخ الإسلام ابن تيمية والمزي والذهبي وقد ألف في السيرة جزءًا في مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وجزءًا في المعجزات والكرامات[8].
ليس مهمًا رصد ما ألف في السيرة في عصر ابن كثير بقدر ما يهمنا معرفة مدى التنوع والجدة في العرض ومقدرة أولئك المؤلفين على غربلة الروايات وتمحيصها وتجاوز صناعة الجمع والاقتباس إلى النقد والتقويم.
لقد شهدت بلاد الشام ظهور مدرسة اجتهادية تأسست على علوم الحديث والسنة وعلى صحيح المنقول وصريح المعقول مثلها الإمام المجتهد ابن تيمية (ت728هـ) وتلاميذه وأبرزهم الذهبي وابن القيم وابن كثير. إضافة إلى الإمام الحافظ المزي (ت742هـ) وغيرهم من الأئمة المجتهدين، وقد جمع رموز هذه المدرسة بين التمسك بالنصوص والعقلية النقدية".
ومن مصنفات الذهبي وابن القيم، وكذلك ابن كثير تتجلى تأثيرات هذه المدرسة حيث يلمس الدارس العناية بغربلة الأخبار وتمحيصها ونقد متونها، فالذهبي أبو عبدالله محمد بن أحمد ابن عثمان (ت748هـ)، يعد من أبرز علماء عصره الذين ألفوا وكتبوا في تاريخ الإسلام بشكل عام وقد جاء ما دونه في السيرة النبوية مضمنًا في كتابه الشامل ((تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام)) موزعة على جزئين الأول: (المغازي)، والثاني (السيرة النبوية) وهو الترجمة النبوية، وقد قدم المغازي لأن من منهجيته تقديم الحوادث التي أسهم فيها صاحب الترجمة على الترجمة ذاتها[9] وينبه الذهبي إلى ما ينتاب بعض الأسانيد من ضعف ونكارة كقوله بعد إيراده رواية البراء في خبر سواد بن قارب، هذا حديث منكر بالمرة، ومحمد بن تراس وزياد مجهولان لا تقبل روايتهما وأخاف أن يكون موضوعًا على أبي بكر بن عياش ولكن أصل الحديث مشهور[10].
ومن نقوده الموجهة للمتن نقده لرواية عبدالرحمن بن غزوان[11] بسنده إلى أبي موسى الأشعري في سفر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام بصحبة أبي طالب، وأشياخ من قريش ولقاؤه بحيرا الراهب[12]، وهو نقد مشهور، استند إلى معايير تاريخية وعقلية وحلل الخبر تحليلاً علميًا من جميع جوانبه في أحداثه وألفاظه ودلالاته واستخدم عقله والأدلة التاريخية ليثبت بطلانه[13]، وهي خطوات تنبئ عن تمكن الذهبي العلمي ورسوخ قدمه في ميدان نقد متون الروايات.
وفي كتبه الأخرى ناقش الذهبي العديد من الروايات في ميدان السيرة النبوية. ففي ميزان الاعتدال، رد رواية عمرو بن حَكَّام عن شعبة بسنده إلى أبي سعيد الخدري وفيها أن ملك الروم أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدايا فكان فيها جرة زنجبيل.
قال الذهبي: هذا منكر من وجوه:
أحدهما: أنه لا يعرف أن ملك الروم أهدى شيئًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثانيهما: أن هدية الزنجبيل من الروم إلى الحجاز شيء ينكره العقل فهو نظير هدية التمر من الروم إلى المدينة النبوية[14].
ورد قول من قال: إن سلمان الفارسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمر ثلثمائة سنة يقول معقبًا على هذا القول: (ومجموع أمره وأحواله وغزوه وهمته وتصرفه وسفه للجريد وأشياء مما تقدم تبين بأنه ليس بمعمر ولا هرم فقد فارق وطنه وهو حَدَث ولعله قدم الحجاز وله أربعون سنة أو أقل. فلعله عاش بضعًا وسبعين وما أراه بلغ المئة)[15].
وقد نظر الذهبي إلى الموضوعات على أنها عبء كبير على السيرة، وأخذ على القاضي عياض (ت544هـ) مؤلف كتاب (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) ما في كتابه من أحاديث مفتعلة واهية حيث قال عنه: (حشاه بالأحاديث المفتعلة، عمل إمام لا نقد له في الحديث ولا ذوق، والله يثيبه على حسن قصده، وينفع بشفائه، وقد فعل، وكذا فيه من التأويلات البعيدة ألوان، ونبينا صلى الله عليه وسلم غني بمدحة التنزيل عن الأحاديث وبما تواتر من الأخبار عن الآحاد، وبالآحاد النظيفة الأسانيد عن الواهيات فلماذا يا قوم التشبع بالموضوعات فيتطرَّق إلينا مقال ذوي الغل والحسد ولكن من لا يعلم معذور[16]، ويرى الذهبي أن الموضوعات والأخبار الواهية لا يلتفت إليها بل تروى للتحذير منها: (فمن دلسها أو غطى تبيانها فهو جان على السنة خائن لله ورسوله، فإن كان يجهل ذلك، فقد يعذر بالجهل ولكن سلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)[17].
وقد عاصر ابن كثير كذلك، ابن القيم: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي (691-751هـ).
ويعد ابن كثير من أقرانه وأصحابه يقول عنه: (كنت من أصحب الناس له وأحب الناس إليه)[18]، وهذا القول يبين أن الشيخين إنما كانا صاحبين يلازمان أمثال ابن تيمية والمزي ولكن بعض المعاصرين يرى أن ابن كثير من تلاميذ ابن القيم[19]، وعلى كل فثمة عناصر جمعت بين الرجلين ثقافة ومنهجًا بالإضافة إلى التلمذة، على شيخ الإسلام ابن تيمية وقد كان الشيخان ضمن بعثة العلماء إلى الحج سنة 731هـ[20].
ألف ابن القيم في السيرة كتابه المتميز (زاد المعاد في هدي خير العباد) ويعد موسوعة جمعت بين علوم شتى من السيرة والفقه والتوحيد واللطائف في التفسير والحديث والفقه وغير ذلك.
ويرى بعض الباحثين أنه أول كتاب ألف في فقه السيرة، تميز هذا الكتاب بالموضوعات التي طرقها والآفاق التي نقل قارئه إليها من خلال كتابه، والجوانب الجيدة التي تناولها[21] وقد تميز كذلك بنقده لمتون كثيرة يرويها كتاب السيرة ورواتها.
فمن ذلك رواية يونس بن بكير عن سلمة بن عبد يسوع، أن رسول الله كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يعني النمل، باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
قال ابن القيم، ذلك غلط على غلط فإن هذه السورة مكية باتفاق وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك[22].
ورد رواية الترمذي أن رسول الله دخل مكة يوم الفتح وعبدالله بن رواحة بين يديه ينشد (خلوا بني الكفار عن سبيله... الأبيات.
قال ابن القيم:
هذا وهم فإن ابن رواحة قتل في هذه الغزوة (مؤتة) وهي قبل الفتح بأربعة أشهر[23].
ويرد ابن القيم على رواية عرض أبي سفيان على رسول الله الزواج من ابنته أم حبيبة... رضي الله عنها، قائلاً:
إن أهل التاريخ أجمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة قبل إسلام والدها بزمن طويل، ويرد على من ذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة بعد الفتح فيقول فيقول هذا باطل عند من له أدنى علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان[24].
وثمة روايات أخرى حاكمها ابن القيم محاكمة نقدية كاشفًا ما فيها من تناقضات وأوهام كرواية البيهقي التي أسندها إلى محمد بن إسحاق وفيها أن رسول الله أبلغ حذيفة بالمنافقين الذين حاولوا المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو عائد من تبوك، وفي الخبر قال: ادع عبدالله بن أبي وسعد أبي السرح، والروايات التي ذهبت إلى القول بأن إلى اعتبار سرية الخبط وأميرها أبو عبيدة بن الجراح، إنما وقعت في رجب سنة ثمان للهجرة[25].
ابن كثير والسيرة النبوية:
ليس ابن كثير فقيهًا مغمورًا خامل الذكر ولا هو ذاك المؤرخ غير المشهور الذي تجهل مكانته ولا تعرف مؤلفاته ولا هو ممن يحيط به طوق الإهمال والنسيان، فنحن أمام عالم موسوعي جمع بين العديد من العلوم والفنون وذاعت بعض كتبه خاصة التفسير وكتاب البداية والنهاية بين المسلمين قديمًا وحديثًا، كما كتب عنه عدد من الباحثين[26]، مما يجعلنا نقتصدُ في الترجمة لهذا العلم الموسوعي، والإمام المفسير المؤرخ.
ولد إسماعيل بن عمر بن كثير سنة سبعمائة أو بعدها بيسير، وقد عانى من اليتم منذ صغره حيث توفي والده سنة (703هـ)، نشأ بدمشق[27] وتتلمذ على يد مجموعة من علمائها من أبرزهم:
- كمال الدين ابن الزملكاني شيخ الشافعية بالشام (ت627هـ)[28].
- إبراهيم بن عبدالرحمن الفزاري (ت729هـ)[29].
- جمال الدين أبو الحجاج المزي (ت742هـ)[30].
- ابن تيمية تقي الدين أحمد بن عبدالحليم (ت728هـ)[31].
ورغم أن الغالب على الحياة العلمية والدراسات الدينية في بلاد الشام طابع التقليد ومحاكاة السابقين والعكوف على الشروح والمختصرات إلا أن تلك البلاد حظيت بوجود مدرسة حديثية جمعت بين الاتباع السلفي والعلم الراسخ والعقلية النقدية مثلها، الشيخ ابن تيمية والإمام المزي العالم المحدث ثم الذهبي وابن القيم وابن كثير نفسه، فتكون رحمة الله في ظل هذه المدرسة التي أثرت على تكوينه العلمي واتجاهات البحث عنده.
لازم ابن كثير والد زوجته الحافظ المزي[32] صاحب ابن تيمية والمحدث المشهور.
كما أخذ عن شيخه ابن تيمية وكانت له به خصوصية ومناضلة عنه واتباع له في كثير من آرائه[33]، وفي كتابه البداية والنهاية يبدو ابن كثير معجبًا بشيخه مسجلاً لكثير من مواقفه السياسية في حرب المغول وكذلك مواقفه في المسائل الدينية وخصوماته الحادة مع المخالفين[34]، ويذكر ابن شهبة (854هـ) أن ابن كثير كان يفتي برأي ابن تيمية في مسألة الطلاق وامتحن بسبب ذلك وأوذي[35].
يعد ابن كثير من فقهاء المذهب الشافعي وكذلك شيخاه المزي والذهبي بخلاف صاحبه ابن القيم (كما يصفه بذلك)[36].
وقد التفوا حول علامة السنة في وقته (ابن تيمية 661-728هـ) مما أزعج المذهبيين المتمسكين بالمذهب على حساب السنة والأثر، يتجلى ذلك في قول الشيخ عبدالوهاب السبكي (ت683هـ). صاحب طبقات الشافعية أن المزي والذهبي وكثيرٌ من أتباعهم أضر بهم ابن تيمية[37].
إن الخيط الذي جمع بين ابن تيمية وابن القيم الحنبليين والمزي والذهبي وابن كثير الشافعيين، ليس العامل الإقليمي، بل ارتباطهم بمدرسة الحديث والأثر التي ترى أن مصدر العقائد هو الكتاب والسنة، وهذه المدرسة هي التي منحت الذهبي وابن كثير تلك المنزلة والمكانة بين المؤلفين في السيرة والتاريخ فرأينا تميزًا نوعيًا في التأليف ومعالجات نقدية للروايات والآراء.
مارس ابن كثير التدريس في الجامع الأموي بدمشق وفي المدرسة النورية وفي عدة مساجد في دمشق وتولى مشيخة دار الحديث الأشرفية كما مارس الإفتاء والخطابة[38]، هذا إلى جانب النشاط التأليفي الذي يعد الظاهرة الأهم في حياة ابن كثير، حيث ألف وجمع العديد من المصنفات، التي يذكر بعض الباحثين أنها تربو على (60) كتابًا[39]. ومع كثرة مصنفاته إلا أن ما ناله من شهرة ومكانة إنما يرجع إلى كتابيه: تفسير القرآن العظيم والبداية والنهاية. وبعد حياة حافلة بالعطاء والإنتاج توفي ابن كثير في موطنه دمشق عام (774هـ)[40].
السيرة النبوية عند ابن كثير:
تعدُّ السيرة النبوية من الفنون الأساسية التي لا يستغني عن دراستها عالم أو فقيه، وفي نظر ابن كثير فإن الأيام النبوية مشتملة على علوم جمة وفوائد مهمة لا يستغني عنها عالم[41].
وما ذاك إلا لأن موضوع السيرة الجوهري هو تاريخ حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة مراحل دعوته وجهاده، وتعاليمه وهديه ومعلوم أن الفقيه أو العالم (الديني) يتعامل مع النصوص والأحكام التشريعية التي جاء بها محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ومن مهامه ووظائفه، فهم الشريعة، وشرحها للناس، وإنزال الأحكام الشرعية على الوقائع المتجددة والمتغيرة، ومن الوسائل والأدوات المعينة على ذلك فهم السيرة وواقعها التاريخي ومراحلها التي تزامنت مع نزول الأحكام والتشريعات.
فإذن لا غرابة أن يؤلف ابن كثير في السيرة النبوية، السيرة المطولة في البداية والنهاية والسيرة الموجزة وهي كتاب الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومسألة أخرى حدت بابن كثير إلى الاهتمام بالسيرة والتوسع فيها وتقصي رواياتها في كتابه الضخم (البداية والنهاية) فالمؤلف يرى في تاريخ السيرة واسطة عقد تاريخ الأمة المؤمنة التي يبدأ تاريخها منذ عهد آدم عليه السلام.
يضم كتاب ابن كثير البداية والنهاية سيرة مطولة، تضم السيرة بسياقها التاريخي المعروف ثم الشمائل والدلائل والفضائل والخصائص.
وقبل أن نبدأ في استعراض أهم عناصر هذه السيرة لابد من الإشارة إلى أن البداية والنهاية هو عبارة عن موسوعة تاريخية شاملة تؤرخ ببدايات الخلق ثم الأنبياء ثم السيرة التي استغرقت نحوًا من ستة أجزاء من الكتاب حسب طبعة مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر[42]، التي تضم (21) جزءًا بما فيها جزء الفهارس والجزءان (19 ،20) وقد خصصا (للفتن والملاحم وأشراط الساعة).
وقد جاء الكتاب ثمرة عوامل أثرت في مكوناته واتجاهه الموسوعي وطابعه العام ومنهجه التاريخي والنقدي ومن تلك العوامل:
- سعة اطلاع مؤلفه (ابن كثير) على كثير من المصادر ومنها دواوين السنة وكتب السير والمغازي وكتب الدلائل وكتب التاريخ العام.
- تأثر ابن كثير بمنهج مؤرخي الإسلام الذين كتبوا في التاريخ العام كابن جرير وابن الأثير وابن الجوزي.
- انتماؤه إلى عصر ساد فيه النمط الموسوعي في التأليف.
- إيمان ابن كثير بوحدة الأمة الإسلامية وإدراكه لأثر الرسالة المحمدية في الحركة التاريخية لهذه الأمة.
- انتماء المؤلف إلى مدرسة الحديث والأثر، حيث يتضح أثر خلفية المؤلف في الحديث وعلومه في جانب من أقسام الكتاب ومنها السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين، وتراجم العلماء والأئمة وآرائه في الرجال والآراء والمذاهب.
افتتح ابن كثير، قسم السيرة في البداية والنهاية بهذا العنوان "كتاب سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وذكر أيامه وغزواته وسراياه والوفود إليه، وشمائله وفضائله ودلائله الدالة عليه"[43].
فتبدأ بالنسب النبوي، وقد سرد ابن كثير مروياته ومقتبساته من مصادره المختلفة وفق نظام عرض تاريخي متدرج فانتقل من المولد ومتعلقاته إلى المبعث الذي عنون له هكذا:
(كتاب مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر شيء من البشارات بذلك)[44] ومما تناوله هنا أبواب بدأ الوحي ومجادلة المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم[45]، وهجرة من هاجر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة[46]، كما تناول بدء إسلام الأنصار[47] ثم الهجرة من مكة إلى المدينة[48] ووقائع السنة الأولى الهجرية[49].
وبعد ذلك انتقل إلى كتاب المغازي[50] في الأجزاء (5، 6، 7)، وتلا ذلك كتاب الوفود[51]، ثم كتاب حجة الوداع[52] وأخيرًا تناول الآيات المنذرة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم[53]، واحتضاره ووفاته عليه الصلاة والسلام وأعقب ذلك أبواب في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم[54] وخدامه وكتابه[55] وأبواب في آثار النبي صلى الله عليه وسلم وما اختص به من ثياب وسلاح[56]. وهكذا سار ابن كثير في ترتيبه للموضوعات التاريخية من السيرة على نمط من سبقه كابن إسحاق والواقدي والطبري وابن الأثير، واستفاد من البيهقي في تنظيم الأبواب[57]، علاوة على استفادته من مواده ونصوصه.
وفي الوقت الذي حافظ فيه على الوحدة الموضوعية لكل حادثة فإنه يُذكر بالسنة التي تندرج فيها الأحداث التي يسوقها، وذلك في الأحداث التي وقعت بعد الهجرة[58].
وبعد أن استعرض الموضوعات التاريخية والجوانب الأسرية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم تناول ابن كثير ما سماه بـ(متعلقات السيرة) وهي في مفهومه (الشمائل والدلائل والفضائل، والخصائص)[59] ثم ساق رواياتها وأبوابها.
وقد أشار في مفتتح كتاب الشمائل إلى أن أهم المصادر المصنفة في هذا الجانب، كتاب الشمائل للترمذي[60]، وعندما تناول الدلائل قسمها إلى دلائل معنوية ودلائل حسية.
فأما الدلائل المعنوية فتتمثل في القرآن الكريم[61]، وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وخلقه[62]، وهنا أحال إلى ما ذكره، ابن تيمية في الجواب الصحيح من أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وأقواله وأفعاله من آياته أي من دلائل نبوته ونقل منه ثماني صفحات حول هذا الموضوع[63].
ثم انتقل إلى دلائل النبوة الحسية وقد قسمها إلى قسمين: سماوية وأرضية، فمن الدلائل السماوية وأعظمها انشقاق القمر فرقتين[64].
كذلك ذكر من آياته السماوية استسقاؤه عليه الصلاة والسلام ربه لأمته[65]، ثم تناول المعجزات الأرضية سواءً ما يتعلق بالجمادات أو الحيوانات[66].
ثم تناول ابن كثير ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده فوقعت طبق ما أخبر به سواءً بسواء[67]، وقد أورد أولاً ما جاء من هذا القبيل في القرآن ثم انتقل إلى الأحاديث والآثار ثم تناول الأخبار بالغيوب المستقبلة موردًا أخبارًا كثيرة أيضًا تندرج تحت هذا الموضوع، ثم عقد ابن كثير بابًا طويلاً عنوانه: (التنبيه على ذكر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء قبله أو أعلى منها خارجًا عما اختص به من المعجزات العظيمة التي لم تكن لأحدٍ قبله منهم عليه السلام).
ويقوم هذا الكتاب على الموازنة بين معجزات الأنبياء السابقين ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم ويعكس ذلك تأثره بكتاب الدلائل النبوية كأبي نعيم الأصبهاني[68] وابن حامد أبو محمد عبدالله بن حامد الفقيه صاحب كتاب دلائل النبوة[69].
وأخيرًا يختم ابن كثير سيرته بقصيدة لجمال الدين يحيى بن زكريا الصرصري (ت656هـ) في الموازنة[70] بين معجزات الأنبياء والسابقين ومعجزات محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي ثنايا سيرة ابن كثير تلك ثمة مظاهر تكشف لنا عن طبيعة هذه السيرة وسماتها العامة ومن ذلك جمع الروايات من مصادر مختلفة وتقصي ما ورد في كل موضوع من موضوعات السيرة، وشمولية هيكل السيرة عنده وعدم اقتصاره على الموضوعات التي شكلت الهيكل الأساسي للسيرة عند كتاب السير الأوائل.
كما يظهر في سيرة ابن كثير نقد الأسانيد والمتون كأحد المظاهر المميزة لهذه السيرة (وسوف نتناول ذلك لاحقًا).
لا يقتصر التأليف في السيرة عند ابن كثير على السيرة في البداية والنهاية فهناك كتاب (الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم) وهو كتاب مختصر موجز قياسًا إلى السيرة الواردة في البداية والنهاية، وقد صنفه لشعوره بحاجة أهل العلم لمعرفة الأيام النبوية والتواريخ الإسلامية كما يبدو أن هذه السيرة جزءٌ من مشروع لعرض التاريخ الإسلامي بصورة موجزة، هذا ما يبدو لنا من قول ابن كثير: "إنه لا يجمل بأولي العلم إهمال معرفة الأيام النبوية والتواريخ الإسلامية وهي مشتملة على علوم جمة وفوائد مهمة لا يستغني عنها عالم ولا يعذر في العرو منها وقد أحببت أن أعلق تذكرة في ذلك لتكون مدخلاً إليه وأنموذجًا وعونًا له وعليه، وهي مشتملة على ذكر نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرته وأعلامه وذكر أعلام الإسلام بعده إلى يومنا هذا"[71].
- لقد طبعت هذه السيرة في القاهرة سنة 1357هـ تحت عنوان (الفصول في اختصار سيرة الرسول) دون تحقيق، ثم طبع الكتاب محققًا على يد محمد العيد الخطراوي، ومحي الدين مستو، بيروت، 1399هـ، ثم توالت طبعات هذا الكتاب.
وأخرج عدد من الباحثين موضوعات الأنبياء والسيرة بما فيها الشمائل من البداية والنهاية في كتب مستقلة.
فقد عمد مصطفى عبدالواحد إلى البداية والنهاية وحقق قسم السيرة في أربعة أجزاء ويذكر أنَّه اتجه إلى نشر السيرة النبوية لابن كثير، وهي ذلك القسم الذي أفرده ابن كثير لأخبار العرب في الجاهلية وسيرة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وتاريخ دعوته حتى وفاته، على اعتبار أن هذا القسم هو السيرة النبوية (المطولة) التي أشار إليها ابن كثير في تفسيره[72].
وفي رأي (إسماعيل عبدالعال) فإن هذا الكتاب المحقق ليس هو الذي أفرده ابن كثير في السيرة، وعبارته واضحة حين قال: "أفردناه موجزًا وبسيطًا وإذا كان الموجز منهما مستقلاً عن البداية والنهاية فإن البسيط يكون كذلك"[73].
ونميل إلى القول بأن كتاب ابن كثير المفرد في السيرة والذي من سماته الإيجاز والتبسيط كما يقول ابن كثير[74] هو الفصول في سيرة الرسول ولعل مما يقوي ذلك أنه ورد في بعض طبعات التفسير المحققة قول ابن كثير: (الذي أفردناه موجزًا ومقتصًا)[75] والإيجاز والاقتصاص إنما ينطبقان فقط على كتاب الفصول وقد راجعت ثلاث طبعات للتفسير[76] إلا أنها لم تورد عبارة مطولة في وصف كتابه المفرد في السيرة وفي ثنايا كتاب البداية والنهاية وعندما يحيل ابن كثير إلى السيرة فمرادُه ذلك القسم من البداية والنهاية، ومن صور إحالاته إليه قوله: (كما سيأتي في بيان ذلك في السيرة) و(كما ذكرنا في السيرة وذكرنا بأسانيده في أول السيرة) و(تقدم بسطه وبيانه في أول السيرة)[77].
كذلك نرجح أن يكون كتاب السيرة الذي خضع للإيجاز والاقتصاص هو كتاب السيرة الوارد في البداية والنهاية المتسم بطوله وجامعيته وشموله لجوانب السيرة كافة والمستوعب للروايات والآراء في مجال السيرة الجامع بين هيكل السيرة التاريخي وهيكلها عند كُتَّاب الشمائل والدلائل.
كذلك أخرج مصطفى عبدالواحد شمائل الرسول ودلائل نبوته وفضائله وخصائصه في كتاب مستقل[78]، وكذلك فعل (عبدالقادر الأرنؤوط)[79]، وهناك باحثون ومحققون آخرون[80] أخرجوا أقسامًا من السيرة والمعجزات من البداية والنهاية وتلك المستخرجات وغيرها تتفاوت في مدى عنايتها بالأخبار والروايات التي يوردها ابن كثير وفي مدى وفائها بمتطلبات المنهج العلمي المتبع في أعمال التحقيق ومدى تمكن أولئك المحققين من تجاوز المرحلة الأولية المطلوبة في التحقيق أي تجاوز مجرد وضع المقدمات والفهارس العامة.
مراجعات ابن كثير ونقده:
يسير ابن كثير في سيرته على منهج جامعي الروايات من مختلف الموارد، أولئك الذين يروون في تصانيفهم جميع ما يروى في الباب أو الموضوع.
وعند تشخيص أصول روايات ابن كثير نجد أنها تنتمي إلى مجموعة من المصادر المتنوعة فمنها مصادر عرفت بمنهجيتها الدقيقة وتمحيصها للروايات كالصحيحين للبخاري ومسلم، وفيها مصادر لا تخلو من روايات ضعيفة وأحاديث قال بعض العلماء بوضعها كالمسند للإمام أحمد وهو من أهم مصادر ابن كثير[81]، وهناك مصادر من كتب الدلائل[82] حملت روايات موضوعة واهية ومثلها كتب الهواتف[83] وكتب الفتن[84] والملاحم.
أضف إلى ذلك كتب المغازي والسير وفيها المراسيل والمنقطعات وفيها ما ورد بدون إسناد، وبين ما جمعه ابن كثير آراء وأقوال لبعض كتاب السيرة والدلائل وغيرهم، وإزاء هذه الروايات والنقول كان لابد أن يُعنى ابن كثير بنقدها سندًا ومتنًا، ومجال دراستنا تلك إنما هو نقد المتن عند ابن كثير مع أن نقد الإسناد ودراسته وهو النقد الخارجي ليس مقطوع الصلة بالنقد الداخلي (نقد المتن) فاشتراط ضبط الراوي إنما يراد به صيانة متن الحديث، والوقوف على المتن ومعرفة سلامته أو نكارته سبيل للتحقق من ضبط الراوي[85]، ودُرَّاس رجال الأسانيد ركزوا على قضايا في شخصياتهم لها أثر على ما يروون، فتناولوا مسألة ضبط الراوي ويقظته، ورسوخ ما حفظ في ذاكرته، ونظروا إلى مجموعة من الاعتبارات الموضوعية، لا مجرد هيئة الراوي وعبادته ومن تلك الاعتبارات الخصائص الذهنية التي أشرنا إليها ومدى دقة الراوي وأهليته لحمل الرواية وكذلك اتجاهاته السياسية والفكرية، ولعل مما يعبر عن ذلك ما ورد عن الإمام مالك بن أنس وهو قوله: "لا يؤخذ العلم عن أربعة ومنهم رجل له فضل وصلاح وعبادة لا يعرف ما يحدث"، وروي عنه قوله أدركت عند هذه الأساطين سبعين (وأشار إلى مسجد رسول الله) كلهم يقولون: قال رسول الله: فما أخذت عنهم شيئًا وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أمينًا إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن[86].
لقد أخضع ابن كثير قدرًا من رواياته في أبواب السيرة للمراجعة والنظر ومن جوانب تلك المراجعات شرح وتوضيح ما يحتاج إلى توضيح والتعقيب على ما يحتاج إلى تعقيب وشرح الألفاظ الغريبة في المتن ومن ذلك على سبيل المثال ما ورد في رواية ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يقض عني ديني ويكون خليفتي في أهلي) قال ابن كثير مفسرًا وشارحاً لذلك القول: يعني إذا مت وكأنه خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه[87].
كذلك وضح ابن كثير معاني بعض الألفاظ الواردة في باب كيف بدأ الوحي[88] وشرح غريب حديث أم معبد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم[89].
وفسر ما ذهب إليه ابن إسحاق من أن عدد المسلمين في الحديبية (700)[90] – مخالفاً بذلك الروايات الصحيحة – حيث أرجع ابن كثير ذلك إلى أن ابن إسحاق تبنى ذلك الرأي اعتماداً على أن عدد البدن (70) وكل منها عن عشرة على اختياره، وعقب على ذلك، بالقول إنه لا يلزم أن يكون كل من حضر الحديبية قد أهدى وأنهم جميعًا كانوا محرمين[91].
إن مفهوم المراجعة يشمل صورًا عدة منها الشرح وتوضيح النص وتفسير اللفظ الغريب وغير ذلك من الصور، لكن أهم صور المراجعات ما يتصل بنقد مضمون المتن[92] ومحتواه فهو جهد دال على عقلية الناقد وتميزه واستيعابه لعلوم كثيرة وتجاوزه لدور الناقل الذي تغيب شخصيته وراء الأسانيد والمتون حيث راجع ابن كثير متون مرويات كثيرة مبديًا ملحوظاته عليها.
ومن ذلك على سبيل المثال مراجعة رواية ابن جرير في إسلام سعد بن أبي وقاص وفيها أن محمد بن سعد بن أبي وقاص سأل والده أكان أبو بكر أولكم إسلامًا؟ قال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين[93]. وما ورد في تفسير قول عمرو بن عبسة السُلمي لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم من معك على هذا فقال: حر، وعبد، حيث فسر بعض الرواة قوله حر وعبد بأبي بكر وبلال رضي الله عنهما، وهو تفسير فيه نظر (عند ابن كثير) فقد أسلم جماعة قبل عمرو بن عبسة، كذلك راجع ابن كثير قول عمرو بن عبسة كما في الرواية (لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام) وذكر أن المسلمين كانوا آنذاك يستسرون بإسلامهم لا يطلع على أمرهم كثيرًا أحد من قراباتهم دع الأجانب، دع أهل البادية الأعراب والله أعلم[94].
ومن الروايات التي راجعها ابن كثير ونقدها رواية ابن إسحاق في هجرة أبي موسى الأشعري[95]، وخبر المؤاخاة بين النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب[96]. والمؤاخاة بين جعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل[97]، وكون غزوة ذات الرقاع قبل الخندق عند بعض كتاب المغازي والسير[98]، وما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن في حجة الوداع خشية أن يصد عن البيت، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حج وأصحابه مشاةً من المدينة إلى مكة قد ربطوا أوساطهم[99] ومشيهم خليط من الهرولة ورواية أسماء بنت عميس في رد الشمس لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه -[100].
وانتقد روايات وأقوالاً أوردها بعض كُتاب المغازي والسير مثل خبر تأخر هجرة سعد بن أبي وقاص إلى المدينة عند موسى بن عقبة[101] وخبر عروة في أنّ عثمان هو الذي زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خبر غريب – في رأي ابن كثير – لأنَّ عثمان كان قد رجع إلى مكة قبل ذلك ثم هاجر إلى المدينة وصحبته زوجته رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم[102].
كذلك صحح ما ذهب إليه محمد بن إسحاق من أنّ سورة الضحى أول السور نزولاً بعد فتور الوحي للمرة الأولى وذكر أن الصواب سورة المدثر وإنما نزلت سورة الضحى بعد فترة أخرى[103].
وصوب ابن كثير ما ذكره ابنُ إسحاق من أنّ هرقل اسم للملك عند الروم فذكر أنَّ اسم الملك عندهم قيصر[104] كذلك رد قول من زعم أن عمر بن الخطاب عندما أسلم كان تمام الأربعين من المسلمين حيث سبقه المهاجرون إلى الحبشة وكانوا فوق الثمانين[105]، وصوب وناقش آراء مجموعة من كتاب السيرة النبوية مثل ابن هشام (ت218هـ)[106] وأبو نعيم (ت430هـ)[107] والبيهقي (ت458هـ)[108] والسهيلي (ت581هـ)[109] والقاضي عياض (ت544هـ)[110]. هذا إلى جانب عدد كبير من الرواة والمحدثين والمؤرخين وقد لفت نظره انسياق بعضهم إلى جمع الروايات دون تمييز بين صحيحها وسقيمها وخص بذلك أبا جعفر الطبري (ت310هـ)[111] وابن عساكر علي بن الحسن بن هبة الله (ت571هـ) يقول عن الأخيرة: "العجب من الحافظ ابن عساكر مع جلالة قدره واطلاعه على بضاعة الحديث أكثر من غيره من أبناء عصره بل ومن تقدمه كيف يورد هذا وأحاديث كثيرة من هذا النمط ثم لا يبين حالها ولا يشير إلى شيء من ذلك إشارة لا ظاهرة ولا خفية))[112].
لم تقتصر تعقيبات ابن كثير ومراجعاته على ما يرويه كتاب السيرة والمغازي وما يذكره المؤلفون والمصنفون في هذين الفنين، بل انتقد وراجع متونًا وردت في مصنفات حديثية، ومنها نصوص وردت في البخاري ومسلم أو أحدهما، كرواية شريك بن عبدالله في الإسراء[113] وما رواه مسلم من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه أنّ المسلمين – كانوا يوم هوازن (حنين) ستة آلاف، وإنما كانوا اثني عشر ألفًا[114] ورواية أبي هريرة في بدء الخلق[115] والتي أخرجها مسلم[116] وغيره، وهي رواية يرى بعض الأئمة أنها متلقاة عن كعب الأحبار ومما يقدح فيها أنه ليس فيها ذكر خلق السموات وفيها ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام وهذا خلاف ما جاء في القرآن لأن الأرض خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السموات في يومين[117].
تأتي مراجعات ابن كثير لمتون هذه الروايات وغيرها تجسيداً لمقولة (صحة السند ليست موجبة لصحة الحديث)، يقول ابن كثير نفسه: (والحكم بالصحة أو الحسن على الإسناد لا يلزم منه الحكم بذلك على المتن إذ قد يكون شاذاً أو معللاً)[118] وفي تعقيبه على إحدى الروايات يذكر أن (هذا الإسناد جيد قوي لكن فيه نكارة من جهة قول الراوي)[119].
ويبدو أن مكانة الصحيحين مما جعل ابن كثير – رحمه الله – يحاول توجيه بعض المآخذ إلى بعض الروايات التي أشكلت على العلماء وهي قليلة في الصحيحين ومن ذلك متن حديث شريك بن عبدالله بن أبي نمر عن أنس في الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم والعروج به.
فعند قوله:
"إنَّه جاءه ثلاث نفر وذلك قبل أن يوحى إليه"، وظاهر هذا الكلام يخالف ما عرف من أن الإسراء بعد البعثة النبوية. قال ابن كثير معلقًا على ذلك: الجواب أن مجيئهم أول مرة، كان قبل أن يوحى إليه فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شيء ثم جاءته الملائكة ليلة أخرى بعدما أوحى إليه فكان الإسراء قطعاً بعد الإيحاء[120].
وفي قوله: (ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى) يذكر أَنَّ ذلك من فهم الراوي وقد أقحمه في الرواية[121].
وفي قوله رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر) قال ابن كثير: إن ذلك معدود في غلطات شريك أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة كما سيأتي في حديث عائشة[122].
ومن ذلك أيضاً رواية ابن عباس في مسلم وفحواها أن أبا سفيان عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان[123].
ومعلوم أن أبا سفيان إنما أسلم عام الفتح وقد جاء إلى المدينة قبيل الفتح وهو على الشرك وهي عند النبي صلى الله عليه وسلم كما إن أم حبيبة تزوزجت النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وبعد وفاة زوجها عبيد الله بن جحش بأرض الحبشة.
وهذه الرواية من الأحاديث المشهورة بالإشكال كما يقول النووي[124] (ت676هـ)، لدرجة أن ابن حزم زعم أن عكرمة بن عمار وضعه.
قال ابن كثير: وهذا القول منه لا يتابع عليه وبعد أن أورد أقوالاً في توجيه الرواية خلص إلى أنّ الأحسن في هذا أنه أراد أن يزوجه ابنته الأخرى عزة لما رأى في ذلك من الشرف له، واستعان بأختها أم حبيبة كما في الصحيحين، وإنما وهم الراوي هذا بتسمية أم حبيبة[125].
وللموضوع تتمة