قال العلامة المعلمي رحمه الله

كثر هذه الأيام تحكُّكُ المتفرنجين بالمسائل الدينية وتوثُّبُهم عليها، والذي يسوء الحق إنما هو أن يتصدى الإنسان للتحكُّم في فنًّ هو فيه أمّي أو تلميذ صغير.
إن العاقل الذي لا حظَّ له من الطب إلا مطالعة بعض الكتب، لَيحجزه عقلُه عن التطبب، وهكذا عامةُ الفنون يمتنع العاقل أن يتحكم في فنًّ منها ليس فنَّه.

ولكن الدين شذَّ عن هذه الكلية، فلا تكاد تجد أحدًا يعترف أو يعرف أنه ليس ممن يحقُّ لهم الكلامُ فيه.
يقولون: إنها حرية الفكر! حبَّذا حرية الفكر، ولكن
أَمِن حرية الفكر أن يصمد الإنسان لقضيةٍ لم يُتقِن أصولهَا، ولا أسبابها وعللها، ولا غوامضها ودقائقَها، فيعبّر فيها على ما خيلت؟

إن حقًّا على العاقل إذا أحبَّ أن يكون حرَّ الفكر أن يختار له موضوعًا ينفذ فكرُه إلى أعماقه، ويتغلغل في دقائقه.

افرِضْ أنك طبيب، وأنا اعترضك بدويٌّ يناقشك في أصول الطب، أو أنك عارف بعلم الفلك الحديث، وعرضَ لك عاميٌّ ينازعك فيه، وكلاهما - البدوي والعامي - لا يُصغِي إليك حتى توضح له الحجج، أو لا يستطيع في حاله الراهنة أن يفهمها, لأنه لم يتعلم مقدمات ذلك الفن، ولكنه مع ذلك يجزم بما ظهر له، ويرميك بالجهل والغفلة، فهل تعدُّه حرَّ الفكر؟

لقد بلغ بالناس حبُّ الاشتهار بحرية الفكر إلى أن أغفلوا النظر في صواب الفكر وخطائه، وأصبحت حرية الفكر مرادفةً للخروج عما كان عليه الآباء والأجداد.

ولقد يعلم أحدهم أن ما كان عليه آباؤه وأجداده هو الصواب، ولكن شغفه بأن يقال حرَّ الفكر يضطرُّه إلى مخالفته.
فهل يستحق مثل هذا أن يقال له حرَّ الفكر؟
وكثير منهم يدع تقليد أسلافه ويقلِّد بعض الملحدين، فهل خرج هذا من الرقِّ إلى الحرّية؟ كلَّا، بل خرج من رقًّ إلى رقًّ.

حرُّ الفكر هو الذي يُطلِق فكره حيث يستطيع الانطلاق ويكفُّه حيث يحبّ الانكفاف.
حرُّ الفكر هو الذي يحرِصُ على الحق أينما كان، فإذا ظهر أن الحق هو ما كان عليه أسلافه لزِمَه، ولم يُبالِ بأن يقال: جامد مقلِّد.
حرُّ الفكر هو الذي يحرِص على الثبات على المبدأ الذي كان عليه أسلافه، حتى تقهره الحجة الواضحة.


أمامنا من تلك المسائل مسألة تعدد الزوجات، مسألة معلومة من دين الإِسلام بالضرورة، بل ومن الفطرة ومن المصلحة، ثم لا يزال بين حينٍ وآخر يخوض فيها عاشق من عشاق الشهرة بحرية الفكر، وهو عبد من عبيد الإفرنجيّات، اللاتي تُؤثِر إحداهن أن يبقى بَعلُها مضطرًّا إلى مخادنة العواهر، حتى يضطر إلى السماح لها بمخادنة الفجار، وترى أنه لو أبيح له تعدد الزوجات قد يستغني عن الزنا، فلا يبقى مانعٌ يمنعه من مراقبتها ومنعها عن الفجور بمقتضى الغيرة الطبيعية.
كما أن
رجال الإفرنج بعد أن ألِفوا الزنا يُعادون تعددَ الزوجات، لعلمهم أن القانون إذا أباح التعدُّدَ قلَّ أنصار الزنا وكثُر خصومُه، وضعفت الشبهات التي بُني عليها إباحتُه وإباحةُ مقدماته من الرقص والخلوة والاختلاط المريب.
ولقد يكتب الكاتب خلاف تعدد الزوجات، لعداوته للدين أو لعداوته للأمة، فهو لا يحب لها شرفَ الأخلاق، أو ليرخّص بذلك المتبرِّجات من النساء ليكون له نصيبٌ من قلوبهن ثم مِن وأخفُّهم ذنبًا مَن يكون قليل المعرفة بالدين، قاصر النظر في مصالح العباد، ضعيف الباه، فينظر هذا إلى ما في تعدد الزوجات من النقائص، ولا يلتفت إلى ما في منعه من المفاسد.


منتقى من
اثار العلامة المعلمي
الرسالة الخامسة والثلاثون
الفوضى الدينية وتعدُّد الزوجات