مبحث في القدر
2015-01-09

قد دل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة المطهرة وإجماع سلف الأمة على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه من أصول الإيمان الستة التي لا يتم إسلام العبد ولا إيمانه ولا يقبل منه عمله ولا ينجو من النار إلا بالإيمان به والآيات في ذلك معلومة منها:
قال تعالى ﴿وخلق كل شيء فقدره تقديرا﴾
وقال سبحانه ﴿إنا كل شيء خلقناه بقدر﴾
وقال تبارك اسمه ﴿وكل شيء فعلوه في الزبر﴾ وقال عز وجل ﴿وكل صغير وكبير مستطر﴾
وقال تعالى ﴿سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى﴾

ومن صحيح السنة ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ لما سأله جبرائيل عليه السلام عن الإيمان قال ﷺ "أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر"
وخرّج مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام سأل النبي ﷺ عن الإيمان فأجابه بقوله "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"
فقال جبريل: صدقت .


وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الإيمان بالقدر يجمع أربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله تعالى علم الأشياء كلها قبل وجودها بعلمه الأزلي فعلم ذواتها وكيفياتها ومقاديرها وأزمانها وآجال العباد وأرزاقهم وغير ذلك وخواتيمهم ومستقرهم .
كما قال تعالى ﴿إن الله بكل شيء عليم﴾
وقال سبحانه ﴿وأن الله قد أحاط بكل شيء علما﴾ وقال تعالى ﴿ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما﴾ .
الثاني: كتابته سبحانه لجميع الأشياء من خير وشر وطاعة ومعصية وعمل وأجل ورزق وشقاوة وسعادة وغير ذلك كما قال تعالى ﴿ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماوات والأرض إن ذلك في كتاب﴾ وقال تعالى ﴿وكل شي فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر﴾ وقال ﴿وكل شي أحصيناه كتابا﴾ وقال ﷺ "كان الله ولم يكن شي قبله وكتب في الذكر كل شي" وقال: "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب.
قال: وما أكتب؟
فقال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فجرى بذلك قبل خلق السماوات والارض بخمسين ألف سنة" .

الثالث: أنه لا يوجد شيء بغير علمه ولا في ملكه سبحانه شيء لا يريده ولا يقع شيء في السماء والأرض إلا بمشيئته قال تعالى ﴿فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء﴾
وقال سبحانه ﴿من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم﴾
وقال سبحانه ﴿ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون﴾
الرابع: أن الله تعالى هو الخالق الموجد لجميع الأشياء -بقدرته وإرادته وحكمته- من ذوات وصفات وأفعال فالجميع خلق الله تعالى وكل حادث ممكن أو ممتنع فإنه واقع بمشيئته وقدرته وله الحكمة في ذلك.

***مسألة***
تفصيل القول في طاعات العباد ومعاصيهم:
فطاعات العباد ومعاصيهم كلها مخلوقة لله تعالى قال تعالى ﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ وأفعالهم تنسب إليهم فيستحقون الثواب على طيبها والعقاب على خبيثها فإن الله تعالى قد خلقهم فأحسن خلقهم فأوجد فيهم الإرادات والقدر ووهبهم العقول وهداهم بالشرع فبالشرع يبصرون وبالإرادات يختارون وبالقدر يفعلون وقد أوضح الله لهم الحجة وأقام الدليل وبين السبيل ورغب في الخير ورهب من الشر ولم يؤاخذ على الخطأ والنسيان ولا الإكراه وشرع التوبة وكثر أسباب المغفرة فأوجدهم سبحانه وأعدهم أي هيأهم لما خلقهم له فمن شاء أمده فضلاً فوفقه لقبول الهدى وتحقيق العلم بالعمل إهتداءاً، ومن شاء وكله إلى نفسه عدلاً فأعرض عن الهدى أو ضل بعد الإهتداء فإنه تعالى يفعل ما يشاء ولا يظلم ربك أحداً فمن اهتدى فبفضل الله عليه ومن ضل فبعدل الله فيه ولا حجة له بل الحجة عليه والحكمة بالغة فيه فالعبد فاعل حقيقة وله مشيئة بها اختار وقدرة بها فعل والله تعالى خالقه وخالق مشيئته وقدرته وبالتالي فهو خالق لفعله لأنه خلق الأسباب التي بها فعل وهي الارادات والقدر.

فمن آمن فإنما آمن بمشيئة الله وإرادته الكونية وقد وافق بإيمانه وعمله الإرادة الدينية الشرعية فوافق ما شاءه الله وأراده كوناً وفعل ما أراده الله منه وأحبه شرعا.
ومن كفر او عصى فإنما كفر وعصى بمشيئة الله وإرادته كوناً وتخلفت عنه الإرادة المحبوبة شرعاً لكونه لم يأت بمرادها وهو الإسلام والطاعة فلا يخرج شيء من أفعال العباد وحركاتهم ولا غيرهم عن علم الله تعالى وكتابه ولا عن مشيئته وقدرته وخلقه بل علم الله تعالى شامل وكتابه سبحانه محيط بكل شيء ومشيئته نافذة وقدرته كاملة وهو خالق كل شيء ولا يخفى عليه شي ولا يعجزه شيء ولا يفوته أحد ، ولا يمتنع منه شيء ، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد فهو الخالق وما سواه مخلوق فالعرش وما دونه من الموجودات كلها وجدت بمشيئته وقدرته فهي ملكه والسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من المخلوقات مماليك له داخلون في مملكته وهم جميعاً تحت تصرفه وقهره فلا شريك له في ملكه ولا منازع له في سلطانه ولا أحد يخرج عن قبضته فلا خالق غيره ولا مالك إلا هو ولا مدبر معه ولا إله غيره ولا معبود بحق سواه.

فأعمال العباد مخلوقة لله تعالى لكونه خالقاً لهم وللإرادات والقدر فيهم التي هي أسباب وأدوات أعمالهم، والأعمال فعلها وتركها وخيرها وشرها وظاهرها وباطنها مفعولة لهم لكونها واقعة بعلمهم وقصدهم واختيارهم وقدرتهم فمن عمل الخير عن علم وقصد واختيار وقدرة كان أهلاً للثواب ومن عمل الشر عن علم وقصد واختيار وقدرة كان محلاً للعقاب ، فكان إبتلاء الله تعالى لهم بأن غيب عنهم القدر وكلفهم بالشرع ويسر ومنحهم الإرادات والقدر لينظر كيف يعملون وليوفيهم جزاء ما كانوا يعملون فيتجلى فضله على من أطاعه وعدله أو عفوه فيمن عصاه فصدق فيهم علمه وظهرت فيهم حكمته.

***مسألة***

كل نفس منفوسة علم الله تبارك وتعالى بعلمه السابق سعادتها أو شقاوتها وكتب ذلك في الذكر قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ثم حين استقرت نطفة في رحم أمها كتب ذلك بشأنها قبل خلقها وكل ذلك بعلم منه سبحانه وقدرة ومشيئه ولحكمه فإن حصل نوع لبس في فهم ذلك أو شبهة فالجواب:

أولا: إنه ليس شيء إلا خلق الله وملك يده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .

ثانيا: أن الله تعالى جعل كلاً ميسراً لما خلق له مكلفاً بالعمل منتهياً به عمله إلى ما سبق به علم الله عز وجل ليس مجبوراً ولا مضللاً بل مهدياً شرعاً وممكّناً مهيّئاً بإرادة يختار بها وقدرة يفعل بها وحجب عنه علم القدر ليظهر إختياره وفق الشرع فمن اتقى يسر له ومن اختار الشقاء يسر له.

ثالثا: أن لله تعالى بذلك الحجة البالغة على خلقه قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين.
أي: الحكمة التامة والحجة البالغة في هداية من اهتدى وإضلال من ضل والكل بقدرته ومشيئته واختياره وهو مع ذلك يرضى لعباده الشكر والتوحيد ولا يرضى لعباده الكفر والتنديد.

رابعا: أن القدر سر الله في خلقه لا يجوز المراء فيه ولا السؤال عنه فإن ذلك -أي السؤال عنه- ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان وأصله وسوسة الشيطان .

***مسألة***

ذم السلف للقدرية
في سنن أبي داود بإسناد حسنه الألباني في ظلال الجنة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ "القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم"
وجاء بهذا المعنى آثار موقوفة على الصحابة من قولهم وكذا من كلام التابعين وأتباعهم من السلف.

وممن رد على القدرية ابن عمر وابن عباس ونحوهما من أصاغر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين الذين حدثت البدعة في زمانهم
وهكذا كلما أظهر الشيطان بدعة أقام الله لها من حزبه وجنده من يردها ويفند شبهات دعاتها ويحذر المسلمين منها نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأهل الإسلام.

***مسألة***
في طوائف القدرية

القدرية عند السلف أهل السنة والجماعة اسم ووصف يطلق على كل من خاض في القدر بجهل أو هوى فأحدث فيه مخالفة للكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من الامة واشتهر بها وأُخذت عنه فنسبت ونسب من قال بها إليه وهم طوائف:

الطائفة الأولى:
النفاة نفاة العلم معبد الجهني ومن وافقه القائلون بالبدأ أي : أن الله تعالى لا يعلم الاشياء إلا بعد وقوعها فالأمر عندهم أُنف أي مستأنف ومعنى ذلك انكارهم لعلم الله بالاشياء قبل كونها وكتابته لها من باب أولى وهؤلاء كفرهم أئمة السلف لجحدهم صفة من صفات الله تعالى وهي العلم، وهؤلاء اضمحلوا وانقرضوا.

الطائفة الثانية:

طوائف القدرية الباقون ثلاث:
الأولى: النفاة المجوسية الذين ينفون مشيئة الله وخلقه لأفعال العباد وهم المعتزلة .
الثانية: المحتجون بالقدر على باطلهم الذين قالوا ﴿لو شاء الله ما أشركنا﴾ وهم المشركية المعارضون للشرع بالقدر.
الثالثة: الإبليسية المخاصمون للرب بالقدر المحتجون بالقدر على الشرع وشيخهم إبليس المصر على الذنب المستكبر على ربه.

أملاه: الشيخ عبدالله بن صالح القصير