قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر:

أنا أبو الفضل محمد بن حمزة بن إبراهيم الفزاري، أنا والدي الشيخ العالم أبو يعلى حمزة بن إبراهيم، ثنا الشيخ إسماعيل بن موسى النفيلي، ثنا الشيخ أبو بكر محمد بن نصر، ثنا أبو محمد بن أحمد الخطيب

قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن شاكر، يعني: في كتابه مناقب الشافعي
وقال: سمعت المزني
قال: دخلت على الشافعي، رضي الله عنه، عند وفاته
فقلت له: كيف أصبحت يا أستاذ؟

فقال: أصبحت من الدنيا راحلا، ولإخواني مفارقا، وبكأس المنية شاربا، وعلى الله و
اردا، ولسوء أعمالي ملاقيا، فلا أدري نفسي إلى الجنة تصير فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها
فقلت: عظني

فقال لي: اتق الله، ومثِّل الآخرة في قلبك، واجعل الموت نصب عينيك، ولا تنس موقفك بين يدي الله، وكن من الله على وَجَلٍ، واجتنب محارمه، وأد فرائضه، وكن مع الله حيث كنت
ولا تستصغرن نعم الله عليك، وإن قَلَتِ، وقابلها بالشكر، وليكن صمتك تفكرا، وكلامك ذكرا، ونظرك عبرة، واعف عمن ظلمك، وصل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، واصبر على النائبات، واستعذ بالله من النار بالتقوى

فقلت: زدني، فقال: ليكن الصدق لسانك، والوفاء عمادك، والرحمة ثمرتك، والشكر طهارتك، والحق تجارتك، والتودد زينتك، والكياسة فطنتك، والطاعة معيشتك، والرضا أمانتك

والفهم بصيرتك، والرجاء اصطبارك، والحق جلبابك، والصدقة حرزك، والزكاة حصنك، والحياء أميرك، والحلم وزيرك، والتوكل درعك، والدنيا سجنك، والفقر ضجيعك، والحق قائدك، والحج والجهاد بغيتك، والقرآن محدثك، والله مؤنسك، فمن كانت هذه صفته كانت الجنة منزلته، ثم رمى بطرفه نحو السماء، واستعبر وأنشأ، يقول:

إليك إله الحق أرفع رغبتي *** وإن كنت يا ذا المن والجود مجرما
فلما قسى قلبي، وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلت ذا عفو عن الذنب *** لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما
فلولاك ما يغوى بإبليس عابد *** فكيف، وقد أغوى صفيك آدما
فإن تعف عني تعف عن متمرد *** ظلوم غشوم ما يزايل مأثما
وإن تنتقم مني فلست بآيس ***ولو دخلت نفسي بجرمي جهنما
وجرمي عظيم من قديم وحادث **** وعفوك يا ذا العفو أعلى، وأجسما

تاريخ دمشق لابن عساكر ج53 ص
431 من الشاملة