قبض على مسلم وسيق إلى المحاكمة. وكان ثبات ذلك الرجل أمام هيئة المحكمة مما دعا إلى زيادة حفيظتهم عليه والمبالغة في تعذيبة.
جيء بذلك الرجل أمام المحكمة، فقال رئيس المحكمة لجنود التفيش:
ضعوا الحديد في أصابعه الآن وقدموه إلينا. ففعلوا.
ثم جيء بذلك المسكين أمام المحكمة وقد أعياه الألم فسقط مغشيا˝ عليه.
فقال الرئيس:
- أوقفوه.
فأجاب أحد الحراس:
- إنه لا يقوى على الوقوف.
فقال رئيس المحكمة:
- إذا˝ فضعوه في التابوت فإنه يقف فيه.
فوضعوه في التابوت وهو صندوق مربع فيه مسامير من الداخل، فاضطر المعذب أن يقف رغم ما به من إعياء وضعف، ثم رفعوا الكمامة التي كانت على فمه ليتمكن من الإجابة على الأسئلة، وعندها تنفس المسكين الصعداء طويلا˝.
فأمر الرئيس بأن يسقوه قليلا˝ من الخمر. فلما شرب قليلا˝ منها تفتحت عيناه وحدث عنده شيء من الانتعاش، وفحصه الطبيب حتى علم أنه قادر على الوقوف والاستجواب، فأبلغ ذلك هيئة المحكمة.

فوجه إليه الرئيس الأسئلة الآتية. وكان يجيب عليها كما ترى:
قال الرئيس:
- ما اسمك؟
- أنا مسلم مغربي.
- كلا بل اذكر اسمك المسيحي الجديد.
- صموئيل فرناندس.
- ان صموئيل هذا اسم يهودي.
- لقد كان المسيح يهوديا˝ أيضا˝.
- قل صدقا˝: كم عمرك؟
- ثلاث ثلاثون سنة مثل عمر المسيح.
- إذن أنت مستعد للتضحية؟
- بإذن الله.
- أتقبل ذلك وأنت راض؟
- نعم.
- إذن قل: من هو إلهك؟
- هو إلهكم نفسه.
- وما اسمه؟
- الله في سماء ملكوته.
- بل قل معي: يسوع المسيح.
فأجاب الرجل وهو يرتعد:
- يسوع المسيح!
- يظهر عليك أنك تأثرت من ذكر هذا الاسم، أليس كذلك؟
أجمل!
- وما نوع ذلك التأثير؟
- تأثير داخلي.
- وماذا قال لك هذا الصوت الداخلي؟
- لا أدري، فإني الآن لا أدري ماذا أقول.
- قل ما فكرت فيه بصوت مسموع.
- لا أقدر على الكلام لأني متألم جدا˝ من الضغط على صدري. والكلام لا يكون حسب الأمر بل حسب الاستطاعة.
- سننظر ذلك جيدا˝ جدا˝.

ونظر الكاتب إلى الرئيس مستفهما˝.
فقال الرئيس: أظن أن ضرب وجهه بالسوط يمكنه من الكلام.
وسرعان ما جذبه أحد رجال التعذيب، وجعل يجلده على وجهه بجلدة سميكة مبللة بالماء. فاحمر جلد وجهه، وكاد يخرج منه الدم وجعل يلتوى من الألم، فقال له كاهن:
تعال يا صموئيل تقدم واعترف أمامي بكل خطاياك، وقل لي: بماذا تفكر الآن؟ قل الحق قبلما يحل بك القصاص. تقدم يابني. الحق بيدك يا محمد لقد كان هذا اسمك قبل اعتناقك المسيحية. فلماذا سميت نفسك صموئيل ولم تختر اسم قديس مسيحي كبطرس أو بولص؟ ثم نظر إلى الكاتب وقال اكتب:
- أين ولدت؟
- في طنجة.
- أإسباني أنت؟
- كنت إسبانيا˝.
- ولماذا تقول كنت؟
- أقول هذا لأني لست باسباني لكي أظل إسبانيا إلى الأبد.
- وأبوك؟
- ليس لي أب فأنة قد مات.
- وأمك؟
- ماتت أيضا˝.
- وأين ماتا؟
- في سجون ديوان التفتيش.
- أحرقا˝؟
- كلا بل تعذيبا˝ حتى تهرأت أجسادهما، فماتا من شدة العذاب.
- وبماذا اتهما؟
- لقد كانا بريئن.
- هل لك أخوة؟
- أظن ذلك.
- كيف تظن! أين اخوتك وأين يقيمون! ؟
- بل قل أولا˝: أين ماتوا وأين قبورهم؟
- يظهر أنك تريد أن ينفذ صبرنا معك. فنبدأ بتعذيبك!
- يسوؤني هذا.

إذن أنت لا تريد أن تدلنا على البقية الباقية من إخوتك ولا عن مكان إقامتهم إن الديوان المقدس لا يخفى عليه أن لك إخوة هم على قيد الحياة وهم يصلون في مساجد خفية. ألا تعلم أين هم؟
- لا أعلم.
- لما صدر الأمر بسجنهم هربوا، فلا تعلم إلى أين؟
- كلا.
- تذكر جيدا˝ علك تعلم.
- كيف يمكنني أن أتذكر وأن مضطرب الفكر ضائع العقل؟!
- يجب أن. تساعدنا على معرفة مقرهم حتى تخلص نفوسهم.
- على غرار ما ستفعلون معي الآن.


- أنت تسكن مع امرأة، فمن تكون هذه؟
- زوجي.
- كيف يمكنك ادعاء هذا؟
- هي تريد أن يكون الأمر كذلك.
- علمنا أنها مسيحية وأنت بهذا العمل تخالف آداب ديننا المسيحي وتنبذ العفاف، فيجب عليك أن تسلم زوجك للديوان المقدس.
- هل هذا هو العفاف والدين عندكم؟
- نحن لا نجادلك بل نأمرك.
- إذا كنتم تأمرونني فأولى بكم أن تقتلونني. وهذا كل ما يمكن أن تفعلوه وعندئذ سوف تصلي زوجتي من أجلي.
- ويلك يا شقي ألا تزال مصرا˝ على إنكارك؟! أصلح هفواتك وخطأك يا هذا وإلا فإنك سوف تدفع لعنادك ثمنا˝ باهظا˝- والآن فلنتم أعمالنا.

قل لنا : أين اخوتك وأين زوجتك؟
- هم في مكان أمين.
- ألا تريد أن تعترف بأكثر من هذا؟
- إني أعترف إلى الله خالقي فحسب. أنتم تعذبونني والله يعلم أني بريء.
- سوف تساق إلى التعذيب الآن فالأولى لك الإقرار.
- لا يعنيني العذاب فإن جسمي مخدر لا يشعر.
- إذا لم تجب على ما سألناك الآن فسوف تسقى الماء رغم أنفك، يدفع إليك من حلقك حتى يقضي عليك
- لقد احترقت رجلاي أولا˝ بناركم فلم أمت حتى الآن.

فقال أحد القسس، وهو يتصنع الرقة والعطف عليه بصوت متكلف:
- اعلم يابني أننا لا نرمي نت وراء تعذيبك إلا إلى الإقرار عن بقية أهلك الذين تحبهم وبذا تنجي نفسك ونفوسهم ونصعد بكم إلى السماء.
فأجاب الرجل:
- إذا صعدنا نحن إلى السماء فمن يهوي بكم أنتم إلى الجحيم وبئس القرار؟

وعندئذ أشار أحد رؤساء المحكمة بيده إشارة سريعة إلى المعذبين المرتدين الثياب السود الواقفين أمام آلات التعذيب، فهجموا عليه وأخذ البعض منهم يضع الحبال في يديه وصدره معا˝ ويلفها لفا˝، وآخرون ربطوا رجليه بحبل دقيق ثم وضعوه على مائدة خاصة وأعادوا ربطه عليها ربطا˝ وثيقا˝.
وتقدم أحد هؤلاء المعذبين وهو يحمل جرة ملأى بالماء. وتقدم آخر وفي يده قمع، فقال الكاهن الموكل بعظة الخاطئين والصلاة لأجلهم:
- والآن يا صموئيل لماذا تضطرنا يا بني إلى تعذيبك وإحداث هذه الآلام لك ما دمت قادرا˝ على الخلاص من هذا كله إذا ما قلت لنا أين أخوتك وأين زوجك! ؟
فأجاب الرجل:
- لا يمكنني أن أقول لك شيئا˝ عنهم لأني قد وعدتهم وأقسمت لهم بأن لا أخونهم وأسلمهم لديوان التفتيش.
فقال الكاهن:
- ولكن لا نعتقد أنهم يرضون لك هذا الحال وهذا العذاب الأليم.. إن هذا السكوت لا يعد أمانة الآن بل يعد جنونا˝… قل قبل أن يبدأ الرجال بتعذيبك.
- انني أشكر لكم إذا ما قتلتموني مرة واحدة.
- دع عنك هذا العناد يا رجل، واعلم جيدا˝ انك سوف تموت دون يعلموا بأنك من فداء لهم. والمحكمة سوف تقبض عليهم إن عاجلا˝ وإن آجلا˝ فتكون قد مت أنت من غير ما فائدة. ومع هذا فإن زوجك هذه سوف تنساك لا محالة وتتزوج سواك. وربما تكون قد خانتك الآن.
فصاح الرجل قائلا˝:
- صه أيها النذل الحقير، واعلم جيدا˝ ان عذابكم لجسدي لا يعنيني قدر تعذيبكم بكلامكم هذا الذي تلفظة ألسنتكم القذرة السامة!

وبكى الرجل وبدأوا بتعذيبه فكان صراخه يملأ القاعة، ولكن ليس من منقذ، بيد أن القسس كانوا وقوفا˝ يصلون وبيدهم كتبهم يرتلون منها الأناشيد المسيحية.



وبينا هم يعذبون المسكين على هذه الصورة سيقت سيدة أمام المحكمة وكانت رابطة الجأش ذات شجاعة مدهشة، ونظر إليها رئيس المحكمة بنظرات حادة كلها الحقد والغضب والانتقام، وسألها قائلا˝:
- ما اسمك يا هذه؟
- سوزانا فرناندس.
وسمع زوجها المعذب ذلك فأن أنينا˝ طويلا˝ محزنا˝، فقد عرف انهم قبضوا على زوجه المسكينة، وانها وقعت بين براثن أولئك الوحوش العتاة. أنا هي فلم تتمكن من معرفة من يعذب لنا استولى على القاعة من ظلام. ولكنها عندما سمعت الأنين التفتت لترى من يئن وعندما أخذ رئيس المحكمة في استجوابها وعيناه تتقدان شررا˝، ومنهما ينبعث الشر لالتفاتها واستمر يسألها قائلا˝:
- بنت من أنت؟
- لا أعلم.
ألا تعلمين من هما أبواك؟!
- كلا، إنما رأيت ذات مرة رجلا˝ مارا˝ بحي تريانا فقالوا لي ان هذا أبي.
- أهذا كل شيء؟!
- نعم.
- وما اسم ذلك الرجل؟
فأجابت إجابة ساذجة قائلة:
- قيل لي إن له اسمين: الأول الراهب، والثاني الرجل المهيج.
- وأمك من تكون؟
- هي أمي.
- وأين هي؟
- ماتت.
- وأين ماتت؟ هل سقطت في الوادي الكبير؟
- كلا بل قتلت قتل العمد.
- وكيف كان هذا؟
- انها ماتت جوعا˝ في سجون محاكم التفتيش.
- وأين كانت تسكن قبل أن تسجن؟
- مع رجل من بقايا العرب، كان يمر ببابنا كل يوم وقد عزم أخيرا˝ على أن يسكن معها إلى الأبد، فسكن وسأنضم أنا لهما أيضا˝.
- وهل مات ذلك الرجل؟
- نعم قد مات في سجون ديوان التفتيش.
- أكان مسيحيا˝؟
- لا أدري. ومع هذا فلم تسألونني عن المسيحية كثيرا˝؟ وما هو دخل الديانة المسيحية في ديوان التفتيش؟!!
وما كادت السيدة تتم كلامها حتى بدأ رجال العذاب في تعذيبها تعذيبا˝ مخيفا˝ تقشعر من زمرة الأبدان.


المصدر :
محاكم التفتيش للدكتور علي مظهر (ص:87إلى95)
مصرع غرناطة للدكتور شوقي أبوخليل (ص:100إلى109)

(منقول)