من المفارقات العجيبة..أنك تجد عالمين..كلاهما حصّل ذات العلم..
ثم يكون أحدهما جريئا في الحق..وبه يعرف..فإذا ذكر اسمه كان من أخص شمائله أنه لا يخاف في الله لومة لائم..
ولمّا ذكر الله تعالى صفة الأبدال قال :"فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم"
وحين يتسبدل الله قوما بقوم..ثم يذكر خلالهم..فعضّ على تفقه معانيها ..
ذلك أنها على وجازتها مشتملة على خلاصة السؤدد في الدنيا والمجد في الآخرة
-أما علاقة المحبة التبادلية..فهي وصف عام يكفي العاقل لو تأمله..لكن الرب الجليل سبحانه فسر سر هذه العلاقة..فذكر أربع صفات:-
أول-أذلة على المؤمنين..وهذا التواضع و عقيدة الولاء
ثانيا-أعزة على الكافرين..وهذا الاستعلاء الإيماني وعقيدة البراء
وهي من أعمال القلوب
ثالثا-يجاهدون في سبيل الله..وهذا يصدّق ما سبق..وبقدر انتفائه يكذّبه..ويدخل فيه الجهاد بالمقدور عليه كل حسب موقعه
رابعا-ولا يخافون لومة لائم..أي لأنه قد يوجد من يتصف بما سبق ابتداءا..لكنه ما يلبث أن يرجع القهقرى مع ملامات اللائمين..فمنهم من يتراجع مع ملامة الناس..فهذا شيخ شعب
ومنهم من يتراجع مع ملامة سلطان..فهذا شيخ سلطان..
ومنهم من لا تزيده معتبة المتربصين ومحاربتهم إياه إلا رسوخا..فهو ضارب بجذور توحيده في الأعماق..لا تهزه العواصف..ولا تفت في عضده الخطوب والزلازل فهذا العالم الرباني
ولهذا قال تعالى في صفة الصحابة "الذين استجابوا لله والرسول من بعدما أصابهم القرح"
لكن كل هذه الصفات..لا تكون بهذه المثابة الوتيدة في قلب صاحبها إلا باليقين
فإنك ما استحضرت عظمة الله تعالى ومراقبته كأنك تراه..إلا كان ذلك حافزا عجيبا للثبات حتى الممات..وبهذا يدرك السر عند علمائنا الأفذاذ ..أي كيف جابهوا المخوف بنفس مسكونة بالسكينة ..محلقة في فضاء التوحيد..راضية بربها وقضائها..فتراها على العهد أبدا..وكأنها تنظر للغيب كله من ستر خفيّ
إنه اليقين..وتأمل قول الله إن شئت:"وجعلنا منهم أئمة لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون"
وتصور ذلك يسير جدا..فهب أن هناك آلة تصوير تراقب حركاتك..وسكناتك..
ومن ثم ستعرض على لجنة متخصصة للحكم فيك!
هذا والمراقب مصنوع من طين مثلك..
فتأمل كيف يرقى ثبات هؤلاء الرجال العظماء..حين يستشعرون ذلك بعين البصيرة..مراقبة الرب الجليل عز وجل
أي كما في حديث جبريل سواء"أن تعبد الله كأنك تراه " فإن لم تكن بهذا القدر الرفيع فلا أقل من أن تستشعر في وجدانك الحي أنه يراك..
ولهذا لما سئل الشيخ الخضير في مجلس خاص قال:هذا إمام أهل الحديث في هذا الزمان..ذلك أنه أوتي جراءة في الحق..وهذا شرط الإمامة!
وقد أنصف الشيخُ الشيخَ
بقي أن يقال..كيف يصار إلى غرس شجرة اليقين وتعاهدها بالرباية حتى تغدو باسقة عالية ..ذات أفنان ظلالها وارفة..تمتد مع الأفق..حتى إذا ما ماتت..ماتت واقفة!
هذا ما سأحاول الجواب عليه بإذن الله تعالى