كان بين ( سوف ) و ( الآن ) حربٌ على وجه الدهر ، ولا تزال ، ولن تزال ما دام هذا الإنسان على الأرض يتقلب ، ما دامت النفس البشرية فيها بقية من ذِمام ، ما دام على ظهرها امرؤ يُزمع أمراً ، قُرِن المجد بـ ( الآن ) ، وربط التقصير بـ ( سوف ) ، ولأن البشر جُبلوا على التقصير = كانت الصولة كثيراً ما تكون لـ ( سوف ) .

النفوس الكبار عرفت كيف تدير على جيوش التسويف الدوائرَ ، فاتخذت من رحى الهمة ، ولاعجِ يقظة الضمير مطحنةً تدقُّ بها أعناق حروف المعجم التي تفكر أن تستحيل في يوم ما إلى كلمات تقضي بالتأخير على أعمالهم .

استسلم صنف آخر من البشرية لوطأة ( سوف ) الثقيلة ، فكبَتْ همم كان من حقها أن تنهض ، و تفتَّت إنجازات في مهدها ، لولا التسويف لكانت شيئاً يستحق أن يسكب الماء على وجه أُمَّة التذت لغمض الجفون زماناً ، وطال التذاذها ، استسلموا لـ ( سوف ) بنتاً نتجت سفاحاً من حرف السين ، والفاء ، فالسين رمز ( السَّكْرة ) ، والفاء رمز ( الفشل ) والواو بينهما رابطة ، فما ظنك ببنت للسَّكْرة ، والفشل ، أي شيء ستصنع ؟! هل يمكن أن تكون غير ( أفيون ) يخدر الهمم ، ويشلُّ الإنجازات ؟!

لا أقول : إن هذين الصنفين من الناس ( أرباب التسويف ، وأرباب التنجيز ) يخلصان إلى طريقين ، كل في اتجاه ، كلا ، بل الصنف الأول قد يقع في شيء مما يقع للثاني ، وقد تنبعث همة للصنف الثاني وقادةٌ تقوده إلى ما كان عليه الصنف الأول ، بل أكثر ، وتلك سنة الله في خلقه .

إن المسوف - بطبيعة الحال - سيحاول أن يقنع نفسه بأعذار باردة ؛ علَّها تهدئ شيئاً من حرقة ضميره ، كما اعتدنا من كل من تقصر يده عن رتبة الكمال اللجأ إلى ذم رتبة الكمال عينها ، متظاهراً بالاستغناء عنها ، ولقد يعلم الناس أن الزهد زهدُ الواجد لا العادم !

إننا إذا ذممنا ( سوف ) فلا يعني أننا نمتدح ( الآن ) بكل حال ؛ فإن ثمة أحوال يتعين فيها التأخير ، لكن هذا المؤخَّر يُمتدح فيه ( الآن ) عند حلول أجله أيضاً .

"إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة" ؛ فكم كسدت الآراء الصحيحة على ظهور العزائم الرخوة !

وإذا أردتُ أن أتحدث عن علاج ( سوف ) ، وسبيل مكافحتها أجد نفسي منساقاً إلى مسار حتمي في الحل ، وهو الذي يقتضيه النظر عند تحقيقه ، ذلك أنك إذا تأملت السبب الداعي إلى التسويف وجدتَه آيلاً إلى الميل إلى الدعة ، والقصد إلى إراحة النفس ، والاستجابة إلى داعية طمأنينتها ، وسكونها ، وتلك هي اللذة العاجلة ، وإذا نظرت إلى دافعها إلى الإنجاز وجدته ما يؤول إليه الحال بعد تنجيز العمل من تحصيل لذة - أياً كانت طبيعة هذه اللذة - فيتنازع النفس حينئذ لذتان : عاجلة ، وآجلة ، وطُبعت النفوس على حب العاجل : ( خُلق الإنسان من عجل ) ، فكانت كفته أرجح عند أكثر الخلق : ( بل تؤثرون الحياة الدنيا ) ، لكننا وجدنا العقلاء دققوا النظر ، فرأوا أن العِوض المؤخر قد يكون أرجح من المعجل الحالِّ إذا أربى في قَدْرِه عليه بأي صورة كان هذا الإرباء : ( والآخرة خير وأبقى ) ، وبهذا أجملوا الجواب على شبهة أهل التسويف : كيف نستبدل بالنقد النَّسَاءَ ؟!
واعتبر ذلك بكل عمل ، كان من عمل الدنيا ، أو عمل الآخرة ، أو مزيجاً منهما .
ولما عقل أبو تمام هذا المعنى صدح بملء فيه :
ولم تعطني الأيام نوماً مُسكِّناً
ألـــذُّ بـــــه إلا بـــــــنـــــو مِ مشـــــــــــرّ َدِ
وسئل الحسن البصري : إلى كم تتعب نفسك ؟ فقال : ( راحتَها أريد ) ، إنه "بصُر بالراحة الكبرى ، فلم يرها تنال إلا على جسر من التعب" !

ثم تدبر العقلاء ، فرأوا ثقل تأنيب الضمير بترك العمل أشدَّ على نفوسهم من ثقل العمل نفسه ، فصحَّحُوا تعريف من عرف التسويف بقوله : هو ترك الاشتغال بالعمل إلى الاشتغال بتأنيب الضمير ، فمن تحقق من كون العمل متعلقاً في رقبته في كل الأحوال نجز ، أو لم ينجز آثر أن يتقلَّد قلادة يزدان بها جيده على أن يتعلق حروفاً أبلاها الناس لبساً ، هي حروف ( سوف ) ، وعجبت ممن يبحث عن أحدث اللباس ، ولا يرضى إلا بأفخره ، ثم يقنع بأردية بالية تعاورتها أيدي الناس منذ الزمان الأول ! وإذا كانت "أسنان" السين تجرح ، فإن الفاء تذُرُّ الملح ، والواو تسكب الخلَّ على الجراحات ، ويبقى المسوِّف بعد ذلك تحت وطأة هذه الحروف البائسة .

وهذا عند التأمل هو مُحصَّل السلاح الذي ينبغي أن تُوأد به ( السين ) أيضاً في مهدها ، وإلا كبُرت حينئذ ، وترعرعت في كنَف أختها التي تكبرها ( سوف ) فصَالتا على المرء ، فذهبتا بحُشاشةِ نفسه ، إن كيدهن عظيم !

وقد جعل النحاة هذين الحرفين ( أعني : سوف ، والسين ) في رابطة سموها حروف التنفيس ، ولهم في ذلك علة معتبرة ، لكنها لعَمْري حروف تكتم الأنفاس ، حتى تأتي على متعاطيها بالفناء ، فما أحقها بتسمية أخرى ، عسى أن يكون لها من اسمها نصيب .

أخيراً :
سُفِك دم ( سوف ) على صفاة الإرادة !