"إنهم يَعرفون أنهم أكثر ممّا ينبغي، وأنه لا بد أن يفترس بعضهم بعضاً شأن العناكب في وعاءٍ واحد". تسفايج، بناة العالم.
هذه النفس الإنسانية غريبة النّوازع والبَدَوات والأطوار..
ومن مفارقاتها أن قلمي لا يكون في أحسن حالاته إلاّ إذا ساءت نفسي..
واليوم أصبحتُ منقبضَ الصَّدْر فانشرح قلمي، ولا أدري- وقد جاوزتُ طَوْر تكلّفِ الشجى لاستدرار الموهبة- ما بال قلمي لا يضيء إلاّ بنار روحي وَوَقْد ضميري؟
ألا بئس هذا الناس..
ولولا دِينٌ وحياءٌ لقلتُ بقلمي هكذا فكشفتُ عن وجوه تُصدّر في المجالس، فلما عاملتها خشيتُ منها على نعلي!
قال سفيان الثوري لعطاء الخفاف: "يا عطاء: احذر الناس، وأنا فاحذرني".
غَبَر عليّ زمان كنت أقول فيه لمن أنصحهم: ربُّوا أبناءكم على الخير والطُّهر، واليوم صرت أُردّد مع القائل: "ستُقنع الغنم بالمذهب النباتيّ، لكنّ الذئاب لها رأي آخر".
ألا فلتربّوا أبناءكم على كثير من الشرّ، لا ليكونوا أشراراً، لكن حتى يتّقوا من الناس شرَّ الناس.
كنت أقول لمن أنصحه: أحسنْ إلى الناس قدر ما تستطيع، وأما اليوم فنصيحتي له: أنْ قلّل من إحسانك إلى الناس، فإذا أنت أحسنت إلى الواحد منهم فلا تشعره بذلك؛ لأنه سيجعل من إحسانك إليه ذريعةً للإساءة إليك. "قال رجل لآخر: فلان يسيء القول فيك، فقال له: عجيب، مع أني لم أحسن إليه".
كنت أقول لمن أمحضهم النصح: أحبّوا الناس، واليوم فلست أقول لهم: اكرهوا الناس بإطلاق، لكني أقول: أحبّوا الإنسانية مجتمعة، واكرهوهم أفراداً!
في "قصة الحضارة" لديورانت: "وأحزن البابا- أدريان السادس- وأقضّ مضجعه عجزُ الإنسان عن أن يصلح الناس، وكثيراً ما جهر بقوله: "ما أكثر ما تعتمد مقدرة الإنسان وكفايته على العصر الذي يقوم فيه بأعماله".
وفي "تساعيّة نقدية" لماهر فريد: "كتب رسكن ذات مرّة ما معناه:
في طريقي إلى المتحف البريطاني كلّ صباح؛ أجد وجوه الناس في الشارع تزداد فسادًا يومًا بعد يوم".
يوم أن انتابتني تلك الجائحة الرُّوحية المظلمة قبل إحدى وعشرين سنة، وانثالت عَليّ المصائب –أجارك الله- ترفّ تترى متتابعات حتى ذُهل قلبي المسكين فما عاد يدري لأيهنّ يتألم.. ويوم تنكّر لي من كنت أحسنتُ إليه من رُذال هذا الخلق وسَقَط ولد آدم –كتب أحدهم: كان من قَدَري أن أغلب من ألقاهم في دروب حياتي المعتمة هم من ذوي العاهات المخيفة –حبستُ نفسي في البيت عدة سنوات، وذهبت- فيما يشبه الجنون لكنه معرفيّ- أقرأ في اليوم والليلة أكثر من ثلاث عشرة ساعة، لا يصرفني عن القراءة إلاّ دموع عينيّ من فرط الجهد، لم أكن في تلك الأيام أتنفس من رئتيّ، كنت ألتقط أنفاسي من ثقوب الكلمات.. ولولا أن منّ الله عليّ بالهداية لربما تيبّستُ شيئًا فشيئًا حتى صرت- كما قال كافكا-: "حَجَرًا لقبر نفسي".
لا، لم أكن في تلك الأيام أُسحق؛ لكني كنتُ أتشكّل..
استهواني –فيما استهواني- من هذه الدنيا الغريبة التي فتحها الله عليّ بعد أن أُوصدت دنيا الواقع في وجهي فنُّ التراجم الذاتية.
وما زلت أظن أنه لا يوجد فنٌّ آخر يعدله من فنون هذا التراث الإنساني كلّه.
نفضت المكتبات العامة والتجارية نفضًا، لم أترك فيها ترجمة ذاتية ذات شأن إلاّ طالعتها، وكنت أُعيد قراءة بعض التراجم أكثر من مرة، كالجزء الأول من "أيام" طه حسين قرأته ثلاث مرات- لم يُكتب في فن السيرة الذاتية باللغة العربية كهذا الجزء منذ كتب عربيٌّ عن نفسه- وكان طه حسين أملاه في عدة أيام.
وربما طالعت السيرة الذاتية في أكثر من ترجمة، كاعترافات جان جاك روسو، طالعتها في ترجمة بدر الدين وترجمة خليل رامز، في كثير كثير..
كانت كتب التراجم الذاتية مسلاةً لروحي، أجدُ فيها العظة والعبرة والمتعة، وكنت أعثر فيها على لطائف من المعارف لا توجد في غيرها، بل لا يظن القارئ أنها من مظانّ هذه اللطائف:
1- في سيرة الممثل الهزلي المشهور شارلي شابلن "قصة حياتي" حديث أفضت به زوجة آينشتاين لشارلي عن الأيام التي كتب فيها زوجها "النظرية النسبية"؛ ستحفى قدما محاضر في العلوم وهو يتردّد بين أرفف المكتبات فلا يظفر بمثله.
2- في سيرة المخرج الإسباني العالمي بونويل "أنفاسي الأخيرة" أخبار عن الشاعر الإسباني لوركا- إذ كان صديقه- لعلها لا توجد فيما أفرد عنه من دراسات، وفيها قصة عن هذا الماكر شارلي شابلن تكشف عما كان أخفاه في سيرته من إباحيّته ودنسه.
3- في ترجمة أنيس صايغ لنفسه "أنيس صايغ عن أنيس صايغ" فصل حافل عن ياسر عرفات يفرح به مؤرخو السياسة.
4- في "حياة طبيب" لطبيب النساء القبطي المشهور في وقته نجيب محفوظ -وهو الذي سُمي به الروائي نجيب محفوظ لأنه قام على ولادته بعد أن تعسَّرت– قصة طريفة عن اللغوي الكبير حمزة فتح الله، لم يقف عليها باحثان كتب كلٌّ منهما بحثًا جيدًا عنه.
5- في "مذكرات أغا خان" أن السلطان عبد الحميد كان يضع الماكياج لمّا قابله!
6- في "مذكرات جريح" لبولس سلامة أنه طريح الفراش منذ عشرين عامًا أجرى فيها أربعًا وعشرين عملية..
7- في "النوافذ المفتوحة" للشيوعي شريف حتاتة –زوج سيئة الذكر نوال السعداوي– ما يكشف عن شخصية الشاذّ في رواية "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني.
8- في سيرة عبد الرحمن بدوي -ذكر لدراسته بعض تراث شيخ الإسلام ابن تيمية على شيخه مصطفى عبد الرازق.
9- في "المذكرات" للعلامة محمد كرد علي أخبار عن الشيخ طاهر الجزائري لا توجد في كتاب.
10- في "رحلة جبلية" لفدوى طوقان ما يدل على أثر هذه السيرة على ما كتبته متأدبة قليلة الموهبة في روايتها "الوارفة".
11- في سيرة برتراند رسل نعرف أن أخاه هنري كان مسلمًا..
12- في "أوراق العمر" للويس عوض –هذا الكتاب من أعمق كتب التراجم الذاتية على ما فيه من سوء- يتكشّف لنا كذب جيهان السادات بشأن كتابتها للدكتوراه في مقابلتها مع أحمد منصور!
13- في "مذكرات طبيب عبد الناصر" الصاوي حبيب، وهو طبيب جمال عبد الناصر في آخر سنوات حياته؛ نتبيّن صدق "هيكل"، وأنه كان أثيراً عند عبد الناصر.
14- في "الاعتبار" لأسامة بن منقذ- هذه أفضل ترجمة ذاتية في تراثنا العربي- نصوص رائعة عن أوروبا العصور الوسطى.
15- في "الجمر والرماد" لهشام شرابي تصوير نادر لشخصية أنطون سعادة زعيم الحزب القومي السوري الذي أعدمته الحكومة اللبنانية.. وفيها يقف القارئ على المورد الذي استقى منه عبد الرحمن بدوي أغلب رسالته عن "الزمان الوجودي".
16- في "شظايا من عمري" لعبد المعين الملّوحي أنه هو الذي أشار على سامي الدروبي بترجمة الأعمال الكاملة لدوستويفسكي.
17- في مذكرات محمد الرايس "من الصخيرات إلى تازما مارت" تجربة سجنه في زنزانة انفرادية ثمانية عشر عاماً.
18- في "خواطر وذكريات" لإبراهيم الحسّون وصْف بديع للحياة اليومية في جدة في بداية الدولة السعودية.
19- في "التحدث بنعمة الله" للسيوطي – هذه ترجمته المفردة، وقد كتب بعض الباحثين رسالة دكتوراه عن السيوطي، فكان ينقل عن ترجمة السيوطي لنفسه في البغية وحسن المحاضرة، ولم يعرف أن له ترجمة مفردة – نجده يقول ما معناه:
"إنه ما من أحد من تلامذة والدي إلاّ أساء إليّ فيما بعد إلاّ فلان وفلان".
لذا بدأت بتأليف كتاب عنوانه "المنتخب من كتب التراجم الذاتية" لو تمّ لأتيت فيه بما يبهر القارئ ويفيده. لكن صرفني عن هذا الكتاب –وأمثالِه- قناعاتٌ ربّانيةٌ خرجتُ بها – بتوفيق من الله عز وجل- من بعض دروس الحياة، ومن كتب التراجم الذاتية نفسها، فقد وجدتُ أن كل تجارب الإنسان في حياته قابلة للنجاح والفشل، لا يؤول شيء من تجارب حياته إلى غير هذين.. وأما معاملة الربّ –جل وعلا- فإنها لا تقبل إلاّ النجاح ببرهان وثيق.. ولعلي أعود لأبسط تحوّل القناعات هذا في مقال آخر.
ما إن استمررت في القراءة في هذا الفن، ومطالعة هذه التراجم؛ حتى وجدتني أمام حقيقتين تطلان عليّ فلا تخطئهما العين في كل ترجمة ذاتية أقرؤها:
1- رأيت أن الذين قرأت تراجمهم الذاتية يُجمعون كلهم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأزمانهم وأعمارهم وأديانهم، وتفاضل تجاربهم، وتباين مشارب أنفسهم، وتنوّع مطارح مقاديرهم على أن الحياة نَصَبٌ ومشقّة، وأنهم ما نالوا ما نالوه منها إلاّ بالصبر والتجلّد والمغالبة.
2- ثم رأيتهم –وهذا هو بيت القصيد من حديث التراجم هذا- يُجمعون وفيهم: العالم والأديب، والمخرج والفيلسوف، والسياسي والقائد والممثل والأستاذ، والرسام والمهندس، والتاجر والمريض، والسجين والفقير، ومن شئت وما شئت.. رأيتهم يجمعون كلهم على فسادِ طبيعة الإنسان، وسوء خُلقه، وبشاعة مخبره، وخبث طُويّته، ورداءة صِنفه.. وأنه لم ينلهم من أوصاب هذه الفانية، وأدواء هذا العمر، وأتراح هذي الروح؛ أشدّ ولا أشقّ ولا آلم من صراع الإنسان وحسده وقبحه.. فمِن كاذب لا يصدق إلاّ في أنه كاذب، وخائن لمن ائتمنه، ومتنكّر لصديق أحوج ما يكون إليه، وظالمٍ يطلب ما لا حقّ له فيه، وجاهل خابي الذهن فاتر الموهبة ينقم على هذا وذاك أن منّ الله عليهم بما حرمه منه..
إلى ذي روح خبيثة يأبى صاحبها أن تُنزع منه قبل أن يسيء إلى من أحسن إليه، وذي أَثَرَةٍ مفرطة يتمنى معها أن لو صُرم نصف أهل الدنيا ولا تفوته نومة العصر.
في أمثلةٍ بغيضة، ونماذجَ كريهة، ونسخٍ مكرورةٍ مشوّهة، يخجل المعافى أن يجتمع معها في مسمى واحد، حتى قال بعض المؤلفين –شبه معتذر- في مقدمة كتاب له: "لعلي لا أجانب الصواب، ولا أبتعد عن جوهر الحقيقة إن قلت: إنني كائن بشري"!
وهكذا فبعد أن طالعت من كتب التراجم الذاتية ما يملأ قبّة الصخرة؛ وجدتُني أفتح الباب وأدخل إلى الشارع! كما عبّر كاتب غربي نسيت اسمه.
هكذا وجدتني أعود أدراجي كرّة أخرى، فإذا الإنسان ذئب الإنسان يَفْري أخاه فَرْياً شديدًا، وإذا الحياة هي الحياة: تَلِد بنيها، ثم تعود فَتَخْتِل لهم، وتفعل بهم ما تفعله القطّة الغادرة بصغارها العُمْي العاجزين..
فبئس الناس وبئس الحياة.
سـئمتُ كلَّ قديـمٍ عرفتُه في حياتي
إن كان عندك شيءٌ من الجديدِ فهاتِ