مسألة تكفير أهل البدع والأهواء:

نسوق في هذه الفقرة كلام نفيس جدا لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه؛ يبين فيه أن التكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، من خلال كلام أئمة الأمة وكيفية تعاملهم مع أصحاب البدع التي هي بدع مغلظة بحق كالتجهم، ذلك رغم أنهم كفروا المقالة وكفروا كل من قال بها على العموم، أما عند تعرضهم للأعيان -الذين صدرت منهم تلك البدع الغليظة والذين امتحنوا الناس عليها واستحلوا منهم ما حرمه الله تعالى عقوبة لكا من خالفهم- فقد اعتذروا لهم واستغفروا لهم الله تعالى، ولو عدوهم كفارا ومرتدين لما استجازوا ذلك.
والتفصيل يأتي من على لسان قائله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (12/ 485):
..المشهور من مذهب الإمام أحمد وعامة أئمة السنة تكفير الجهمية وهم المعطلة لصفات الرحمن؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب، وحقيقة قولهم جحود الصانع، ففيه جحود الرب وجحود ما أخبر به عن نفسه على لسان رسله؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية، وقال غير واحد من الأئمة إنهم أكفر من اليهود والنصارى يعنون من هذه الجهة، ولهذا كفروا من يقول: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وإن الله ليس على العرش وإن الله ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب ونحو ذلك من صفاته.
وأما " المرجئة ": فلا تختلف نصوصه أنه لا يكفرهم؛ فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع وكثير من كلامهم يعود النزاع فيه إلى نزاع في الألفاظ والأسماء: ولهذا يسمى الكلام في مسائلهم " باب الأسماء " وهذا من نزاع الفقهاء لكن يتعلق بأصل الدين؛ فكان المنازع فيه مبتدعا.
وكذلك " الشيعة " المفضلون لعلي على أبي بكر لا يختلف قوله إنهم لا يكفرون؛ فإن ذلك قول طائفة من الفقهاء أيضا وإن كانوا يبدعون.
وأما " القدرية " المقرون بالعلم و " الروافض " الذين ليسوا من الغالية والجهمية والخوارج: فيذكر عنه في تكفيرهم روايتان؛ هذا حقيقة قوله المطلق مع أن الغالب عليه التوقف عن تكفير القدرية المقرين بالعلم؛ والخوارج مع قوله: ما أعلم قوما شرا من الخوارج.
ثم طائفة من أصحابه يحكون عنه في تكفير أهل البدع مطلقا روايتين حتى يجعلوا المرجئة داخلين في ذلك، وليس الأمر كذلك، وعنه في تكفير من لا يكفر روايتان أصحهما لا يكفر، وربما جعل بعضهم الخلاف في تكفير من لا يكفر مطلقا وهو خطأ محض.
والجهمية - عند كثير من السلف: مثل عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم - ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة؛ بل أصول هذه عند هؤلاء: هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية؛ وهذا المأثور عن أحمد، وهو المأثور عن عامة أئمة السنة والحديث أنهم كانوا يقولون: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر ونحو ذلك، ثم حكى أبو نصر السجزي عنهم في هذا قولين: " أحدهما " أنه كفر ينقل عن الملة، قال: وهو قول الأكثرين؛ و " الثاني " أنه كفر لا ينقل، ولذلك قال الخطابي: إن هذا قالوه على سبيل التغليظ، وكذلك تنازع المتأخرون من أصحابنا في تخليد المكفر من هؤلاء؛ فأطلق أكثرهم عليه التخليد كما نقل ذلك عن طائفة من متقدمي علماء الحديث؛ كأبي حاتم؟ وأبي زرعة وغيرهم، وامتنع بعضهم من القول بالتخليد.
وسبب هذا التنازع تعارض الأدلة فإنهم يرون أدلة توجب إلحاق أحكام الكفر بهم، ثم إنهم يرون من الأعيان الذين قالوا تلك المقالات من قام به من الإيمان ما يمتنع أن يكون كافرا، فيتعارض عندهم الدليلان، وحقيقة الأمر أنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع ،كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتقي في حق المعين وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة: الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه، فإن الإمام أحمد - مثلا - قد باشر " الجهمية " الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات، وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة، وغيرهم: يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات مثل القول بخلق القرآن ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر فلا يولونه ولاية ولا يفتكونه من عدو ولا يعطونه شيئا من بيت المال ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك، فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان، ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه.
ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب، ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره، ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم؛ فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع، وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوما معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل؛ فيقال: من كفره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذه مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم، والدليل على هذا الأصل: الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار....

وصل اللهم وسلم على نبينا محمد..