الشيخ البدر: العمل الصالح هو التجارة الرابحة والمغنم الباقي الذي يغفل عنه الإنسان


الفرقان

في محاضرة له بعنوان: (المتجر الرابح) بين الشيخ عبدالرزاق عبد المحسن البدر أنَّ التجارة والاتجار وتحصيل الأرباح والتنافس في نيل المكاسب مطمع كل إنسان، ولكن التجارة الرابحة والمغنم الواضح الباقي نفعه في دنيا العبد وآخرته يغفل عن التنافس فيه والسعي في تحصيله كثير من الناس، من هنا كان لابد من الحديث عن العمل الصالح والوقوف على بعض الأصول والجوانب العظيمة المتعلقة بالعمل الصالح من نواحٍ متعددة.
أولاً: مكانة العمل الصالح ومنزلته العلية
في القرآن الكريم أكثر من ثمانين آية ذُكر فيها العمل الصالح، في ثلاث وسبعين آية منها ذُكر العمل الصالح مقروناً بالإيمان، ومترتبا على ذلكم ذكر الثواب والأجر من فوزٍ بمغفرة الله، ونيلٍ لرضاه، وسعادةٍ في الدنيا والآخرة، وهناءة عيشٍ، ونيلٍ للغفران والرحمة، إلى غير ذلكم من أنواع الثمار والآثار التي ينالها المؤمنون الذين يعملون الصالحات؛ مما يزيد من إقبال العبد المؤمن وعنايته بالإيمان والعمل الصالح؛ لأنه كلما وقف المسلم على الفوائد والثمار والآثار، زاد حرصه وعظمت رغبته، وإذا غفل عن ذلك، ضعُف وغفَل وشُغل بتوافه الأمور وحقير الأشياء، وإن استمر على ذلك إلى أن تنقضي حياته، ندم حيث لا يفيد الندم.
التلازم بين الإيمان والعمل الصالح
وفي هذه الآيات التي قُرن فيها الإيمان بالعمل الصالح دلالة على التلازم بينهما، وأن الإيمان اشتُرط فيه العمل الصالح، وكذلكم العمل الصالح اشترط فيه الإيمان، كقوله -تعالى-: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} (الأنبياء:94)، وقوله -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97)، وكقوله -تعالى-: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (الإسراء:19).
اشتُرط للإيمان العمل الصالح
وكذلكم اشتُرط للإيمان العمل الصالح وإلا كان إيمانه ناقصا: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} (طه:75)، وآيات كثيرة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}(ا لبقرة:277)، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (التين:6)، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }(البقرة:82)، فإذا كان عند الإنسان عمل صالح وليس في قلبه اعتقادٌ حق وإيمانٌ صحيح لا ينفعه عمله، قال -تعالى-: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة:5)، وإذا كان في قلبه اعتقادٌ حق وإيمانٌ صحيح ولكنه لا يعمل، فإيمانه حينئذ ناقص؛ لأن أهل الإسلام والإيمان هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ أمران متلازمان: إيمان وعمل، إقرارٌ انطوَت عليه القلوب يُثمر أعمالاً تظهر على العبد، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ».
ثمار العمل الصالح وآثاره على العبد
والعمل الصالح ثماره وآثاره على العبد في دنياه وأخراه كثيرة جدا، وعدُّ هذه الثمار والآثار يحتاج إلى مجالس عديدة، لكن ليعلم المرء أن هذه الدنيا بما فيها من مُتَع، وما فيها من أنواع المصالح، وما فيها من تجارات، وما فيها من بيوتات وحقول وغير ذلك، كلها لن يدخل مع الإنسان إذا غادر هذه الحياة وأدرِج في القبر من ذلكم شيء، ولكن يدخل معه عمله، صالحاً كان أم سيئا، وقد جاء في الصحيح من حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاَثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ»، ومعنى يبقى عمله: أي يدخل معه في قبره، أما ولد الإنسان لا يدخل معه في قبره ولو كان يُكِنُّ له عظيم المودة والمحبة، ومال الإنسان مهما كثُر وتنوَّع لن يدخل مع الإنسان في قبره، ولهذا جاء في حديث آخر رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَثَلُ ابْنِ آدَمَ وَمَالِهِ وَعَمَلِهِ مَثَلُ رَجُلٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَخِلَّاءَ، قَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ: أَنَا مَعَكَ مَا دُمْتَ حَيًّا، فَإِذَا مُتُّ فَلَسْتَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْكَ، فَذَلِكَ مَالُهُ، وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا مَعَكَ، فَإِذَا بَلَغْتَ إِلَى قَبْرِكَ فَلَسْتَ مِنِّي وَلَسْتُ لَكَ، فَذَلِكَ وَلَدُهُ وَقَالَ الْآخَرُ: أَنَا مَعَكَ حَيًّا وَمَيِّتًا فَذَلِكَ عَمَلُهُ».
أي الأصحاب أبَرّ؟
ولهذا نقل ابن القيم -رحمه الله- في روضة المحبين عن أحد الحكماء أنه سُئل: أي الأصحاب أبَرّ؟ قال: «العمل الصالح»؛ فالعمل الصالح صاحب بر بصاحبه، وانظر هذا البر في أحلك الأمور وأشدها وأعظمها عندما يدرج الإنسان في قبره. جاء في الحديث في مسند الإمام أحمد عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - في سياق طويل وفيه: «وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ ؟ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ»، وجاء في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا! أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟».
المكانة العظيمة للعمل الصالح
فهذا وغيره مما يدل على المكانة العظيمة للعمل الصالح، وأنَّ من يوفقهم الله -سبحانه وتعالى- للأعمال الصالحات هم أهل التجارة الرابحة والغنيمة الواضحة، ومن سواهم من كافر أو مفرِّط فإنه سيندم ندماً عظيماً ولن يفيده ندمه؛ ولهذا فإن الكيِّس من عباد الله من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، وفي هذا المعنى يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ».
العمل الصالح ميدان تنافس وتسابق
والعمل الصالح: هو العمل الذي يحبه الله -تعالى- ويحبه رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما أمر الله -سبحانه وتعالى- به أمر إيجابٍ أو أمر استحباب، وهذا ميدانٌ واسع وبابٌ رحب، والأعمال الصالحات القولية والفعلية الظاهرة والباطنة كثيرة والميدان فيها ميدان تنافس، وفي هذا الميدان يتسابق المتسابقون ويتنافس المتنافسون، ممن يرجون رحمة الله -سبحانه وتعالى- والفوز بعظيم الثواب وجميل المآب.
الإخلاص لله -تعالى
ولا يكون العمل صالحاً إلا بإخلاصٍ للمعبود -جلَّ في علاه- ومتابعةٍ للرسول - صلى الله عليه وسلم -، والإخلاص أساس العمل الصالح الذي عليه يبنى؛ فإن الأعمال لو تنوعت وكثرت وتعددت ولم تقم على الإخلاص لله لا ينتفع بها العامل، وكذلكم لو أنه أخلص ولم يتَّبع في أعماله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينتفع بأعماله، فلا يكون الانتفاع بالأعمال إلا إذا أُخلِصت لله واتُّبع فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله -تعالى-: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الملك:2) ولا يكون العمل بهذا الوصف إلا إذا قام على الإخلاص والمتابعة، قال الفضيل ابن عياض -رحمه الله تعالى في معنى الآية { أَحْسَنُ عَمَلًا}-: «أخلصه وأصوبه»، قيل يا أبا علي وما أخلصه وأصوبه؟ قال: « إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل حتى يكون خالصاً صوابا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة».
الأعمال الصالحة التي يحبها الله -تعالى
والأعمال الصالحة التي يحبها الله -جل وعلا- وأمر بها كثيرة، لكن يأتي في الدرجة الأولى وفي صدر الأولويات فرائض الإسلام وواجبات الدين، وهذا جانبٌ لابد من التنبه له في باب العمل الصالح والعناية به، جاء في الحديث القدسي أن الله -سبحانه وتعالى- يقول: «ومَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»؛ ففرائض الإسلام واجبات الدين تأتي في المقدمة، فإذا قيل: أي الأعمال أفضل وأيها أحب؟ يقال الفرائض. ولا يقدَّم نفلٌ على فرض، ومن العجيب أنك تجد بعض الناس لديه عناية جيدة ببعض النوافل من بِرٍّ أو صلةٍ أو صدقةٍ أو حُسن معاملة أو غير ذلكم من الأعمال، لكنه مضيِّع لفرائض عظيمة، بل تجده مضيِّعا لأعظم فريضة بعد التوحيد ألا وهي الصلاة، والصلاة عماد الدين كما قال ذلكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل قال: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ».
الأعمال الصالحة تتفاضل
فإذاً الأعمال الصالحة تتفاضل، ويأتي في صدر الأفضلية في الأعمال الصالحة فرائض الإسلام، ثم بعد الفرائض إن قيل أي العمل أفضل؟ يقال - كما ذكر ذلكم شيخ الإسلام وغيره من أهل العلم- ليس في ذلكم جوابٌ مفصَّل إلا بحسب حال الإنسان ومقامه والوقت الذي هو فيه، لكن يمكن يقال قولاً جامعاً في هذا الباب: إنَّ الأفضل في كل وقت الأفقه للسنة؛ وهذه قاعدة ثمينة في باب التفاضل بين الأعمال.