ثم قال أبو محمد: ( وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ بَيْعِ كُلِّ ذَلِكَ وَقَالُوا: إنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ بَيْعِهِ لِمَغِيبِهِ.
وَقَدْ أَبْطَلْنَا بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ وَأَتَيْنَا بِالْبُرْهَانِ عَلَى وُجُوبِ بَيْعِ الْغَائِبَاتِ(1).
وَمَنَعَ قَوْمٌ مِنْ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ: وَهَذَا لاَ شَيْءَ ; لأََنَّ التَّسْلِيمَ لاَ يَلْزَمُ، وَلاَ يُوجِبُهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ دَلِيلٌ أَصْلاً، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ أَنْ لاَ يَحُولَ الْبَائِعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ مَا اشْتَرَى مِنْهُ فَقَطْ فَيَكُونَ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاصِيًا ظَالِمًا (2).
وَمَنَعَ آخَرُونَ مِنْ ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ غَرَرٌ ; وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ(3).
قال أبو محمد: لَيْسَ هَذَا غَرَرًا لأََنَّهُ بَيْعُ شَيْءٍ قَدْ صَحَّ مِلْكُ بَائِعِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْلُومُ الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ(4).
فَعَلَى ذَلِكَ يُبَاعُ وَيَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي مِلْكًا صَحِيحًا، فَإِنْ وَجَدَهُ فَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فَقَدْ اسْتَعَاضَ الأَجْرَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَرَبِحَتْ صَفْقَتُهُ(5).
وَلَوْ كَانَ هَذَا غَرَرًا لَكَانَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ حَاضِرِهِ وَغَائِبِهِ غَرَرًا لاَ يَحِلُّ، وَلاَ يَجُوزُ ; لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي مُشْتَرِيه أَيَعِيشُ سَاعَةً بَعْدَ ابْتِيَاعِهِ أَمْ يَمُوتُ، وَلاَ يَدْرِي أَيَسْلَمُ أَمْ يَسْقَمُ سَقَمًا قَلِيلاً يُحِيلُهُ أَوْ سَقَمًا كَثِيرًا يُفْسِدُهُ أَوْ أَكْثَرَهُ (6).
وَلَيْسَ مَا يُتَوَقَّعُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ غَرَرًا لأََنَّ الأَقْدَارَ تَجْرِي بِمَا لاَ يُعْلَمُ، وَلاَ يُقْدَرُ عَلَى رَدِّهِ، وَلأََنَّهُ غَيْبٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ. وَقَالَ تَعَالَى {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} . وَإِنَّمَا الْغَرَرُ مَا عُقِدَ عَلَى جَهْلٍ بِمِقْدَارِهِ وَصِفَاتِهِ حِينَ الْعَقْدِ. فَإِنْ قَالُوا: فَلَعَلَّهُ مَيِّتٌ حِينَ الْعَقْدِ، أَوْ قَدْ تَغَيَّرَتْ صِفَاتُهُ قلنا: هُوَ عَلَى الْحَيَاةِ الَّتِي قَدْ صَحَّتْ لَهُ حَتَّى يُوقَنَ مَوْتُهُ، وَعَلَى مَا تُيُقِّنَ مِنْ صِفَاتِهِ حَتَّى يَصِحَّ تَغْيِيرُهُ (7).
فَإِنْ صَحَّ مَوْتُهُ رُدَّتْ الصَّفْقَةُ، وَإِنْ صَحَّ تَغَيُّرُهُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا. وَلَئِنْ قُلْتُمْ: إنَّ هَذَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ فَامْنَعُوا مِنْ بَيْعِ كُلِّ غَائِبٍ مِنْ الْحَيَوَانِ وَلَوْ أَنَّهُ خَلْفَ الْجِدَارِ إذْ لَعَلَّهُ قَدْ مَاتَ لِلْوَقْتِ حِينَ عَقَدَ الصَّفْقَةَ أَوْ تَغَيَّرَ بِكَسْرٍ، أَوْ وَجَعٍ، أَوْ عَوَرٍ (8).
نَعَمْ، وَامْنَعُوا مِنْ بَيْعِ الْبَيْضِ، وَالْجَوْزِ، وَاللَّوْزِ، وَكُلِّ ذِي قِشْرٍ، إذْ لَعَلَّهُ فَاسِدٌ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ (9).
وَإِنَّمَا الْغَرَرُ مَا أَجَزْتُمُوهُ مِنْ بَيْعِ الْمُغَيَّبَاتِ الَّتِي لَمْ يَرَهَا أَحَدٌ قَطُّ (10).
مِنْ الْجَزَرِ، وَالْبَقْلِ، وَالْفُجْلِ، وَلَعَلَّهَا مُسْتَاسَةٌ أَوْ مَعْفُونَةٌ، وَمَا أَجَازَهُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ مِنْ بُطُونِ الْمَقَاثِي الَّتِي لَعَلَّهَا لاَ تُخْلَقُ أَبَدًا وَمِنْ لَبَنِ الْغَنَمِ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً، وَلَعَلَّهَا تَمُوتُ، أَوْ تُحَارَدُ، فَلاَ يَدُرُّ لَهَا شَخْبٌ. وَمِنْ بَيْعِ لَحْمِ شَاةٍ مَذْبُوحَةٍ لَمْ تُسْلَخْ بَعْدُ، فَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مَا صِفَتُهُ فَهَذَا وَأَشْبَاهُهُ هُوَ بَيْعُ الْغَرَرِ الْمُحَرَّمِ، وَقَدْ أَجَزْتُمُوهُ، لاَ مَا صَحَّ مِلْكُهُ، وَعُرِفَتْ صِفَاتُهُ(11).
------- الحاشية ---------
(1) ولكنْ شريطة القبْض والتمكين عندنا، أو التخْلية عندك، وذلك لا يكون إلا في المَبِيع الموجود المعلوم للبائع والمشتري جميعًا، أمَّا ما غاب عن البائع نفسه وخرَج عن حوْزَته-وليس عن ملْكه- فكيف تَطِيب نفْسُه بَيْعه لأخيه! وأيُّ شيء يظفَر به أخوه مِن تلك البيعة سوى استحقاق اسمها وحسب؟!
(2) لكن: محلُّ ذلك إذا كان المَبِيع معلومَ القدْرِ والصفة بين الطرفين جميعًا، وأين يكون هذا في بيع العبد الآبِق منذ خمسين سنة أو أكثر؟ أو البعير الشارِد منذ خمس سنين أو أكثر مُتدَاوِلات؟! أيُّ غَرَرٍ يكون أفحش مِن هذا في الدنيا؟!
وقضية التخلية هنا لا تمنع مِن الضرَر الحاصل بجهالة المَبِيع عينًا ووصْفًا لا محالة!
ونحن نسأل أبا محمد هنا: عن صفقة في بَيع عبدٍ موجود حال العقد ينظر إليه البائع والمشتري معًا، فلمَّا أبْرَمَا البيعَ وأراد المشتري استلام المبيع قال البائع للعبد: اهْرَبْ يا غلامُ مِن فَوْرِك ولا تَعُد! ففعل العبد وفَرَّ آبِقًا؛ ثم قال البائع للمشتري: شأنَك بعبدك فلَسْتُ أحول بينك وبين طلَبِه!
أليس يكون البائع قد حال بين المشترِي وبين ملْكه عندك وأنت تجعل الضمان في ذلك الوقت على المشترِي؟
فإن قلتَ: لا!
قلنا: هنا يسقط الكلام، لكونه مكابرة للحِسِّ والمشاهدة المعلومة بالضرورة.
وإن قلتَ: نعم. قد حال بينه وبين ملْكه.
قلنا: وهل أمَرَه البائع بأكثر مِن الإِباق يا قوم؟! فإن كان الإِباق يمنع التخْلية، فلا فَرْق بين حصولها بأمْرِه أو بأمْرِ سواه، طالما أن المانع مِن التخْلية موجود على كل حال هنا.
(3) [صحيح] سيأتي تخريجه قريبًا.
(4) وما قيمة هذا القدْر وتلك الصفة في عبدٍ هرَب يافِعًا ومضَى في إِباقه أكثر مِن ستين عامًا أو أكثر؟ أي صفة أو قَدْرٍ يبقى عند صاحبه مِن صفاته ومعرفته إنْ هو رآه يومًا من الدهر؟!
(5) واللهُ أرْحَم به مِن أن يُبِيح له أنْ يَرْمِي بماله في مَضْيَعة ثم يقعد ملُومًا محسورًا، وهو قد نهاه قبْلُ عن إضاعة المال!
(6) هذه مغالَطة مكشوفة جدًا، والحيوان هنا موجود معلوم القيمة والصفة عِلْمًا مستقرًّا عند البائع والمشتري جميعًا، فإذا قبَضَه المشتري فلا عليه مِن مغالطتك هنا؛ لأنها لو صحَّتْ لَمَا سَلِم بَيْع في الدنيا مِن الغرَر على هذا المنطق المَشْبوه قط!
وأين بَيْع المعلوم الموجود المقدور على تسليمه مِن بَيْع المجهول الغائب الذي لا يدرِي عنه البائع والمشترِي شيئًا؟!
(7) وكيف للبائع التيَقُّن من هذا في عبده الهارب -وهو يَفَعٌّ- مِن ستين عامًا أو أكثر؟ بأي شيء يصفه لمنْ يبيعه؟ وعلى أيِّ حال يظفر به المشترِي؟ وهل إذا رآه أصلًا بعد هذا يتبيَّن له منه شيء؟ فلا يكون هذا إلا طلَبَ المستحيل أو إعجازَ القادِر فيما لا يقدِر عليه؟
(8) هذه مغالطة أخرى غير مُجْدِيَةٍ في إصلاح الفاسد! لأنه إن كان المَبِيع موجودًا فنحن نشترِط تمكينَ المشتري منه وقبْضَه له وقْت بيعه، فإن وجَد منه غير ما يُوصَف له فهو وشأنه، إنْ شاء أمضَى البيع وإلا تنكَّب عنه.
وإنْ كان غائبًا إلا أنه موصوف؛ فالبيع صحيح عند جماعة، غير أنه يلزمه رؤيته، فإنْ وجَده على غير الصفة التي تمَّ البيع عليها؛ فله خيار الرؤية عند مَن يقول به، أو فسْخ العقد كله عندك نفْسَك أبا محمد، كما ذكرْتَ في بيع الغائب.
(9) هذا يوم المُغالَطات! والفرق أننا نخاصِمُك في المَبِيع المعدوم للبائع نفسه فضلًا عن المشتري، وأنت تُجادِل في المِبيع الحاضر المُشاهَد أو الغائب الموصوف قدْرًا وحالًا؟!
ومَنْعُ البيع خشية عَطَبِه في المستقبل: يُبْطِل كلَّ بيعٍ يكون في العالَم! لأنه ما مِن شيء إلا ويُخْشَى عليه مِن العَوارِض لا محالة.
لكن الخشية هنا: أمْر ظنِّي دائر بين الوقوع وعدَمه، لأن المَبِيع لا يزال أمامنا قائمًا في يد البائع أو المشتري على صفته الأولَى، وأين ذلك مما غاب عنهما جميعًا ولا يدركان صفته ولا كيف صار بعدما صار؟
أمَّا بيع البيض وغيره: فالجواب عنه ما يأتِي من قول أبي محمد نفسه: «وَأَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْبَيْضِ كَمَا هُوَ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مِنْهُ مَا فِي دَاخِلِهِ، وَدَخَلَ الْقِشْرُ فِي الْبَيْعِ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ»، ويُلِحق به الجوز واللوز على التحقيق.
فالتحقُّق مِن فساد البيض لا يكون إلا بإفساده على البائع، فصار معرفة ذلك متعذرًا لا محالة، ومثله الجوز-وكذا اللوز-؛ لكونه يفسد إنْ تُرِك مدة بعد قلْع قِشْرِه.
(10) هذا لازِم عند القائلين به، ولسنا منهم.
(11) مضى أن البائع لا سبيل له إلى إدراك تلك الصفات التي كان يعرف بها عبده الآبِق منذ عشرات السنين؟ فأيٌّ تمييز يقوم عنده إذا أراد بيْعه بعد ذلك؟ وما هذا إلا غرَرٌ مكشوف جدًا لا يرضاه الله ورسوله.
يُتابَع بقية المسألة: .....