قد ذهب المعتزلة والجهمية وبعض أهل البدع إلى أن الله لا يرى في الآخرة ، متعلقين ببعض الشبهات ، منها :
الشبهة الأولى : قالوا : قوله تعالى لموسى - عليه السلام - : ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143] ، قالوا : (لن) تفيدُ التأبيد .
الشبهة الثانية : قالوا : قوله -تعالى-: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103] ، قالوا : نفى الإدراك الذي هو نفي الرؤية .
الرد على الشبهة الأولى من وجوه :
1- أن (لن) لا تفيد التأبيد ؛ بدليل قوله - تعالى - في اليهود : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة : 6 - 7] ، ومع ذلك فإنهم يتمنَّونه في الآخرة وهم في النار؛ كما في قوله - تعالى - : ﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزخرف: 77] .
وقال ابن مالك :
ومَن يرى النفيَ بلنْ مؤبَّدَا
فقوله اردُدْ وسِوَاه فاعضُدَا
2- أن الله قال : ﴿ لَنْ تَرَانِي ﴾ ، ولم يقل : إني لا أُرى ، أو لا يجوز رؤيتي ، أو لست بمرئي ، والفرق بينهما ظاهر، وفيه دليل على أن الله يُرى ، ولكن موسى - عليه السلام - لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار ؛ لضعفِ قوى البشر عن رؤيته ، بدليل أنه - تعالى - لما تجلَّى للجبل ، حصل للجبل ما حصل من الاندكاك .
3- أن الرؤية لو كانت محالة ، ما طلبها موسى - عليه السلام - وهو كليم الله ، وهو أعلم الناس بما يجوز وما لا يجوز على الله ؛ ومع ذلك لم ينكر الله - سبحانه وتعالى - السؤالَ على موسى ، ولو كان غيرَ جائز ، لأنكره الله عليه .
4 - أنه تعالى تجلَّى للجبل ، وهو جماد ، لا ثواب ولا عقاب له ، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته .
5 - وعلى فرض أن هذه الآية فيها شيء من النقاش ، فلا تَعْدُو أن تكون من المتشابه ، وقد تقرَّر في علم الأصول أن المتشابه يُرَدُّ إلى المُحكَم ، والأدلة المُثبِتة للرؤية من الكتاب والسنة كثيرة ومؤيَّدة بالإجماع ، وهذا التسليم جدلي ، وإلا فالآية من المُحكَم، والحمد لله رب العالمين .
الرد على الشبهة الثانية :
قال أهل السنة والجماعة : إن المنفي في الآية : ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ﴾ إنما هو الإدراك لا الرؤية ، وثَمَّة فرق بين الإدراك والرؤية ؛ فالإدراك شيء زائد على الرؤية ، فإن الله يُرَى ولا يُدرَك ، كما أنه يُعلَم ولا يُحَاطُ به علمًا ، فكل إدراك رؤية ، وليس كل رؤية إدراكًا ، كما في قوله - تعالى - على لسان قوم موسى : ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء : 61، 62] .
بل نقول - ولله الحمد والمنة - :
إن هذه الآية حجَّة لنا لا علينا ؛ لأنه إذ لو لم يكن هناك رؤية أصلًا ، لما نفى الإدراك ، كما أن الله - سبحانه تعالى - ذكرها في سياق المدح ، ومعلوم أن المدح يكون بالصفات الثبوتية ؛ فالنفي الذي يتضمَّن إثباتًا يكون مدحًا . انظر : إتحاف أهل الألباب بمعرفة التوحيد في سؤال وجواب (2/ 73 - 74) ؛ لوليد بن راشد السعيدان ، وماذا يعني انتمائي لأهل السنة والجماعة (45 - 47) للعزازي - حفظه الله .
• اعلم أن رؤية المؤمنين ربَّهم تكون يوم القيامة ، وأما في الدنيا ، فلا يراه أحد ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (تعلَّموا أنه لن يرى أحد منكم ربَّه - عز وجل - حتى يموت) . مسلم (169) باب ذكر ابن صياد، والترمذي (2235) من حديث عبدالله بن عمر .
، وبمفهوم المخالفة إذًا الرؤية ممكنة بعد الموت ؛ أي : يوم القيامة .