تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 21

الموضوع: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    جاءني هذا السؤال من الدكتور أحمد درويش من مصر:
    شيخنا حفظكم الله.
    في قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] ما وجه ذكر تسع آيات فقط وهي أكثر من ذلك؟
    والجواب:
    {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}
    {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَ ا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
    أما بعد
    فإن الله سبحانه وتعالى إنما يرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله؛ كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
    والهدى: هو هداية الخلق إلى الحق، وإرشادهم إليه. وهذا لا يكون إلا بالآيات الدالة على أنّ هذا هدى، وأما مجرّد الخبر الذي لم يقم دليل على أنّه حقّ؛ فليس بهدى.
    ولذلك فإن الله سبحانه يذكر أنّه أرسل الأنبياء بالآيات البينات؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال عن يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال عن موسى عليه السلام: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال عن عيسى عليه السلام: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}، وقال تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وغير ذلك من الآيات.
    وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ»
    فالآيات هي دلائل النبوة التي يؤمن على مثلها البشر، ويكون فيها من التحدّي ما يعجز عن مثله البشر، وهي علامات من الله أنّه أرسل الرسول.
    وكما أنّ الآيات الكلاميّة كالقرآن تتضمّن الخبر والأمر؛ ففيها الإعلام والإلزام؛ فكذلك الآيات الفعلية كآيات موسى تتضمّن الخبر بأنّ هذا رسول الله، والأمر بطاعته فيما يأمر به؛ ففيها الإعلام والإلزام.
    ومَن هدى الناس إلى أن يعلموا صدق رسول يُرسله بعض خلقِه إليهم بعلامات يعرفون بها صدق ذلك الرسول، فهو أقدر على أن يُعلمهم صدق رسوله بعلامات يعرفون بها صدقه، وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدّم بينهم وبينه مواطأة.
    ولذلك كان المكذّبون للرسل يُطالبون رسلهم بالآيات؛ كقول قوم صالح له: {إِنَّما أَنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَر مِثْلنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقين}، وكقول فرعون لموسى: {فأت بآية إن كنت من الصادقين}.
    وقد ذكر الله في قصة موسى مع فرعون أنّه جاء معه بتسع آيات بينات؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}، وقال سبحانه: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} وليس المراد بالآيات هنا كتابًا منزلًا؛ فإنّ موسى لمّا ذهب إلى فرعون لم تكن التوراة قد أُنزلت، وإنّما أُنزلت التوراة بعد أن غرق فرعون، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القُرُونَ الأُوْلَى بَصَائِرَ للنَّاسِ وَهُدَى}.
    فما جاء في بعض الأحاديث من تعيين هذه الآيات أنها آيات من التوراة؛ كما روى الخمسة إلا أبو داود من حديث صفوان بن عسال أن يهوديين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات فقال: «لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، وَلاَ تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلاَ تَسْحَرُوا، وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلاَ تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلاَ تُوَلُّوا الفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً اليَهُودَ أَنْ لاَ تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ»
    فهذا حديث منكر كما قال النسائي؛ تفرد به عبد الله بن سلمة عن صفوان، وهو متروك الحديث، وقد خلط وصايا موسى بآياته، وخفي أمره على الترمذي فصحّح الحديث.
    المقصود أن هذه الآيات التسع إنما جاء بها موسى إلى فرعون وقومه، فلا يدخل فيها ما جاء بعد هلاكه من الآيات وأعظمها التوراة، فجميع هذه الآيات التسع كانت آيات فعلية أعجزت فرعون ومن معه، ولولا اتباع الهوى لآمنوا بها ولكنهم استكبروا {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.
    وقد جاءت روايات كثيرة عن أهل التفسير في تعيين هذه الآيات التسع؛ وقد يظنّ من لا علم له لكثرة هذه الروايات أن أئمة التفسير قد اختلفوا في تعيين هذه الآيات التسع، كما يظن ذلك في كثير من مواطن التفسير، والصحيح أنهم اتفقوا على سبع آيات، وإنما حصل الخلاف في اثنتين تمام التسعة، وهكذا الحال دائما عند الأئمة أنهم يتفقون على الغالب وإنما يختلفون في اليسير، فيأتي الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون مواطن الخلاف ويركّزون عليها حتى يُوهموا من لا علم له أن مسائل الدين كلها خلاف لا اتفاق فيها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
    وسأحصر هنا جميع ما جاء عنهم في تعيين هذه الآيات، أقدّم أولا الآيات السبع المتفق عليها، ثم أتبعها بالمختلف فيها؛ فأبيّن الراجح منها في تتمة التسعة بأدلته إن شاء الله تعالى.
    أولا: الآيات السبع المتفق عليها:
    --
    الآية الأولى والثانية: اليد والعصا
    --
    قال تعالى لنبيه موسى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (*) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (*) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}، وقال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (*) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}، فهذان نصّان صريحان في دخول هاتين الآيتين في الآيات التسع.
    --
    الآيات من الثالثة إلى السابعة: الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم
    --
    قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ وَالقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمَاً مُجْرِمِينَ} فهذا نص صريح في أن هذه الخمس من جملة الآيات المفصلات.
    ...
    ثانيا: الآيات المختلف فيها:
    --
    حصل الخلاف في تعيين الآيتين الأخريين؛ وأذكر هنا جميع ما ورد من ذلك:
    (1) الحجر؛ وهو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}
    (2) البحر؛ وهو المذكور في قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}
    (3) حل عقدة لسانه؛ وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (*) يَفْقَهُوا قَوْلِي}
    (4، 5) السنون ونقص الثمرات؛ وهما المذكوران في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}
    (6) الطمسة؛ وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} فطمس الله على مال فرعون بدعوة موسى فصار حجارة.
    وبعضهم جعل العصا أيتين: مرة عندما صارت ثعبانا مبينا، ومرة أخرى لما صارت حيّة تلقف ما يأفكون، وهذا لا يعتدّ به لاتفاق جمهور المفسرين على أن العصا آية واحدة.
    ...
    ونناقش هنا كل واحدة مما سبق لنحاول الوصول إلى الراجح منها لإكمال عدة الآيات التسع:
    --
    (1) الحجر: وهو آية عظيمة؛ لكن عدّه في الآيات التسع وهم من قائله لأمور:
    الأول: الحجر كان آية لبني إسرائيل {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}ول يكن آية لفرعون وقومه؛ والصفة الجامعة لهذه الآيات التسع هي كونها آيات لفرعون وقومه؛ كما قال تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ}.
    الثاني: آية الحجر لم تُعرف إلا بعد هلاك فرعون وقومه بالغرق، فهذا الحجر له قصة مع موسى عليه السلام وهي ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ، إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ: وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى، فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الحَجَرِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الحَجَرُ، فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ، ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}
    فكان موسى بعد ذلك يحمل هذا الحجر معه أينما ذهب، وهو الذي ضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فشرب منها جميع بني اسرائيل {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}، ولذلك جاء في القرآن معرّفا (الحجر) مع أنه لم يسبق له ذكر في الآيات لأنه من المعهود الذهني؛ أي هذا الحجر المعين الذي كانت منه هذه الآية العظيمة حيث فرّ بالثوب بأمر الله تعالى ليبرئ موسى مما رماه به بنو إسرائيل.
    وواضح من سياق القصة أنها كانت بعد هلاك فرعون وقومه، ونجاة موسى ومعه بنو إسرائيل إذ قبل ذلك لم يكن موسى يجتمع معهم ولا يغتسل معهم بل كان يعيش في قصر فرعون، ولم يكونوا ليرموه بذلك وهم تحت وطأة فرعون، وكذلك حاجة بنو إسرائيل للماء واستسقاؤهم لموسى إنما كان بعد نجاته من البحر وإقامتهم في صحراء سيناء، أما قبل ذلك فكانوا يعيشون في مصر ويشربون من ماء النيل فلا حاجة لهم لاستسقاء موسى.
    فلذلك لا يصلح الحجر للدخول في الآيات التسع؛ بل يكون مثله كمثل المنّ والسلوى وتظليل الغمام وإحياء النفس بضربها وغيرها من الآيات التي كانت بعد هلاك فرعون فلم تدخل في التسع مع عظم شأنها.
    --
    (2) البحر: وهو آية عظيمة ومعجزة باهرة، لكنه كان عند هلاك فرعون، فهل يدخل في كونه آية له؟
    الصحيح أنه لا يدخل في الآيات التسع لأمور:
    الأول: قول الله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (*) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}، فهذا دليل على أنهم كذّبوا بالآيات التسع ووصفوها جميعا بالسحر، وهذا لا يمكن تحقّقه في آية البحر لأنهم ما رأوها إلا عند هلاكهم بالغرق فيه.
    الثاني: أن الآيات الغاية منها هداية الخلق للحق وتعريفهم بصدق الرسول وتخويفهم من مخالفته؛ كما قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}، وآية البحر إنما كانت لنجاة موسى ومَن معه، وهلاك فرعون ومَن معه، فمثلها كمثل الريح لهود، والرجفة لصالح، والحجارة للوط، والصيحة لشعيب، وغيرها من الآيات التي جاءت لهلاك المكذّبين للرسل.
    الثالث: قال تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} فجعل الله إغراقهم عقوبة على تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها، فلا يكون ذلك الإغراق داخلًا في الآيات نفسها.
    الرابع: يمكن أن يقال: إن هذه الآية داخلة في آية العصا؛ لأن البحر ما انفلق إلا عندما ضربه موسى بعصاه، وهذا كان يمكن قوله أيضا في آية الحجر، لكننا لم نذكره هناك؛ لوضوح كونها بعد هلاك فرعون.
    --
    (3) حل عقدة لسانه؛ وهي آية بينة ومعجزة باهرة، وكان موسى عليه السلام قبل ذلك فيه عُجمة عن الكلام بسبب جمرة نار أدخلها في فيه حين أخذ وهو بلحية فرعون وهو صغير لا يعقل، فقال فرعون: هذا عدو لي، فقالت له امرأته لتردّ عقوبته عن موسى: إنه لا يعقل. ووضعت أمامه الجمرة فتناولها، فهدأ فرعون. ثبت ذلك عن سعيد بن جبير ومجاهد والسدّي وغيرهم.
    فلما أمره الله أن يذهب إلى فرعون خشي أن تكون هذه العُجمة عائقا له عن بلاغ الحق فدعا ربه قائلا: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (*) يَفْقَهُوا قَوْلِي} فقال الله له: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}، فأصبح أفصح الناس في وقته لسانا وأحسنهم منطقا، فلما جاء فرعونَ وناظره، تعجّب هو ومن معه من فصاحة موسى، فأراد فرعون أن يُلهي الناس عن هذه الآية العظيمة فقال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} فرماه بالعُجمة التي كانت في لسانه من قبلُ، لكن ذلك لم يُفلح أمام فصاحة موسى التي أوتيها مع قوة حجته، فبدأ فرعون في مناظرته، {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (*) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} فبدأ فرعون يُشغّب على كلامه ليقطع الناس عن السماع له {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} كأنه يقول لا تستمعوا له، لكن موسى لم يلتفت إلى كلامه وأكمل حجته بلسانه الفصيح، {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}، فلم يجد فرعون بُدًّا من إكمال المناظرة، {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (*) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (*) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (*) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (*) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (*) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} فجعل الله سبحانه وتعالى فصاحة موسى وقوة حجته من الآيات التي رآها فرعون وكذّب بها، فلا ريب أنها داخلة في الآيات التسع، فتكون هي الآية الثامنة.
    --
    (4، 5) السنون ونقص الثمرات؛ وهما آيتان، بل آية واحدة عظيمة لكونهما متلازمتين، فأما السنون وهي الجدب والقحط فكانت في باديتهم وأهل مواشيهم، وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم وقُراهم، والمقصود بذلك ما اعتراهم من الجوع والشدّة وكدَر العيش مع كونهم أهل زراعة ورعي وعندهم النيل يوفّر لهم الماء طول العام فلا يظمئون ولا يجوعون، وقد رأوا أنهم لا يصيبهم الجوع أبدا لذلك، مع ما تتناقله الأجيال عما حصل في عهد يوسف حيث أطعمت مصر أهل الأرض جميعا لمّا أصابهم القحط والسنون، فما ظنّوا أن تصيبهم السنون كغيرهم، وذِكر يوسف وما كان معه من الآيات كان معروفا في عصر فرعون؛ كما قال مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}.
    فهاتان الآيتان داخلتان في الآيات التسع بلا ريب لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} والذكرى إنما تكون بالآيات لا بغيرها، لكنهما آية واحدة لقوله بعد ذلك: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (*) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} فجعلهما الله آية واحدة، وهذا منقول عن كثير من أئمة التفسير كالحسن البصري ومجاهد وغيرهما حيث عدّوهما آية واحدة، بينما قال بعد ذلك: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} فجعل هذه آيات بينما جعل تلك آية واحدة، فيكون (الأخذ بالسنين ونقص من الثمرات) هو الآية التاسعة.
    (6) وأما الطمسة فهي داخلة في هذه الآية أيضا؛ لكون طمس الأموال -أي مسخها- مع السنين ونقص الثمرات، جميعهم سبب لكدَر العيش الذي عانوا منه؛ كما قال الله تعالى بعد ذِكر هذه الآيات: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (*) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}
    --
    وعلى ذلك فتكون عدّة الآيات التسع البيّنات التي جاء بها موسى إلى فرعون وقومه هي:
    يده، وعصاه، وفصاحة لسانه، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنون ونقص الثمرات والطمس، آيات مفصلات بيّنات، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
    وكتبه
    أبو عبد الله​
    عيد بن فهمي بن محمد بن علي
    الحسيني الهاشمي

  2. افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    بارك الله فيكم، ونفع بكم، شيخ عيد.
    أبو عاصم أحمد بن سعيد بلحة.
    حسابي على الفيس:https://www.facebook.com/profile.php?id=100011072146761
    حسابي علي تويتر:
    https://twitter.com/abuasem_said80

  3. افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    الظاهر أن الموضوع لم يكتمل هنا، أليس كذلك يا مولانا؟
    أبو عاصم أحمد بن سعيد بلحة.
    حسابي على الفيس:https://www.facebook.com/profile.php?id=100011072146761
    حسابي علي تويتر:
    https://twitter.com/abuasem_said80

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    Lightbulb رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    كأن الموضوع لم يظهر كاملا لخلل ما، وهنا إعادة إجابة السؤال:
    والجواب:
    {الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}
    {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَ ا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
    أما بعد
    فإن الله سبحانه وتعالى إنما يرسل رسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله؛ كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
    والهدى: هو هداية الخلق إلى الحق، وإرشادهم إليه. وهذا لا يكون إلا بالآيات الدالة على أنّ هذا هدى، وأما مجرّد الخبر الذي لم يقم دليل على أنّه حقّ؛ فليس بهدى.
    ولذلك فإن الله سبحانه يذكر أنّه أرسل الأنبياء بالآيات البينات؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال عن يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال عن موسى عليه السلام: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال عن عيسى عليه السلام: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}، وقال تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وغير ذلك من الآيات.
    وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ»
    فالآيات هي دلائل النبوة التي يؤمن على مثلها البشر، ويكون فيها من التحدّي ما يعجز عن مثله البشر، وهي علامات من الله أنّه أرسل الرسول.
    وكما أنّ الآيات الكلاميّة كالقرآن تتضمّن الخبر والأمر؛ ففيها الإعلام والإلزام؛ فكذلك الآيات الفعلية كآيات موسى تتضمّن الخبر بأنّ هذا رسول الله، والأمر بطاعته فيما يأمر به؛ ففيها الإعلام والإلزام.
    ومَن هدى الناس إلى أن يعلموا صدق رسول يُرسله بعض خلقِه إليهم بعلامات يعرفون بها صدق ذلك الرسول، فهو أقدر على أن يُعلمهم صدق رسوله بعلامات يعرفون بها صدقه، وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدّم بينهم وبينه مواطأة.
    ولذلك كان المكذّبون للرسل يُطالبون رسلهم بالآيات؛ كقول قوم صالح له: {إِنَّما أَنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَر مِثْلنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقين}، وكقول فرعون لموسى: {فأت بآية إن كنت من الصادقين}.
    وقد ذكر الله في قصة موسى مع فرعون أنّه جاء معه بتسع آيات بينات؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}، وقال سبحانه: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} وليس المراد بالآيات هنا كتابًا منزلًا؛ فإنّ موسى لمّا ذهب إلى فرعون لم تكن التوراة قد أُنزلت، وإنّما أُنزلت التوراة بعد أن غرق فرعون، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القُرُونَ الأُوْلَى بَصَائِرَ للنَّاسِ وَهُدَى}.
    فما جاء في بعض الأحاديث من تعيين هذه الآيات أنها آيات من التوراة؛ كما روى الخمسة إلا أبو داود من حديث صفوان بن عسال أن يهوديين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات فقال: «لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، وَلاَ تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلاَ تَسْحَرُوا، وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلاَ تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلاَ تُوَلُّوا الفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً اليَهُودَ أَنْ لاَ تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ»
    فهذا حديث منكر كما قال النسائي؛ تفرد به عبد الله بن سلمة عن صفوان، وهو متروك الحديث، وقد خلط وصايا موسى بآياته، وخفي أمره على الترمذي فصحّح الحديث.
    المقصود أن هذه الآيات التسع إنما جاء بها موسى إلى فرعون وقومه، فلا يدخل فيها ما جاء بعد هلاكه من الآيات وأعظمها التوراة، فجميع هذه الآيات التسع كانت آيات فعلية أعجزت فرعون ومن معه، ولولا اتباع الهوى لآمنوا بها ولكنهم استكبروا {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.
    وقد جاءت روايات كثيرة عن أهل التفسير في تعيين هذه الآيات التسع؛ وقد يظنّ من لا علم له لكثرة هذه الروايات أن أئمة التفسير قد اختلفوا في تعيين هذه الآيات التسع، كما يظن ذلك في كثير من مواطن التفسير، والصحيح أنهم اتفقوا على سبع آيات، وإنما حصل الخلاف في اثنتين تمام التسعة، وهكذا الحال دائما عند الأئمة أنهم يتفقون على الغالب وإنما يختلفون في اليسير، فيأتي الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون مواطن الخلاف ويركّزون عليها حتى يُوهموا من لا علم له أن مسائل الدين كلها خلاف لا اتفاق فيها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}
    وسأحصر هنا جميع ما جاء عنهم في تعيين هذه الآيات، أقدّم أولا الآيات السبع المتفق عليها، ثم أتبعها بالمختلف فيها؛ فأبيّن الراجح منها في تتمة التسعة بأدلته إن شاء الله تعالى.
    أولا: الآيات السبع المتفق عليها:
    --
    الآية الأولى والثانية: اليد والعصا
    --
    قال تعالى لنبيه موسى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (*) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (*) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}، وقال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (*) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}، فهذان نصّان صريحان في دخول هاتين الآيتين في الآيات التسع.
    --
    الآيات من الثالثة إلى السابعة: الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم
    --
    قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ وَالقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمَاً مُجْرِمِينَ} فهذا نص صريح في أن هذه الخمس من جملة الآيات المفصلات.
    ...
    ثانيا: الآيات المختلف فيها:
    --
    حصل الخلاف في تعيين الآيتين الأخريين؛ وأذكر هنا جميع ما ورد من ذلك:
    (1) الحجر؛ وهو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}
    (2) البحر؛ وهو المذكور في قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}
    (3) حل عقدة لسانه؛ وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (*) يَفْقَهُوا قَوْلِي}
    (4، 5) السنون ونقص الثمرات؛ وهما المذكوران في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}
    (6) الطمسة؛ وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} فطمس الله على مال فرعون بدعوة موسى فصار حجارة.
    وبعضهم جعل العصا أيتين: مرة عندما صارت ثعبانا مبينا، ومرة أخرى لما صارت حيّة تلقف ما يأفكون، وهذا لا يعتدّ به لاتفاق جمهور المفسرين على أن العصا آية واحدة.
    ...
    ونناقش هنا كل واحدة مما سبق لنحاول الوصول إلى الراجح منها لإكمال عدة الآيات التسع:
    --
    (1) الحجر: وهو آية عظيمة؛ لكن عدّه في الآيات التسع وهم من قائله لأمور:
    الأول: الحجر كان آية لبني إسرائيل {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}ول يكن آية لفرعون وقومه؛ والصفة الجامعة لهذه الآيات التسع هي كونها آيات لفرعون وقومه؛ كما قال تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ}.
    الثاني: آية الحجر لم تُعرف إلا بعد هلاك فرعون وقومه بالغرق، فهذا الحجر له قصة مع موسى عليه السلام وهي ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ، إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ: وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى، فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الحَجَرِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الحَجَرُ، فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ، ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}
    فكان موسى بعد ذلك يحمل هذا الحجر معه أينما ذهب، وهو الذي ضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فشرب منها جميع بني اسرائيل {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}، ولذلك جاء في القرآن معرّفا (الحجر) مع أنه لم يسبق له ذكر في الآيات لأنه من المعهود الذهني؛ أي هذا الحجر المعين الذي كانت منه هذه الآية العظيمة حيث فرّ بالثوب بأمر الله تعالى ليبرئ موسى مما رماه به بنو إسرائيل.
    وواضح من سياق القصة أنها كانت بعد هلاك فرعون وقومه، ونجاة موسى ومعه بنو إسرائيل إذ قبل ذلك لم يكن موسى يجتمع معهم ولا يغتسل معهم بل كان يعيش في قصر فرعون، ولم يكونوا ليرموه بذلك وهم تحت وطأة فرعون، وكذلك حاجة بنو إسرائيل للماء واستسقاؤهم لموسى إنما كان بعد نجاته من البحر وإقامتهم في صحراء سيناء، أما قبل ذلك فكانوا يعيشون في مصر ويشربون من ماء النيل فلا حاجة لهم لاستسقاء موسى.
    فلذلك لا يصلح الحجر للدخول في الآيات التسع؛ بل يكون مثله كمثل المنّ والسلوى وتظليل الغمام وإحياء النفس بضربها وغيرها من الآيات التي كانت بعد هلاك فرعون فلم تدخل في التسع مع عظم شأنها.
    --
    (2) البحر: وهو آية عظيمة ومعجزة باهرة، لكنه كان عند هلاك فرعون، فهل يدخل في كونه آية له؟
    الصحيح أنه لا يدخل في الآيات التسع لأمور:
    الأول: قول الله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (*) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}، فهذا دليل على أنهم كذّبوا بالآيات التسع ووصفوها جميعا بالسحر، وهذا لا يمكن تحقّقه في آية البحر لأنهم ما رأوها إلا عند هلاكهم بالغرق فيه.
    الثاني: أن الآيات الغاية منها هداية الخلق للحق وتعريفهم بصدق الرسول وتخويفهم من مخالفته؛ كما قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}، وآية البحر إنما كانت لنجاة موسى ومَن معه، وهلاك فرعون ومَن معه، فمثلها كمثل الريح لهود، والرجفة لصالح، والحجارة للوط، والصيحة لشعيب، وغيرها من الآيات التي جاءت لهلاك المكذّبين للرسل.
    الثالث: قال تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} فجعل الله إغراقهم عقوبة على تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها، فلا يكون ذلك الإغراق داخلًا في الآيات نفسها.
    الرابع: يمكن أن يقال: إن هذه الآية داخلة في آية العصا؛ لأن البحر ما انفلق إلا عندما ضربه موسى بعصاه، وهذا كان يمكن قوله أيضا في آية الحجر، لكننا لم نذكره هناك؛ لوضوح كونها بعد هلاك فرعون.
    --
    (3) حل عقدة لسانه؛ وهي آية بينة ومعجزة باهرة، وكان موسى عليه السلام قبل ذلك فيه عُجمة عن الكلام بسبب جمرة نار أدخلها في فيه حين أخذ وهو بلحية فرعون وهو صغير لا يعقل، فقال فرعون: هذا عدو لي، فقالت له امرأته لتردّ عقوبته عن موسى: إنه لا يعقل. ووضعت أمامه الجمرة فتناولها، فهدأ فرعون. ثبت ذلك عن سعيد بن جبير ومجاهد والسدّي وغيرهم.
    فلما أمره الله أن يذهب إلى فرعون خشي أن تكون هذه العُجمة عائقا له عن بلاغ الحق فدعا ربه قائلا: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (*) يَفْقَهُوا قَوْلِي} فقال الله له: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}، فأصبح أفصح الناس في وقته لسانا وأحسنهم منطقا، فلما جاء فرعونَ وناظره، تعجّب هو ومن معه من فصاحة موسى، فأراد فرعون أن يُلهي الناس عن هذه الآية العظيمة فقال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} فرماه بالعُجمة التي كانت في لسانه من قبلُ، لكن ذلك لم يُفلح أمام فصاحة موسى التي أوتيها مع قوة حجته، فبدأ فرعون في مناظرته، {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (*) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} فبدأ فرعون يُشغّب على كلامه ليقطع الناس عن السماع له {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} كأنه يقول لا تستمعوا له، لكن موسى لم يلتفت إلى كلامه وأكمل حجته بلسانه الفصيح، {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}، فلم يجد فرعون بُدًّا من إكمال المناظرة، {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (*) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (*) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (*) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (*) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (*) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} فجعل الله سبحانه وتعالى فصاحة موسى وقوة حجته من الآيات التي رآها فرعون وكذّب بها، فلا ريب أنها داخلة في الآيات التسع، فتكون هي الآية الثامنة.
    --
    (4، 5) السنون ونقص الثمرات؛ وهما آيتان، بل آية واحدة عظيمة لكونهما متلازمتين، فأما السنون وهي الجدب والقحط فكانت في باديتهم وأهل مواشيهم، وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم وقُراهم، والمقصود بذلك ما اعتراهم من الجوع والشدّة وكدَر العيش مع كونهم أهل زراعة ورعي وعندهم النيل يوفّر لهم الماء طول العام فلا يظمئون ولا يجوعون، وقد رأوا أنهم لا يصيبهم الجوع أبدا لذلك، مع ما تتناقله الأجيال عما حصل في عهد يوسف حيث أطعمت مصر أهل الأرض جميعا لمّا أصابهم القحط والسنون، فما ظنّوا أن تصيبهم السنون كغيرهم، وذِكر يوسف وما كان معه من الآيات كان معروفا في عصر فرعون؛ كما قال مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}.
    فهاتان الآيتان داخلتان في الآيات التسع بلا ريب لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} والذكرى إنما تكون بالآيات لا بغيرها، لكنهما آية واحدة لقوله بعد ذلك: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (*) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} فجعلهما الله آية واحدة، وهذا منقول عن كثير من أئمة التفسير كالحسن البصري ومجاهد وغيرهما حيث عدّوهما آية واحدة، بينما قال بعد ذلك: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} فجعل هذه آيات بينما جعل تلك آية واحدة، فيكون (الأخذ بالسنين ونقص من الثمرات) هو الآية التاسعة.
    (6) وأما الطمسة فهي داخلة في هذه الآية أيضا؛ لكون طمس الأموال -أي مسخها- مع السنين ونقص الثمرات، جميعهم سبب لكدَر العيش الذي عانوا منه؛ كما قال الله تعالى بعد ذِكر هذه الآيات: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (*) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}
    --
    وعلى ذلك فتكون عدّة الآيات التسع البيّنات التي جاء بها موسى إلى فرعون وقومه هي:
    يده، وعصاه، وفصاحة لسانه، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنون ونقص الثمرات والطمس، آيات مفصلات بيّنات، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
    وكتبه
    أبو عبد الله​
    عيد بن فهمي بن محمد بن علي
    الحسيني الهاشمي

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
    والهدى: هو هداية الخلق إلى الحق، وإرشادهم إليه. وهذا لا يكون إلا بالآيات الدالة على أنّ هذا هدى، وأما مجرّد الخبر الذي لم يقم دليل على أنّه حقّ؛ فليس بهدى.

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    ولذلك فإن الله سبحانه يذكر أنّه أرسل الأنبياء بالآيات البينات؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال عن يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال عن موسى عليه السلام: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ }، وقال عن عيسى عليه السلام: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}، وقال تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وغير ذلك من الآيات.
    وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ»

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    فالآيات هي دلائل النبوة التي يؤمن على مثلها البشر، ويكون فيها من التحدّي ما يعجز عن مثله البشر، وهي علامات من الله أنّه أرسل الرسول.
    وكما أنّ الآيات الكلاميّة كالقرآن تتضمّن الخبر والأمر؛ ففيها الإعلام والإلزام؛ فكذلك الآيات الفعلية كآيات موسى تتضمّن الخبر بأنّ هذا رسول الله، والأمر بطاعته فيما يأمر به؛ ففيها الإعلام والإلزام.
    ومَن هدى الناس إلى أن يعلموا صدق رسول يُرسله بعض خلقِه إليهم بعلامات يعرفون بها صدق ذلك الرسول، فهو أقدر على أن يُعلمهم صدق رسوله بعلامات يعرفون بها صدقه، وإن لم يكن قبل ذلك قد تقدّم بينهم وبينه مواطأة.

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    ولذلك كان المكذّبون للرسل يُطالبون رسلهم بالآيات؛ كقول قوم صالح له: {إِنَّما أَنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَر مِثْلنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقين}، وكقول فرعون لموسى: {فأت بآية إن كنت من الصادقين}.
    وقد ذكر الله في قصة موسى مع فرعون أنّه جاء معه بتسع آيات بينات؛ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}، وقال سبحانه: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ} وليس المراد بالآيات هنا كتابًا منزلًا؛ فإنّ موسى لمّا ذهب إلى فرعون لم تكن التوراة قد أُنزلت، وإنّما أُنزلت التوراة بعد أن غرق فرعون، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القُرُونَ الأُوْلَى بَصَائِرَ للنَّاسِ وَهُدَى}.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    فما جاء في بعض الأحاديث من تعيين هذه الآيات أنها آيات من التوراة؛ كما روى الخمسة إلا أبو داود من حديث صفوان بن عسال أن يهوديين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات فقال: «لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ، وَلاَ تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلاَ تَسْحَرُوا، وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلاَ تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلاَ تُوَلُّوا الفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً اليَهُودَ أَنْ لاَ تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ»
    فهذا حديث منكر كما قال النسائي؛ تفرد به عبد الله بن سلمة عن صفوان، وهو متروك الحديث، وقد خلط وصايا موسى بآياته، وخفي أمره على الترمذي فصحّح الحديث.

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    المقصود أن هذه الآيات التسع إنما جاء بها موسى إلى فرعون وقومه، فلا يدخل فيها ما جاء بعد هلاكه من الآيات وأعظمها التوراة، فجميع هذه الآيات التسع كانت آيات فعلية أعجزت فرعون ومن معه، ولولا اتباع الهوى لآمنوا بها ولكنهم استكبروا {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}.
    وقد جاءت روايات كثيرة عن أهل التفسير في تعيين هذه الآيات التسع؛ وقد يظنّ من لا علم له لكثرة هذه الروايات أن أئمة التفسير قد اختلفوا في تعيين هذه الآيات التسع، كما يظن ذلك في كثير من مواطن التفسير، والصحيح أنهم اتفقوا على سبع آيات، وإنما حصل الخلاف في اثنتين تمام التسعة، وهكذا الحال دائما عند الأئمة أنهم يتفقون على الغالب وإنما يختلفون في اليسير، فيأتي الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون مواطن الخلاف ويركّزون عليها حتى يُوهموا من لا علم له أن مسائل الدين كلها خلاف لا اتفاق فيها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    وسأحصر هنا جميع ما جاء عنهم في تعيين هذه الآيات، أقدّم أولا الآيات السبع المتفق عليها، ثم أتبعها بالمختلف فيها؛ فأبيّن الراجح منها في تتمة التسعة بأدلته إن شاء الله تعالى.
    أولا: الآيات السبع المتفق عليها:

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    الآية الأولى والثانية: اليد والعصا
    --
    قال تعالى لنبيه موسى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (*) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (*) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}، وقال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (*) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}، فهذان نصّان صريحان في دخول هاتين الآيتين في الآيات التسع.

  13. #13
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    الآيات من الثالثة إلى السابعة: الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم
    --
    قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالجَرَادَ وَالقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمَاً مُجْرِمِينَ} فهذا نص صريح في أن هذه الخمس من جملة الآيات المفصلات.

  14. #14
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    ثانيا: الآيات المختلف فيها:
    --
    حصل الخلاف في تعيين الآيتين الأخريين؛ وأذكر هنا جميع ما ورد من ذلك:
    (1) الحجر؛ وهو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا}
    (2) البحر؛ وهو المذكور في قوله تعالى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}
    (3) حل عقدة لسانه؛ وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (*) يَفْقَهُوا قَوْلِي}
    (4، 5) السنون ونقص الثمرات؛ وهما المذكوران في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}
    (6) الطمسة؛ وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} فطمس الله على مال فرعون بدعوة موسى فصار حجارة.
    وبعضهم جعل العصا أيتين: مرة عندما صارت ثعبانا مبينا، ومرة أخرى لما صارت حيّة تلقف ما يأفكون، وهذا لا يعتدّ به لاتفاق جمهور المفسرين على أن العصا آية واحدة.

  15. #15
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    ونناقش هنا كل واحدة مما سبق لنحاول الوصول إلى الراجح منها لإكمال عدة الآيات التسع:
    --
    (1) الحجر: وهو آية عظيمة؛ لكن عدّه في الآيات التسع وهم من قائله لأمور:
    الأول: الحجر كان آية لبني إسرائيل {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}ول يكن آية لفرعون وقومه؛ والصفة الجامعة لهذه الآيات التسع هي كونها آيات لفرعون وقومه؛ كما قال تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ}.
    الثاني: آية الحجر لم تُعرف إلا بعد هلاك فرعون وقومه بالغرق، فهذا الحجر له قصة مع موسى عليه السلام وهي ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا التَّسَتُّرَ، إِلَّا مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ: وَإِمَّا آفَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا لِمُوسَى، فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ، فَوَضَعَ ثِيَابَهُ عَلَى الحَجَرِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ الحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ وَطَلَبَ الحَجَرَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَلَإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَرَأَوْهُ عُرْيَانًا أَحْسَنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ، وَأَبْرَأَهُ مِمَّا يَقُولُونَ، وَقَامَ الحَجَرُ، فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ، وَطَفِقَ بِالحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصَاهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ بِالحَجَرِ لَنَدَبًا مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِ، ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}
    فكان موسى بعد ذلك يحمل هذا الحجر معه أينما ذهب، وهو الذي ضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فشرب منها جميع بني اسرائيل {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}، ولذلك جاء في القرآن معرّفا (الحجر) مع أنه لم يسبق له ذكر في الآيات لأنه من المعهود الذهني؛ أي هذا الحجر المعين الذي كانت منه هذه الآية العظيمة حيث فرّ بالثوب بأمر الله تعالى ليبرئ موسى مما رماه به بنو إسرائيل.
    وواضح من سياق القصة أنها كانت بعد هلاك فرعون وقومه، ونجاة موسى ومعه بنو إسرائيل إذ قبل ذلك لم يكن موسى يجتمع معهم ولا يغتسل معهم بل كان يعيش في قصر فرعون، ولم يكونوا ليرموه بذلك وهم تحت وطأة فرعون، وكذلك حاجة بنو إسرائيل للماء واستسقاؤهم لموسى إنما كان بعد نجاته من البحر وإقامتهم في صحراء سيناء، أما قبل ذلك فكانوا يعيشون في مصر ويشربون من ماء النيل فلا حاجة لهم لاستسقاء موسى.
    فلذلك لا يصلح الحجر للدخول في الآيات التسع؛ بل يكون مثله كمثل المنّ والسلوى وتظليل الغمام وإحياء النفس بضربها وغيرها من الآيات التي كانت بعد هلاك فرعون فلم تدخل في التسع مع عظم شأنها.

  16. #16
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    (2) البحر: وهو آية عظيمة ومعجزة باهرة، لكنه كان عند هلاك فرعون، فهل يدخل في كونه آية له؟
    الصحيح أنه لا يدخل في الآيات التسع لأمور:
    الأول: قول الله تعالى: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (*) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}، فهذا دليل على أنهم كذّبوا بالآيات التسع ووصفوها جميعا بالسحر، وهذا لا يمكن تحقّقه في آية البحر لأنهم ما رأوها إلا عند هلاكهم بالغرق فيه.
    الثاني: أن الآيات الغاية منها هداية الخلق للحق وتعريفهم بصدق الرسول وتخويفهم من مخالفته؛ كما قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}، وآية البحر إنما كانت لنجاة موسى ومَن معه، وهلاك فرعون ومَن معه، فمثلها كمثل الريح لهود، والرجفة لصالح، والحجارة للوط، والصيحة لشعيب، وغيرها من الآيات التي جاءت لهلاك المكذّبين للرسل.
    الثالث: قال تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} فجعل الله إغراقهم عقوبة على تكذيبهم بالآيات وغفلتهم عنها، فلا يكون ذلك الإغراق داخلًا في الآيات نفسها.
    الرابع: يمكن أن يقال: إن هذه الآية داخلة في آية العصا؛ لأن البحر ما انفلق إلا عندما ضربه موسى بعصاه، وهذا كان يمكن قوله أيضا في آية الحجر، لكننا لم نذكره هناك؛ لوضوح كونها بعد هلاك فرعون.

  17. #17
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    (3) حل عقدة لسانه؛ وهي آية بينة ومعجزة باهرة، وكان موسى عليه السلام قبل ذلك فيه عُجمة عن الكلام بسبب جمرة نار أدخلها في فيه حين أخذ وهو بلحية فرعون وهو صغير لا يعقل، فقال فرعون: هذا عدو لي، فقالت له امرأته لتردّ عقوبته عن موسى: إنه لا يعقل. ووضعت أمامه الجمرة فتناولها، فهدأ فرعون. ثبت ذلك عن سعيد بن جبير ومجاهد والسدّي وغيرهم.
    فلما أمره الله أن يذهب إلى فرعون خشي أن تكون هذه العُجمة عائقا له عن بلاغ الحق فدعا ربه قائلا: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (*) يَفْقَهُوا قَوْلِي} فقال الله له: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}، فأصبح أفصح الناس في وقته لسانا وأحسنهم منطقا، فلما جاء فرعونَ وناظره، تعجّب هو ومن معه من فصاحة موسى، فأراد فرعون أن يُلهي الناس عن هذه الآية العظيمة فقال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} فرماه بالعُجمة التي كانت في لسانه من قبلُ، لكن ذلك لم يُفلح أمام فصاحة موسى التي أوتيها مع قوة حجته، فبدأ فرعون في مناظرته، {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (*) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} فبدأ فرعون يُشغّب على كلامه ليقطع الناس عن السماع له {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} كأنه يقول لا تستمعوا له، لكن موسى لم يلتفت إلى كلامه وأكمل حجته بلسانه الفصيح، {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ}، فلم يجد فرعون بُدًّا من إكمال المناظرة، {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (*) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (*) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (*) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (*) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (*) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى} فجعل الله سبحانه وتعالى فصاحة موسى وقوة حجته من الآيات التي رآها فرعون وكذّب بها، فلا ريب أنها داخلة في الآيات التسع، فتكون هي الآية الثامنة.

  18. #18
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    (4، 5) السنون ونقص الثمرات؛ وهما آيتان، بل آية واحدة عظيمة لكونهما متلازمتين، فأما السنون وهي الجدب والقحط فكانت في باديتهم وأهل مواشيهم، وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم وقُراهم، والمقصود بذلك ما اعتراهم من الجوع والشدّة وكدَر العيش مع كونهم أهل زراعة ورعي وعندهم النيل يوفّر لهم الماء طول العام فلا يظمئون ولا يجوعون، وقد رأوا أنهم لا يصيبهم الجوع أبدا لذلك، مع ما تتناقله الأجيال عما حصل في عهد يوسف حيث أطعمت مصر أهل الأرض جميعا لمّا أصابهم القحط والسنون، فما ظنّوا أن تصيبهم السنون كغيرهم، وذِكر يوسف وما كان معه من الآيات كان معروفا في عصر فرعون؛ كما قال مؤمن آل فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}.
    فهاتان الآيتان داخلتان في الآيات التسع بلا ريب لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} والذكرى إنما تكون بالآيات لا بغيرها، لكنهما آية واحدة لقوله بعد ذلك: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (*) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} فجعلهما الله آية واحدة، وهذا منقول عن كثير من أئمة التفسير كالحسن البصري ومجاهد وغيرهما حيث عدّوهما آية واحدة، بينما قال بعد ذلك: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} فجعل هذه آيات بينما جعل تلك آية واحدة، فيكون (الأخذ بالسنين ونقص من الثمرات) هو الآية التاسعة.
    (6) وأما الطمسة فهي داخلة في هذه الآية أيضا؛ لكون طمس الأموال -أي مسخها- مع السنين ونقص الثمرات، جميعهم سبب لكدَر العيش الذي عانوا منه؛ كما قال الله تعالى بعد ذِكر هذه الآيات: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (*) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ}

  19. #19
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    790

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    وعلى ذلك فتكون عدّة الآيات التسع البيّنات التي جاء بها موسى إلى فرعون وقومه هي:
    يده، وعصاه، وفصاحة لسانه، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنون ونقص الثمرات والطمس، آيات مفصلات بيّنات، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
    وكتبه
    أبو عبد الله​
    عيد بن فهمي بن محمد بن علي
    الحسيني الهاشمي

  20. #20
    تاريخ التسجيل
    Oct 2007
    المشاركات
    17,333

    افتراضي رد: توفيق من الفتّاح العليم في بيان الآيات التسع لموسى الكليم

    جزاك الله خيرا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •