أسباب الإنتكاسة في كثير من أولاد الدعاة
فإنّ أعظم الشكاية وأكبر التّولول بين الدّعاة هو سوء أخلاق أبنائهم وسلوكهم في طرق الإعوجاج والغواية بينما يُؤمَّل أن يكونوا سادة المجتمع علماً وعملاً وإصلاحاً ودعوةً وكثيراً من الآباء يتمثّل بقول الشاعر:
كَمْ حَسْرَةٍ لِي فِي الْحَشَا * مِنْ وَلَدٍ إِذَا نَشَا
أَمَّلْتُ فِيهِ رُشْدَهُ * فَمَا نَشَا كَمَا أَشَا
وبعد تقليب النظر وإدارة الفكر ظهر لي أنّ أسباب ذلك كثيرة أهمّها ما يلي :

الأوّل : الشدّة الدّائمة في تربيّة الأولاد
إنّ ضغط الأبناء في وقت التربيّة وضربهم بدون سبب أو بسبب لكن ليس بقدر الجريمة مما يؤدّي أن يكون الأبناء إذا كبروا في شقّ غير شقّ أبويه وتفلتهم من أيديهم لأنّهم يرون أن الأبوين أسود ليس عندهم رحمة وشفقة .
واعلم أيها الأخ الكريم أنّ في قلوب أبنائك مزرعة فإذا زرعت فيه شدّة وغلظة فلا تحصد إلا الشدّة والغلظة وإذا زرعت في هذا الحقل رحمة وإحسان الأمّة وأن يحترم الآخرين تجد من محصودك ما يسرّك ويسرّ النّاظرين .

وأعلم أنّ الشدّة في مكانها واللّين في مكانه فلا تكن شديداً فلا لين فيه ولا شديداً في موضع اللين وليّناً في موضع الشدّة .

ودراك أن ضرب الأولاد للتربيّة جائز بشروط منها :
1-
أن يكون في غير الوجه والمقاتل مثل الفؤاد والخصيتين والعين والخاصرة والصدغ وأصل الأذن وتحت الضلع الأيسر الأسفل والكبد كما نصّ عليها مفتي المملكة الشيخ محمّد آل الشيخ – سابقاً - في فتاواه .
بل يضرب الكف والقدم لأثر مروان بن أبي شجاع قال كان إبراهيم بن أبي عبلة يؤدب ولد الوليد بن عبد الملك فخرج عليه الوليد يوما وقد حمل جارية على ظهر غلام وهو يضربها فقال له مه يا إبراهيم فإن الجواري لا يضربن على أعجازهن ولكن عليك بالقدم والكف "رواه ابن أبي الدّنيا في "العيال" بسند فيه مقال .

2- أن لا يمدّ ولا يربط عند التّأديب
وقال ابن قدامة في الحدود من كتاب المغني :" أنه لا يمد ولا يربط ولا نعلم عنهم في هذا خلافا قال ابن مسعود : ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم ينقل عن أحد منهم مد ولا قيد ولا تجريد ولا تنزع عنه ثيابه بل يكون عليه الثوب والثوبان وإن كان عليه فرو أو جبة محشوة نزعت عنه لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب قال أحمد : لو تركت عليه ثياب الشتاء ما بالى بالضرب" اهــ
3-ـ
أن يخبر الصبي سبب الضرب حتى لا يَرى أنّه يُضرب ظلماً
4- أن يكون الضرب بقدر الحاجة لأنّ أصل ضربهم لا يجوز وإنّما جُوِّز للحاجة والحاجة تقدّر بقدرها .
5-أن يكون مفيداً فإذا لا يفيد الضرب بل يزيد شرّ الولد فلا يُضرب لأنّ الضرب وسيلة إلى صلاح الإبن فإذا لا تَخدم الوسيلة إلى غايتها فلا يشرع بل يُسلك إلى طريق آخر لإصلاحهم .
6- سلامة العاقبة فإذا يكون الضرب سبباً للهلاك فلا يجوز وإذا أفضى إلى الهلاك وجب الضمان.
7-أن لا يضربه وهو غضبان
8 - أن لا يضربه حتى تبدو إبطه
عن أبي عثمان النهدي قال أتي عمر برجل في حد فأمر بسوط فجيء بسوط فيه شدة فقال أريد ألين من هذا فأتى بسوط فيه لين فقال أريد أشد من هذا قال فأتي بسوط بين السوطين فقال اضرب به ولا يرى إبطك وأعط كل عضو حقه" رواه عبد الرّزاق .
السبب الثّاني : كثرة تنعيم الأولاد واعلم أيها الأخ الكريم أنّ إغداق النعم على الأولاد دائماً وتلبية حوائجهم كلّها مما يعيد الضرر عليهم .قال الغزالي في"الاحياء" ولا يعوده التنعم ولا يحبب إليه الزينة والرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد ... وأن يعود الخبز القفار في بعض الأوقات حتى لا يصير بحيث يرى الأدم حتما ويقبح عنده كثرة الأكل بأن يشبه كل من يكثر الأكل بالبهائم وبأن يذم بين يديه الصبي الذي يكثر الأكل ويمدح عنده الصبي المتأدب القليل الأكل وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام وقلة المبالاة به والقناعة بالطعام الخشن أي طعام كان وأن يحبب إليه من الثياب البيض دون الملون والإبريسم ويقرر عنده أن ذلك شأن النساء والمخنثين وأن الرجال يستنكفون منه ويكرر ذلك عليه ومهما رأى على صبي ثوبا من إبريسم أو ملون فينبغي أن يستنكره ويذمه ويحفظ الصبي عن الصبيان الذين عودوا التنعم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة وعن مخالطة كل من يسمعه ما يرغبه فيه فإن الصبي مهما أهمل في ابتداء نشوه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذابا حسودا سروقا نماما لحوحا ذا فضول وضحك وكياد ومجانة وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب"اهــ
وقال الرملي في " منظومة رياض الصبيان"
21 و يأكل اليابس من الطعامِ * تعلماً بحتاً بلا إدامِ
22 حيناً فحيناً في العشاء والغداء * كي لا يرى الإدام حتماً أبدا
23 وأن يُجَنِّبَه فنونَ الزينه * وجملة الملابس الرزينه
24 و يكسوه لون بياض القطن * حتى به عن غيره يستغني
25 وإن طلب منقوشاً أو ملوناً * يقول: ذاك للنساء لا لنا
26 لباس أهل الفسق والتخنيث * وأحمق وفاجر خبيث
27 ولا ينعم جسمه بملبسِ * طول المدى ولا فراش أملسِ
28 بل كلما كانت به خشونة * فإنه أخفُّ في المؤونة
29 يصلِّب الأعضا ولا يبالي * بالمشي أو بسائر الأفعالِ
30 و يمتنع نوم النهار قطعاً * خوف الكسل أو يتخذه طبعا
السبب الثّالث : عدم الإخراج منهم من يفسد أخلاقهم .فإنّ سوء الأخلاق مرض معد فإذا رأى الأب من يفسد أخلاق الأولاد من كبار أولاده فلا بدّ أن يستعمل الحِجر الصحي قبل استفحال الأمر ومن الأمثلة ذات الحكمة "أنّ شحمة فاسدة تفسد الآخرين" فإن استعصي علاج البالغ فلا بدّ أن يبعد من حظيرة الصغار عملاً بالقاعدة المشهورة :" ارتكاب أهون الضررين لدفع أعلاهما "
السبب الرّابع : المدارس النّظامية .فإنّ كثيراً من المدارس النّظامية التي يتعلّم منها مبادئ العلوم الماديّة قد أفسدت أخلاق الأجيال لكثرة قرناء السوء فيها لأنّ كثيراً من الطلبة لم يربّ تربية صالحة بل أُطلق عنانه إلى ما شاء فإذا جالس غيره أفسد وقد قيل قديماً :"من جالس جانس "و"الصاحب ساحب" وأضف إلى ذلك أن بعض المدرّسين لا يُرتضى دينه وخلقه فكيف يكون مرشداً وقد شاقّ الرشاد ؟!!وانظر إلى مدى يتأثّر طالبه ؟!!
السبب الخامس : كثرة الطلاق بدون ملجئ
فإن فراق الزوج زوجته مما يفسد الأولاد غالباً ويُضيع حقوقهم من تربية الأبوين ورعايتهم فإنّ أعظم التربية تقوم الأمّ والأب مراقب في الغالب فإذا فعل الولد مما لا يُحمد عقباه فإن الأم تنهره بالأب
قال الرملي في منظومته :

وتنهر الأم ولدها بالأبِ * جزراً له عن الخناء واللعب
فإذا انهدم البيت يُفقد تعاون الأبوين في تربية أفلاد أكبادهم وطلاق الرجل مما يسرّه إبليس حتى يُدنيه ويلتزمه من أفسد ذات بين الزوجين كما في حديث جابر عند مسلم وغيره بلفظ " إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ قَالَ الْأَعْمَشُ أُرَاهُ قَالَ فَيَلْتَزِمُهُ"
وسبب سرور ابليس بذلك والله أعلم قيل هو حصوله فرصة لأغواء الأولاد من أجل ضياعهم وكأنّه قيل له
" خلا لكِ الجوُّ * فبيضي واصفِري "
ونقِّري من بَعدِهم * ما شئت أن تُنَقِّري
السبب السّادس : تفخيم الطّلبة شأن أولاد الدعاة قائلين هذا ابن الشيخ الفلاني ، خلّ ابن الشيخ يدخل قبلك ، يجلس قبلك ، لا تقل ابن الشيخ بمثل هذا " وهلمّ جرّ ولا أعني أن لا يُحترم أبناء الدّعاة بل أقول أنزلوهم منازلهم بدون اطراء ومبالغة .
السبب السّابع : كثرة غياب الدّعاة من بيوتهم .
فإنّ كثرة أسفار الدعاة وغيابهم من أهاليهم مما يؤدي إلى سوء الأدب لفقدانهم أباً يتفقّد أحوالهم ليل نهار .
السبب الثّامن : منع الأولاد الألعاب في جميع الأوقات
فإنّ من غريزة النشأ اللعب في قدر الحاجة فإنّ مَنْعَه قد يؤدّي إلى التفلّت وكثرة اللعب تفضي إلى ضياع الوقت ومن ثَمّ فالواجب على الآباء أن يُخطّطوا لأولادهم سياسة رشيدة تجاه لعبهم فإنّ الحجر والكثرة مؤذيان .
التاسع: منع الأولاد أن يستفيدوا من علماء أهل السنّة والجماعة .
فإنّ كثيراً من دعاة المتحزّبة يمنعون أولادهم أن يَحضروا دروس العلماء والدعاة من أهل السنّة والجماعة فعوقب انتكاسة أولادهم .
هذا مما ظهر لي وآمل الأخوة المشاركة في هذا الموضع.