(12)
الألفاظ المشتركة
كلامهم في الألفاظ المشتركة هو بعض كلامهم في الحقيقة والمجاز
قال أبو الحسين البصري المعتزلي في كتابه ((المعتمد)) : باب إثبات الحقائق المفردة والمشتركة , اعلم أن في اللغة ألفاظاً مفيدة للشيء الواحد على الحقيقة , وألفاظاً مفيدة للشيء وخلافه وضدة حقيقة على طريق الاشتراك ( ) . اهـ , وذكر أبو الحسين ذلك بعد كلامه في الحقيقة والمجاز , وقبل كلامه في الحقائق الشرعية , وقال الغزالي في ((المستصفى)) : إن الألفاظ المتعددة بالإضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل , ولنخترع لها أربعة ألفاظ , وهي المترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتركة , قال : وأما المشتركة فهي الأسامي التي تنطلق على مسميات مختلفة لا تشترك في الحد والحقيقة البتَّة كاسم العين للعضو الباصر , وللميزان , وللموضع الذي يتفجر منه الماء , وهي العين الفوارة , وللذهب , وللشمس , وكاسم المشترى لقابل عقد البيع وللكوكب المعروف , قال : والاسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرناه , وقد يدلٌّ على المتضادين , كالجلل للحقير والخطير , والناهل للعطشان والريَّان , والجون للسواد والبياض , والقرء للطهر والحيض ( ) . اهـ وقال الرَّازي في ((المحصول)) : اللفظ المشترك هو اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعاً أولاً من حيث هما كذلك , قال : وقولنا وضعاً أولاً احترزنا به عمَّا يدل على الشيء بالحقيقة , وعلى غيره بالمجاز( ) اهـ , وقال الزركشي في ((البحر المحيط)) : قال ابن الحاجب في ((شرح المفصل)) : هو اللفظ الواحد الدَّال على معنيين مختلفين أو أكثر , دلالة على السَّواء عند أهل تلك اللغة , سواء كانت الدلالتان مستفادتين من الوضع الأول , أو من كثرة الاستعمال , أو استفيدت إحداهما من الوضع , والأخرى من كثرة الاستعمال ( ) اهـ ؛ وقال الأرموي في ((التحصيل)) هو اللفظ الواحد المتناول لعدة معان من حيث هي ( ) كذلك بطريقة الحقيقة على السواء ( ) اهـ , وقال القرافي في ((شرح تنقيح الفصول)) : هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر ( ) . اهـ وقال ابن جزي المالكي في ((تقريب الوصول إلى علم الأصول)) : هو اللفظ الموضوع لمعنيين وضعاً لم ينقل من أحدهما إلى الآخر ( ) . اهـ , وقال الأصفهاني في بيان المختصر : هو اللفظ الواحد الموضوع لعدَّة معان وضعاً أولاً ( ) . اهـ , وقال ابن السبكي في ((الإبهاج في شرح المنهاج)) : المشترك هو اللفظ الواحد الدَّال على معنيين مختلفين أو أكثر , دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة , سواء كانت الدلالتان مستفادتين من الوضع الأول , أو من كثرة الاستعمال أو كانت إحداهما مستفادة من الوضع والأخرى من كثرة الاستعمال ( ) اهـ , وهو نفس قول ابن الحاجب بلفظه , ذكره ابن السبكيِّ ولم ينسبه إليه , وقال الجرجاني في كتابه ((التعريفات)) : المشترك ما وضع لمعنى كثير بوضع كثير , كالعين ,لاشتراكه بين المعاني ( ) اهـ وقال التهانوي في ((كشاف اصطلاحات الفنون)) : كون اللفظ لمفرد موضوعاً لمعنيين معاً على سبيل البدل من غير ترجيح ( ) . اهـ ؛ وقال الشوكاني في (( إرشاد الفحول)) هو اللفظة الموضوعة لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعاً أوّلاً من حيث هما كذلك ؛ فخرج بالوضع الأول ما يدل على الشيء بالحقيقة وعلى غيره بالمجاز ( ) اهـ .
وفي تلك الحدود كفاية , واتبعهم عليها أكثر المتكلمين , وقال بعضهم حدوداً أخرى غيرها , ولا حاجة إلى الإطالة بذكرها ( ) , وكلامهم كله يشبه بعضه بعضاً , وأخذه بعضهم عن بعض , وتلك الحدود التي ذكروها كلها تدل على أن اللفظ المشترك هو اللفظ الذي يدل على شيئين أو أكثر , وهو لا يدل على أحدها حقيقة وعلى غيره مجازاً , ولكنه يدل عليها كلها حقيقةً , والأشياء التي يدل عليها قد تكون مختلفة أو متضادة , والحقيقة عندهم هي ما وضع له اللفظ أولاً في أصل اللغة , فاللفظ المشترك هو اللفظ في وضع أصل اللغة بزعمهم لشيئين مختلفين أو متضادين أو أكثر منهما , وقولهم إن اللغة بدأت بالوضع والاصطلاح باطلٌ كله , والله تعالى علم آدم البيان , ثم اختلفت ألسنة بينه من بعده , وما كان اللفظ يدل عليه أولاً لا سبيل إلى علمه , ولا حجَّة عليه ؛ وإذا صار اللفظة بلسان قوم تدل على شيئين أو أكثر , فلابد أن يكون معها من كلام المتكلم أو أنبائه ما يبين ما أريد بها ؛ وإذا كان تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز باطلاً محدثاً , فتقسيم الحقيقة إلى مفردة ومشتركة باطلٌ مثله ؛ ونقل الزركشي في ((البحر المحيط)) عن أبي العباس ثعلب , وأبي زيد البلخيِّ , والأبهري أنَّهم أنكروا الألفاظ المشتركة , قال : ومنعه قوم في القرآن خاصَّة , ونسب لابن داود الظاهري , ومنعه آخرون في الحديث ( ) اهـ
وكل من أنكر تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز , فلا ريب ينكر تقسيم الحقيقة إلى مفردة ومشتركة ؛ إذ لا حقيقة ولا مجاز .
....................
2- الرد على قول أبي الحسين البصري المعتزلي في جواز وضع المشترك
وقال أبو الحسين البصري : ودليل جواز ذلك –يعني المشترك أنه لا يمتنع أن تضع قبيلة اسم ((القرء)) للحيض ؛ وتضعه أخرى للطهر ؛ ويشيع ذلك ويخفى كون الاسم موضوعاً لهماً من جهة قبليتين , فيفهم من إطلاقه الحيضُ والطهر على البدل ؛ وأيضاً فإن المواضعة تابعة للأغراض ؛ وقد يكون للإنسان غرض في تعريف غيره شيئاً مفصلاً ؛ وقد يكون غرضه بأن يعرفه مجملاً , مثال الأول : أن يشاهد زيد سواداً , ويريد أن يعرِّف عمراً أنه شاهد سواداً , ومثال الثاني أنه يريد تعريفه أنه شاهد لوناً ولا يفصِّله له ؛ فجاز أن يضعوا اسماً يطابق كل واحد من الغرضين ( ) اهـ , وقال الرازي : في سبب وقوع الاشتراك , السبب الأكثري وهو أن تضع كل واحدة من القبلتين تلك اللفظة لمسمى آخر , ثم يشتهر الوضعان , فيحصل الاشتراك , والأقلي , هو أن يضعه واضع واحدٌ لمعنيين , ليكون المتكلم متمكناً من التكلم بالمجمل , وقد سبق في الفصل السابق أن التكلم بالكلام المجمل من مقاصد العقلاء ومصالحهم ( ) أهـ
وهو نفس كلام أبي الحسين البصري سماه الرازي سبباً أكثرياً ؛ وسبباً أقلياً , ولم يزد عليه شيئاً ؛ وقوله : ولا يمتنع أن تضع قبيلةٌ اسم القرء للحيض , وتضعه أخرى للطهر ثم يشيع .
وذلك كله ظنٌّ باطل لا حجة له ؛ ولفظ قرء اختلف فيه , قال أبو إسحاق الزجاج في كتابه ((معاني القرآن وإعرابه)) : أخبرني من أثق يرفعه إلى يونس بن حبيب أن الأقراء عنده يصلح للحيض والطهر , ويقال : هذا قارئ الرياح لوقت هبوبها( ) اهـ ,وقال الأزهري في تهذيب اللغة : أخبرنا عبد الملك , عن الربيع , عن الشافعي , أن القرء اسم للوقت , فلما كان الحيض يجيء لوقت , والطهر يجيء لوقت جاز أن يكون الأقراء حيضاً وأطهاراً ( )اهـ , وذكر في الرسالة قريباً من ذلك ( ) اهـ, وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن : والقرء , جعله بعضهم الحيضة , وقال بعضهم : الطهر , قال : وكل قد أصاب ؛ لأنه خرج من شيء إلى شيء , فمن قال : هو الحيض , فخرجت من الطهر إلى الحيض , ومن قال : بل هو الطهر , فخرجت من الحيض إلى الطهر , وأظنه أنا من قولهم : قد أقرأت النجوم , إذا غابت ( ) اهـ وقال أبو عبيد في ((غريب الحديث)) : فأصل الأقراء إنما هو وقت الشيء إذا حضر ( ) اهـ وقال الأزهري في ((تهذيب اللغة)) قال أبو عبيد : الأقراء : الحيض والأقراء : الأظهار , وقد أقرأت المرأة في الأمرين جميعاً ,وأصله من دنوِّ وقت الشيء ( ) اهـ , وقال ابن دريد في ((الجمهرة)) : وأقرأت المرأة إقراءً فهي مقرئٌ , واختلفوا في ذلك فقال : قوم : هو الطهر , وقال قوم : هو الحيض , وكل مصيب ؛ لأن الأقراء هو الجمع , والانتقال من حال إلى حال فكأنه انتقال من حيض إلى طهر , وهو الأصح والأكثر , ويجوز أن يكون انتقالاً من طهر إلى حيض ( ) اهـ , وأخذه أكثر من كلام أبي عبيدة ؛ فلفظ قرء ليس يدل على شيئين الحيض والطهر ولكنه مختلف فيما يدل عليه . وكثير من الألفاظ التي زعموا أنها مشتركة هي كذلك ألفاظٌ اختلف فيما تدل عليه , وليست ألفاظاً تدل على أشياء مختلفة ؛ والناس يحتاجون في كلامهم إلى التفصيل والإجمال , والبيان والإبهام ؛ وليست الألفاظ من وضع واضع من الناس , وقول الرازي : أكثري وأقليٌّ هو من كلام المولِّدين وألفاظهم , وليس بلسان العرب ؛ وخيرٌ للمتفقهين أن يتشبهوا بلسان العرب الذي نزل القرآن به , ولا يتشبهوا بلسان الرَّازي وغيره من العجم المولدين . .