الحمد لله رب العالمين



فَائِدَة من الْآفَات الْخفية الْعَامَّة أَن يكون العَبْد فِي نعْمَة أنعم الله بهَا عَلَيْهِ واختارها لَهُ فيملها العَبْد وَيطْلب الِانْتِقَال مِنْهَا إِلَى مَا يزْعم لجهله أَنه خير لَهُ مِنْهَا


وربه برحمته لَا يُخرجهُ من تِلْكَ النِّعْمَة وبعذره بجهله وَسُوء اخْتِيَاره لنَفسِهِ حَتَّى إِذا ضَاقَ ذرعا بِتِلْكَ النِّعْمَة وسخطها وتبرّم بهَا واستحكم ملكه لَهَا سلبه الله إِيَّاهَا

فَإِذا انْتقل إِلَى مَا طلبه وَرَأى التَّفَاوُت بَين مَا كَانَ فِيهِ وَمَا صَار إِلَيْهِ

اشْتَدَّ قلقه وندمه وَطلب العودة إِلَى مَا كَانَ فِيهِ فَإِذا أَرَادَ الله بِعَبْدِهِ خيرا ورشدا أشهده أَن مَا هُوَ فِيهِ نعْمَة من نعمه عَلَيْهِ وَرضَاهُ بِهِ وأوزعه شكره عَلَيْهِ فَإِذا حدثته نَفسه بالانتقال عَنهُ


استخار ربه استخارة جَاهِل بمصلحته عَاجز عَنْهَا مفوض إِلَى الله طَالب مِنْهُ حسن اخْتِيَاره لَهُ

وَلَيْسَ على العَبْد أضرّ من ملله لنعم الله

فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا نعْمَة وَلَا يشكره عَلَيْهَا وَلَا يفرح بهَا بل يسخطها ويشكوها ويعدّها مُصِيبَة هَذَا وَهِي من أعظم نعم الله عَلَيْهِ

فَأكْثر النَّاس أَعدَاء نعم الله عَلَيْهِم وَلَا يَشْعُرُونَ بِفَتْح الله عَلَيْهِم نعمه وهم مجتهدون فِي دَفعهَا وردهَا جهلا وظلما

فكم من سعت إِلَى أحدهم من نعْمَة وَهُوَ ساع فِي ردهَا بِجهْدِهِ وَكم وصلت إِلَيْهِ وَهُوَ ساع فِي دَفعهَا وزوالها بظلمه وجهله

قَالَ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ

وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ


فَلَيْسَ للنعم أعدى من نفس العَبْد فَهُوَ مَعَ عدوه ظهير على نَفسه فعدوه يطْرَح النَّار فِي نعمه وَهُوَ ينْفخ فِيهَا فَهُوَ الَّذِي مكّنه من طرح النَّار ثمَّ أَعَانَهُ بالنفخ فَإِذا اشتدّ ضرامها اسْتَغَاثَ من الْحَرِيق وَكَانَ غَايَته معاتبة الأقدار

وعاجز الرَّأْي مضياع لفرصته ... حَتَّى إِذا فَاتَ أَمر عَاتب القدرا


الفوائد لابن القيم