بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ,,, أما بعد
فضل العلم الشرعي :
يكفي في فضل طلب العلم أن الله عز وجل حين يطلقه في كتابه فالمراد به هو العلم الشرعي وهو العلم بالله عز وجل وبما أمر به ودلّ عباده عليه , سواء كان من المأمورات أو من المنهيات أو المعلومات , فكل علم أوصل إلى خشية الله سبحانه وتعالى فهو علمٌ محمود.
ولهذا يقول الله جل وعلا ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ( فاطر : 28 ) .
وفضل العلم من جهة العقل والنقل مما لا يختلف فيه فيكفي في الإقرار بفضله أن الإنسان يتشبث به ولو جورًا أي يدّعي العلم ويتبرأ من الجهل وما من باب من أبواب الخير إلا ويتحقق بالعلم وما من باب من أبواب الشر إلا ويتحقق بالجهل .
والأدلة في كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة جدًا ولهذا قرن الله شهادة أولو العلم بشهادته وكذلك ملائكته في قوله تعالى( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ )( آل عمران :18) فجعل ذلك فضلاً للعلماء .
وجاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في بيان فضل العلماء ومنزلتهم الكثير فهم ورثة الأنبياء كما جاء في حديث أبي صالح عن أبي هريرة ( الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ ) وجاء عن أحمد وأبو داود والترمذي وآخرون عن أبي الدرداء به مرفوعا ، بزيادة ( إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا العلم ) فالأنبياء ورثوا العلم ولم يورثوا الدينانير والدراهم وإنما من أخذ العلم أخذه بحظ وافر وذلك أن الإنسان في الدنيا يورث شيئين : الأول هو ما كان من الماديات والثاني هو ما كان من المعنويات ومنها الحسب والشرف والجاه وكذلك من أمور العلم الذي يورثه الإنسان من معلومات ينفع بها الناس من خلفه , وما يتعلق بالعلم هو أكثر وأبقى من الماديات لأن الماديات تستهلك وتتحول من الإنسان إلى غيره , ثم إن الإنسان في إرثه للعلم يكسب أجرًا فيما يخلّفه من بعده , ولهذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ ( إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ : مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ) فذكر منها النبي صلى الله عليه وسلم العلم إشارة إلى وجود ذلك الانتفاع الذي يكون بعد الإنسان, فالمعلومة التي تنتقل من الأفواه ويتناقلها الناس أو تنتقل بالأذهان فإن الإنسان يُثاب عليها ويُؤجر عليها ولو تعددت القرون والأزمنة وابتعدت فإن الله عز وجل يحصيها ولو نسيها الناس , ولهذا جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في بيان منزلة العلماء وفضلهم على غيرهم وأنهم أقرب الناس إلى الأنبياء وذلك أن الإنسان كلما كان قريبًا من شخص ميت فإنه أكثر إرثاً منه ; ولهذا نجد الأبناء يورثون أكثر من غيرهم من قربهم , ولهذا النبي بين أن العلماء ورثة الأنبياء وأن الماديات والأحساب منقطعة في جهة العصمة وكذلك الفضل وإنما يكون الفضل في ذلك إنما هو لمن ورث العلم , فأكثرهم علمًا هو أقربهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما سماه إرثًا لأن الإرث لا يمكن أن يحوزه الإنسان فردًا وإنما يحوزه بشيء من الفضل أو شيء من التعصيب أو يأخذه في حال عدم وجود أحد من الورثة فإنه يحوزه وهذا لا يكون في جانب العلوم .
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في المسند من حديث أنس بن مالك قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ ، كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، فَإِذَا انْطَمَسَتْ النُّجُومُ ، أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ) يعني أنهم دلالة للناس , ومن فضل العلم أنه أقرب الطرق وأيسرها إلى الجنة كما جاء في حديث أبي صالح عن أبي هريرة في الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم ( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ) يعنى أن الإنسان كلما كان أكثر علما فإنه يسلك أقرب الطرق إلى الجنة بخلاف الإنسان الذي لا يدل الطريق فإنه يتيه , وإذا لم يكن في طريق صحيح فإنه يبطئ من سيره حتى لا يطرأ عليه شيء من العلم العارض الذي ربما يجهله فيكون قد سلك طريق آخر , وأما إن كان على بينة فإنه يسير باتجاه صحيح لا تضره الأهواء ولا يضره الجاهليون الذين يعترضون طريقه أو المشوشون وأهل البدع الذين يحاولون صرفه فإذا كان على بينة يسلك ذلك الطريق حتى يلقى الله جل وعلا.
ولهذا العلماء هم أكثر الناس أجرًا وثوابًا وكذلك إصابة لمعرفة مراتب الأجور فإن الأعمال تتفاوت وتعظيمها ومقدارها في الشرع لا يمكن للإنسان أن يعرفها إلا وقد عرف حقيقتها وثوابها وعقابها كحال التجار يعرفون السوق والمضاربة والربح , كذلك العلماء يعرفون قيمة الشيء وعظمته في الشريعة .
ومن فضائل العلم أيضًا أن الله عز وجل ما أمرنا أن نسأله زيادة في شيء إلا العلم ولهذا يقول الله جل وعلا (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه : 114) فلم يأمر الله عز وجل نبيه أن يسأله زيادة في شيء من أمر الدين والدنيا إلا العلم وهذا دليل على فضله أنه يُقدم على غيره , ويكفي في أبواب فضل العلم أن الناس لا يمكن أن تهتدي إلى بابٍ من أبواب الخير إلا بتحقيقه وأنها إذا وقعت في ضلال وخطأ فهو بسبب الجهل بذلك العلم أو تنكبّه والتكبر عليه , فإن الله عز وجل يحرم عباده التوفيق والتسديد لأجل هذا .
التوفيق في طلب العلم :
أسباب التوفيق في طلب العلم كثيرة منها ما يتعلق بأمور البواطن وأعمال القلوب فإن أعمال القلوب لها أثر في أبواب العلم خاصة بالنية الخالصة لله عز وجل فإن للعلم له أثر في ذات الإنسان وأثر في جاهه عند الناس وإقبال الناس عليه , كذلك فإن العالم إذا توجه إلى العلم وكان صادق فإن الناس يقبلون عليه بالأخذ عنه خاصةً إذا كان متجردًا , فإذا أقبلت عليه الدنيا ربما حرفته فانقلب الأمر عليه من توفيقٍ وتسديد إلى حرمان وإضلال , ولهذا من الواجبات والمتأكدات على طالب العلم أن يطلب العلم لله صادقًا في طلبه , وأظهر هذه الموازين قد يقول طالب أنني أخلص , ولكن ما هو الميزان الذي أعرف به هذا ؟ نقول ثمة موازيين متعددة من أظهرها أن تعمل بهذا العلم , هل تعمل بهذا العلم ؟ فإذا عملت به فإن هذا دليل على إنك إنما طلبت العلم لله ; ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله لا يبلغه شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمل به حتى يتحقق له هذا الأمر فكما جاء في الخبر " حَدَّثَنَا الْمَرُّوذِيُّ ، قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : مَا كَتَبْتُ حَدِيثًا إِلَّا وَقَدْ عَمِلْتُ بِهِ ، حَتَّى مَرَّ بِي أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَأَعْطَى أَبَا طَيْبَةَ دِينَارًا فَاحْتَجَمْتُ وَأَعْطَيْتُ الْحَجَّامَ دِينَارًا " يعنى من شدة التتبُع , وهذا أمرٌ من الأمور التي يقيس بها الإنسان نفسه , تعلمت فقه الصلاة , هل طبقتها من جهة العمل في الظاهر والباطن ؟ تفقهت بأحكام قيام الليل , هل قمت الليل ؟ تعلمت أحكام بر الوالدين والصدقة والإنفاق وصلة الرحم ودفع الظلم والإحسان إلى الناس , هل عملت بهذا العمل ؟.
فكلما كان الإنسان أقرب إلى العمل بعلمه فإنه دليل على إخلاصه وصدقه , فإذا انفك العمل عن العلم فإن هذا أمارة على أنه طلب العلم لشيء وهو يعمل لشيء آخر وهذا هو الحرمان .
ومن الوجوه الآخرى التي يعرف بها صدق النية هي القرب من الدنيا , وذلك أن الإنسان كلما زاد علمًا ينبغي له أن يبتعد عن الدنيا , ولهذا جاء عن سُفْيَانَ أنه يَقُولُ (مَا ازْدَادَ رَجُلٌ عِلْمًا فَازْدَادَ مِنْ الدُّنْيَا قُرْبًا إلَّا ازْدَادَ مِنْ اللَّهِ بُعْدًا) وهذه معادلة هي شبيه بالمعادلة الحسابية أن الإنسان إذا ازداد علمًا ينبغي أن يتخفف من جانب الدنيا والتعلق بها واللهث ورائها ; وذلك أن العلم يزيد الإنسان خشية بالله كما قال الله جل وعلا( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) ( فاطر : 28 ) فكلما ازداد الإنسان علمًا خشي الله عز وجل , وخشية الله عز وجل تدعو الإنسان إلى الزهد والورع والبعد عن الأمور الملهيات والصوارف , والإقبال على الله سبحانه وتعالى , فإن أعلم الناس بالله أخوفهم بالله سبحانه وتعالى وأبصرهم وأعلمهم بأدلة الكتاب والسنة .
ولهذا ينبغي على طالب العلم أن يحذر من طلب العلم لغير الله فإنه يحرم من ذلك أشياء , أعظمها التوفيق والتسديد وكذلك خشية الله , فإذا حرمها فإنه يُحرم ما يتبعها من أمر حسن العاقبة عند الله سبحانه وتعالى ; ولهذا جاء في الخبر أن من أشد الناس عذاباً الذين يطلبون العلم ويقرؤون القرآن لغير الله كما جاء في الصحيح حديث الثلاثة الذين تسعر بهم الناررواه مسلم عن أبي هريره من حديث سليمان بن يسار فذكر النبي صلى الله عليه أن منهم رجلاً تعلم العلم ليقال عالم يعنى أنه تعلم العلم ليشار إليه بالبنان أو ليحمل الشهادات , أو غير ذلك فهذا أمره عظيم .
وكلما كان العلم أعظم عند الله عز وجل وأشرف ولم يخلص لله عز وجل فيه كان العقاب عليه أشد بخلاف الذي يطلب العلم المادي مثلاً كالطب أو الاقتصاد يطلبه لأجل الدنيا فلا يعاقب عليه لكنه لا يثاب على عمله ; لو عالج مريضًا أو شفى مريضًا أو اكتشف دواءً للناس هو طلبه لأجل الدنيا أخذ الأمر في الدنيا فعُجل له هذا الأمر, أما إذا كان يتعلق بالعلم الشرعي ولم يخلص لله فإنه يُحرم الأثر في الدنيا ويُحرم الثواب يوم القيامة وينزل عليه عقاب أيضًا لأن هذا من أمور العبادة , أما الجوانب الدنيوية فإن الإنسان يحرم الثواب عليها .
وكذلك في أمر العلم المادي سواء كان اقتصاد أو اجتماع أو علم الطب أو غيرها من العلوم التي يدرسها الإنسان من علوم الزراعة والفلك والحساب والفيزياء والجيولوجيا مما يتعلمه الإنسان ينبغي له أن يخلص لأنه إذا أخلص انقلب ذلك العمل المادي إلى عبادة فأجر عليه بدلاً من الحرمان وهو سائر في نفس الطريق فيكسب الأجر ويكسب الدنيا والموفق مَنْ وفقه الله سبحانه وتعالى .
وإذا صدق الإنسان وأخلص النية لله عز وجل فإنه يطلب العلم الأقرب إلى الله عز وجل يعني لا يطلب العلم للتشهي , كبعض الناس يطلب العلم لشهوة النفس ورغبتها لا يطلب العلم الواجب عليه تكليفه ولهذا يتوجه لبعض فضول العلم ويتعمق فيها ويزعم أنه طلب العلم لله سبحانه وتعالى ; لهذا تجد أنه لا يحسن الصلاة لا يحسن الصوم لكنه موغل في علوم الكلام أو الفلسفة أو في علوم العلل أو النحو والصرف ونحو ذلك .
ولا حرج على الإنسان أن يحفظ تلك العلوم وأن يعتني ويتعبد لله عز وجل بها لكن لا يقبل منه أن يقول أنه خالص لله وهو لا يعلم العلم العيني الواجب عليه : كيف يصلي؟ كيف يصوم ؟ كيف يتصدق ؟ فإذا حفظ العلم العيني فإنه يحفظ العلم الكفاية ويؤجر عليه بإذن الله .
أنواع العلم :
هناك العلم الشرعي وثمة علوم آخرى , ومن جهة العلم الشرعي ثمة علم عيني وثمة علم كفائي .
العلم العيني هو ما يجب على الأمة أن تحفظه من جهة الإجمال ويجب على الأفراد أن يحفظوه من جهة العلم به والعمل , والإنسان كلما كان العمل واجب عليه وجب عليه العلم بهذا العمل , فكل ما يؤمر به عينًا وجب عليه أن يتفقه فيه , مثل الصلاة الأصل فيها أنها واجبة على كل بالغ فيجب عليه أن يتعلم أحكام الصلاة , كذلك الصيام يحب عليه أن يصوم , والحج من توفرت فيه الشروط وجب عليه أن يتفقه في الحج , وهذا الأمر نسبي يعني بمعنى أنه ربما لا يجب على الإنسان أن يتفقه في أمر الحج باعتبار أنه ليس من أهل التكليف كالأعمى والمشلول على قول بعض الفقهاء , ولكن نقول يجب عليه أن يتفقه في الجوانب الآخرى كالبيع في الأسواق باعتبار أنه مثلاً تاجر يضارب في السواق فيجب عليه أن يتفقه فيما عليه وجوب العمل.
وقد جاء عند الترمذي من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده أن عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " لَا يَتَّجِرُ فِي سُوقِنَا إلَّا مَنْ تَفَقَّهَ فِي دِينِهِ ، وَإِلَّا أَكَلَ الرِّبَا ، شَاءَ ، أَوْ أَبَى " وهذا إشارة إلى أن من دخل هذه الدائرة وجب عليه أن يتفقه حتى لا يقع في الحرام مثل الربا والغش وغير ذلك من أمور المحرمات , لهذا الذي يتعامل في البورصة أو الاقتصاد على سبيل العموم أو يتعامل مثلاً في باب من أبواب المزارعة وغير ذلك والحرث , فإنه يجب عليه أن يكون من أهل الفقه في هذا الأمر , قد لا يجب على إنسان أن يتفقه في باب من الأبواب ويجب عليه أن يتفقه في باب آخر ومن جهة الشريعة هذا الباب أولى من غيره , يعني مثلاً الحج أولى من مسألة التفقه في مسالة أحكام البيوع , لكن قد يجب عليك التفقه في البيوع ولا يجب عليك التفقه في الحج باعتبار التلبس فيه .
وعليه فإن العلم العيني الذي يجب على الإنسان هو الذي وجب عليه عينًا أن يقوم به عملاً فيجب عليه أن يتفقه في أحكامه وينظر الإنسان في حاله في أمر الحياة حتى يسلم له الدين .
العلم الكفائي : وهو العلم الذي إذا حفظه أقوام سقط عن الآخرين وهو ما زاد عن علم الإنسان العيني من الأمور الأخرى من أحكام الدين التي يجب حفظها من جهة أحكام الشريعة من أمور الفرائض والمواريث , الحدود , العقوبات , التعزيرات , لا يجب على كل أحد أن يعلم تلك الحدود لكن إذا كان قاضيًا وجب عليه أن يعلم به .
وربما يتفاضل العلم من جهة حفظه أنه كلما كان العلم أجهل في بلد وأبعد عن العناية به فحفظه الإنسان فإنه أقرب من جهة القبول والأجر عند الله سبحانه وتعالى , فمثلاً إذا كان علم العناية بالقرآن والتفسير مغمور في بلد من البلدان فحفظه عالم من هذا البلد حتى لا يجهله الناس فإنه يؤتى أجرًا أكثر من غيره بخلاف البلد الذي يشتهر فيه علوم القرآن ونحو ذلك فيتوجه إلى علم أخر قد أهملوه فيأخذ من ذلك أجرا .
وبعض الناس يأخذ من العلم العيني صورة عامة ويظن أنه تفقه فيه ويبقى على جهله سنوات طويلة , ولهذا جاء عن حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله كما جاء (عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ ، عَنْ حُذَيْفَةَ ، أَنَّهُ رَأَى رَجُلا يُصَلِّي فَطَفَّفَ ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ : " مُنْذُ كَمْ تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلاةَ ؟ " ، قَالَ : مُنْذُ أَرْبَعِينَ عَامًا ، قَالَ : " مَا صَلَّيْتَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، وَلَوْ مِتَّ وَأَنْتَ تُصَلِّي هَذِهِ الصَّلاةَ لَمِتَّ عَلَى غَيْرِ فِطْرَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ، ثُمَّ قَالَ : " إِنَّ الرَّجُلَ لَيُخِفُّ ، وَيُتِمُّ وَيُحْسِنُ " ) .
ولهذا تجد بعض الناس يحج عشر مرات أو أكثر وكل مرة يأتي ببدعة أو يسقط واجبًا ويظن أنه سأل ولكنه لا طلب العلم ولا سأل ولا تفقه ,فالأمر لا يرجع إلى سكون الإنسان وراحته وطمأنينته على هذا العمل , بل أن يتبصر الإنسان بالعمل ويسأل العلماء ويحضر حلق العلم في هذا الباب الذي تلبس فيه حتى يسلم له الدين .
وثمة أمور يتلبس فيها الإنسان لابد له من معرفة المحرمات فيها , فالطب لابد من معرفة الأدوية المحرمة والتداوي فيها فإن الله عز وجل لم يجعل شفاء الأمة فيما حرم عليها كما جاء في الحديث , ولابد من معرفة الأحكام الشرعية للعورات , ومعرفة أحكام الحجاب والاختلاط وغير ذلك من الأمور المحرمة التي لابد له من معرفتها , وإذا فرط في هذا لابد أنه يأثم ; لأن دائرة العلم الشرعي في الأمر الذي تلبس فيه دائرة ضيقة , فلماذا جهل بها ؟ والعلم الذي يتعلمه كعلم الطب واسع ودقيق فمع سعته عجز أن يتعلم الحكم الشرعي الذي أمره الله عز وجل وأوجده لأجله فكما يقول اله عز وجل ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (الذاريات:56 ) .
أعجزت أن تتعلم ثلاث ورقات أو أربع ورقات في معرفة الأحكام الشرعية من هذا العلم العريض !.
فهذا دليل على الإعراض , فإذا كان ثمة إعراض وعدم رغبة نفسية للإنسان فلا يعذر بجهله ولو وقع في حرام وهو من جهة الحقيقة لا يعلم , فهو لا يعلم وهو راغبٌ ألا يعلم فحينئذٍ لا يُعذر بهذا ويأثم .
مراتب العلم :
العلم مراتب وأنواع , وكلما كان العلم الشرعي أقرب إلى معرفة الخالق سبحانه وتعالى وحقه كلما كان أوجب ; ولهذا فإن علم التوحيد ومعرفة أحكامه أوجب الواجبات المتحتمات على الإنسان فينبغي أن يُعلم أن توحيد الله سبحانه وتعالى هو أوجب شيء على العباد وهو دعوة الرسل الذي اتفق عليها سائر الأنبياء والرسل منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى نبينا عليه الصلاة والسلام , فالكل يدعو دعوة واحدة في توحيد الله عز وجل أن يعبد الله وحده لا شريك له بما شرع الله عز وجل لا أن يعبد بالأهواء , والله عز وجل يُعرّف نفسه لعباده ; لأن الإنسان فطره الله على الالتفات إلى الخالق , وكثير من الناس في هذا الجانب إذا جهل ولم يكن لديه نور من الوحي فإنه يقوم بالتعلق بشيء من المخلوقات ليجعلها خالقه ; لأن فطرة الإنسان تؤمن بوجود خالق وأن الإنسان ضعيف وأنه مصنوع وثمة صانع وأنه مخلوق وثمة خالق وأنه مُدبَر وثمة مُدبِر .
ولهذا الله عز وجل يرسل الأنبياء وينزل الكتب حتى يُعرّف لعباده هذه الفطرة , حتى الملحدين الذين ينكرون الله عز وجل لابد أن يقروا في باطنهم من جهة الحقيقة أو ربما في المنامات يستغيثون بالخالق , يعنى أنه يؤمن في قراره وحتى لو تكبر على نفسه بعدم وجود الخالق لابد أن يكون ثمة استغاثة والتجاء إلى الله .
ولهذا فإن أعلى مراتب العلوم هو علم العقائد وهو معرفة حق الله سبحانه وتعالى على عباده , وعلم العقائد يكون على ما يقسمه العلماء بالسبر في النصوص التي جاءت في كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم , وهو معرفة حق الله عز وجل في ذاته , حق الله عز وجل فيما يتعلق بتوحيد الله عز وجل في ربوبيته وإلوهيته وأسمائه وصفاته , هذه الثلاثة هي التي لا تخرج عنها علم العقائد ويجب على طالب العلم أن يعتني بها , والعناية في ذلك بالعناية بالأدلة الواردة في كلام الله عز وجل .
وكلام الله في القرآن من جهة المعاني مُقسّم على ثلاث أقسام :
القسم الأول : علم التوحيد .
القسم الثاني :علم الحلال والحرام وهو علم الأحكام .
القسم الثالث : القصص والحكايات التي حكاها الله عز وجل وقصها على نبيه عليه الصلاة والسلام .
فينبغي على الإنسان أن يتتبع العقائد بالآيات والأدلة , يلتمس السنة والأدلة الواردة في حق الله عز وجل في توحيد ربوبيته وإلوهيته وأسمائه وصفاته , فلا يثبت لله عز وجل إلا ما أثبته لنفسه من حقوق وكذلك ما يتعلق بأسمائه وصفاته فإنه يأخذها بالأدلة المرفوعة ولا يأخذها بالأقيسة العقلية فإن الله عز وجل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
(يتبع)