تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 42

الموضوع: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    ما كان في القلب لا بدَّ أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح
    ( أصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتَّصديق والحبِّ والانقياد، وما كان في القلب فلا بدَّ أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح ، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دلَّ على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظَّاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه، وهي تصديق لما في القلب ودليل عليه وشاهد له، وهي شعبة من مجموع الإيمان المطلق وبعض له؛ لكن ما في القلب هو الأصل لما على الجوارح؛ كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: ((إنَّ القلب ملك، والأعضاء جنوده؛ فإن طاب الملك طابت جنوده، وإذا خَبُثَ الملك خبثت جنوده)) (1) ، وفي ((الصَّحيحين)) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((إنَّ في الجسد مضغة، إذا صَلُحت صَلُح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)) (2) .
    ولهذا ظنَّ طوائف من النَّاس أنَّ الإيمان إنَّما هو في القلب خاصَّة ، وما على الجوارح ليس داخلاً في مسمَّاه ، ولكن هو من ثمراته ونتائجه الدَّالَّة عليه ، حتَّى آل الأمر بغلاتهم - كجهم وأتباعه - إلى أن قالوا: يمكن أن يصدق بقلبه ولا يظهر بلسانه إلاَّ كلمة الكفر مع قدرته على إظهارها ، فيكون الذي في القلب إيماناً نافعاً له في الآخرة، وقالوا: حيث حكم الشارع بكفر أحد بعمل أو قول ؛ فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب.
    وقولهم متناقض؛ فإنَّه إذا كان ذلك دليلاً مستلزماً لانتفاء الإيمان الذي في القلب امتنع أن يكون الإيمان ثابتاً في القلب، مع الدَّليل المستلزم لنفيه، وإن لم يكن دليلاً لم يجز الاستدلال به على الكفر الباطن.
    والله سبحانه في غير موضع يبيِّن أنَّ تحقيق الإيمان وتصديقه بما هو من الأعمال الظَّاهرة والباطنة؛ كقوله: {إنَّما المُؤْمِنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتِهِ زادَتْهُمْ إيماناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلونَ. الذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ ومِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقونَ. أولئكَ هُمُ المُؤْمِنونَ حَقّاً...} .
    وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لا يُؤْمنونَ حَتَّى يُحَكِّموكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدوا في أنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّموا تَسْليماً} .
    فإذا قال القائل: هذا يدلُّ على أنَّ الإيمان ينتفي عند انتفاء هذه الأمور لا يدلُّ على أنَّها من الإيمان.
    قيل : هذا اعتراف بأنَّه ينتفي الإيمان الباطن مع عدم مثل هذه الأمور الظَّاهرة؛ فلا يجوز أن يَّدعي أنَّه يكون في القلب إيمان ينافي الكفر بدون أمور ظاهرة: لا قول ولا عمل، وهو المطلوب - وذلك تصديق - وذلك لأنَّ القلب إذا تحقَّق ما فيه أثَّر في الظَّاهر ضرورةً ، لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر؛ فالإرادة الجازمة للفعل مع القدرة التَّامَّة توجب وقوع المقدور، فإذا كان في القلب حبُّ الله ورسوله ثابتاً استلزم موالاة أوليائه ومعاداة أعدائه: {لا تَجِدوا قَوْماً يُؤْمِنونَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللهَ ورَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آباءَهُمْ أوْ أبْناءَهُمْ أوْ إخْوانَهُمْ أوْ عَشيرَتَهُمْ} ، {وَلَوْ كانوا يُؤْمنونَ باللهِ والنَّبيِّ وما أُنْزِلَ إلَيْهِ ما اتَّخَذوهُمْ أوْلِياءَ} ؛ فهذا التَّلازم أمر ضروريٌّ.
    ومن جهة ظنِّ انتفاء التَّلازم غلط غالطون، كما غلط آخرون في جواز وجود إرادة جازمة مع القدرة التامَّة بدون الفعل، حتَّى تنازعوا: هل يعاقب على الإرادة بلا عمل ؟ وقد بسطنا ذلك في غير هذا الموضع، وبيَّنَّا أنَّ الهمَّة التي لم يقترن بها فعل ما يقدر عليه الهامُّ ليس إرادة جازمة ، وأنَّ الإرادة الجازمة لا بدَّ أن يوجد معها ما يقدر عليه العبد، والعفو وقع عمَّن همَّ بسيِّئة ولم يفعلها لا عن من أراد وفعل المقدور عليه وعجز عن حصول مراده، كالذي أراد قتل صاحبه فقاتله حتى قُتل أحدهما؛ فإنَّ هذا يعاقب ؛ لأنَّه أراد وفعل المقدور من المراد، ومن عرف الملازمات التي بين الأمور الباطنة والظَّاهرة زالت عنه شبهات كثيرة في مثل هذه المواضع التي كثر اختلاف النَّاس فيها.
    بقي أن يقال: فهل اسم الإيمان للأصل فقط، أو له ولفروعه؟
    والتَّحقيق: أنَّ الاسم المطلق يتناولهما، وقد يخصُّ الاسم وحده بالاسم مع الاقتران ، وقد لا يتناول إلاَّ الأصل إذا لم يخصَّ إلاَّ هو، كاسم الشَّجرة؛ فإنَّه يتناول الأصل والفرع إذا وُجدت، ولو قُطعت الفروع لكان اسم الشَّجرة يتناول الأصل وحده) (3) .
    _________
    (1) [إسناده ضعيف]. رواه الطبراني في ((مسند الشاميين)) (738) من حديث عائشة رضي الله عنها بإسناد فيه عتبة بن أبي حكيم، وهو ضعيف.
    (2) رواه البخاري في (الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم 52)، ومسلم في (المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم 1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه).
    (3) ((مجموع الفتاوى)) (7 / 644 - 646).

  2. #22

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    بورك فيكم
    الحمد لله رب العالمين

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو فراس السليماني مشاهدة المشاركة
    بورك فيكم
    وفيكم بارك الله أيها الحبيب .

  4. #24
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    الإيمان والنِّفاق أصله في القلب والعمل دليل عليه وإذا حصل دليل الشَّيء حصل أصله المدلول عليه
    (... وأيضاً؛ فإنَّ الله سبحانه وإن كان قد علم منهم - يعني: الذين لمزوا النَّبيَّ - النِّفاق قبل هذا القول، لكن لم يُعلِم نبيَّه بكلِّ من لم يظهر نفاقه، بل قال: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرابِ مُنافِقونَ وَمِنْ أهْلِ المدينَةِ مَرَدوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنَ نَعْلَمُهُمْ} ، ثمَّ إنَّه سبحانه ابتلى النَّاس بأمور يميِّز بين المؤمنين والمنافقين؛ كما قال تعالى: {وَلَيَعْلَمَنّ اللهُ الذينَ آمَنوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنافِقينَ} ، وقال تعالى: {ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنينَ عَلَى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَميزَ الخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} ، وذلك لأنَّ الإيمان والنِّفاق أصله في القلب، وإنَّما الذي يظهر من القول والفعل فرع له ودليل عليه؛ فإذا ظهر من الرَّجل شيء من ذلك ترتَّب الحكم عليه ، فلمَّا أخبر سبحانه أنَّ الذين يلمزون النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والذين يؤذونه من المنافقين ثبت أنَّ ذلك دليلٌ على النِّفاق وفرعٌ له ، ومعلومٌ أنَّه إذا حصل فرعُ الشَّيء ودليلهُ حصل أصلُه المدلولُ عليه ؛ فثبت أنَّه حَيْثُما وُجد ذلك كان صاحبه منافقا،ً سواء كان منافقاً قبل هذا القول أو حَدَثَ له النِّفاق بهذا القول.
    فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون هذا القولُ دليلاً للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على نفاق أولئك الأشخاص الذين قالوه في حياته بأعيانهم وإن لم يكن دليلاً من غيرهم؟
    قلنا: إذا كان دليلاً للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي يمكن أن يُغْنِيَهُ الله بِوَحْيِهِ عن الاستدلال؛ فأن يَكُونَ دليلاً لمن لا يمكنه معرفةُ البواطنِ أوْلى وأحْرَى .
    وأيضاً ؛ فلو لم تكن الدلالة مُطَّردة في حقِّ كلِّ مَنْ صدر منه ذلك القولُ لم يكن في الآية زَجْرٌ لغيرهم أن يقول مثل هذا القول ، ولا كان في الآية تعظيمٌ لذلك القول بعينه ؛ فإنَّ الدَّلالة على عين المنافق قد تكون مخصوصة بعينه وإن كانت أمراً مُباحاً، كما لو قيل : من المنافقين صاحب الجمل الأحمر وصاحبُ الثوب الأسود ونحو ذلك ، فلمَّا دلَّ القرآن على ذمِّ عَيْنِ هذا القول والوعيدِ لصاحبه عُلم أنَّه لم يُقصَد به الدَّلالة على المنافقين بأعيانهم فقط، بل هو دليل على نوعٍ من المنافقين.
    وأيضاً؛ فإنَّ هذا القول مناسبٌ للنفاق، فإنَّ لَمْزَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأذاه لا يفعله مَنْ يعتقد أنَّه رسولُ الله حقّاً، وأنَّه أَوْلى به من نَفْسه، وأنَّه لا يقول إلاَّ الحقّ، ولا يحكم إلاَّ بالعدل، وأنَّ طاعته طاعة لله، وأنَّه يجب على جميع الخلق تعزِيرُه وتوقيره ، وإذا كان دليلاً على النفاق نفسِهِ؛ فحيثما حصل حصل النفاق) (1) .
    *
    _________
    (1) * ((الصارم المسلول)) (2 / 76 - 77).

  5. #25
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    أصل العمل عمل القلب وما يتناوله لفظ : ((السنة)) في كلام السلف
    (أصل العمل عمل القلب، وهو الحب والتَّعظيم المنافي للبغض والاستكبار. ثم قالوا: ولا يُقبل قول وعمل إلاَّ بنيَّة، وهذا ظاهر ؛ فإنَّ القول والعمل إذا لم يكن خالصاً لله تعالى لم يقبله الله تعالى. ثم قالوا: ولا يُقبل قول وعمل ونيَّة إلاَّ بموافقة السُّنَّة؛ وهي الشريعة، وهي ما أمر الله به ورسوله؛ لأنَّ القول والعمل والنيَّة الذي لا يكون مسنوناً مشروعاً قد أمر الله به يكون بدعة ليس مما يحبه الله؛ فلا يقبله الله ولا يصلح، مثل أعمال المشركين وأهل الكتاب.
    ولفظ ((السنة)) في كلام السلف يتناول السنة في العبادات وفي الاعتقادات، وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات، وهذا كقول ابن مسعود وأُبيِّ بن كعب وأبي الدَّرداء رضي الله عنهم: ((اقتصاد في سنَّة خير من اجتهاد في بدعة))، وأمثال ذلك.
    والحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد وآله الطاهرين وأصحابه أجمعين) (1) .
    *
    _________
    (1) * ((مجموع الفتاوى)) (28 / 178).

  6. #26

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    بورك فيكم
    الحمد لله رب العالمين

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    وفيكم بارك الله أخي الكريم .

  8. #28
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    الكفر المطلق وكفر المعين
    (والتحقيق في هذا: أنَّ القول قد يكون كفراً؛ كمقالات الجهميَّة الذين قالوا: إنَّ الله لا يتكلَّم ولا يرى في الآخرة؛ ولكن قد يخفى على بعض النَّاس أنَّه كفر، فيُطلق القول بتكفير القائل؛ كما قال السَّلف: من قال القرآن مخلوق؛ فهو كافر، ومن قال: إنَّ الله لا يرى في الآخرة؛ فهو كافر، ولا يكفر الشَّخص المعيَّن حتَّى تقوم عليه الحجَّة كما تقدم، كمن جحد وجوب الصَّلاة والزَّكاة واستحلَّ الخمر والزِّنا وتأوَّل؛ فإنَّ ظهور تلك الأحكام بين المسلمين أعظم من ظهور هذه، فإذا كان المتأوِّل المخطىء في تلك لا يحكم بكفره إلاَّ بعد البيان له واستتابته - كما فعل الصَّحابة في الطَّائفة الذين استحلُّوا الخمر -؛ ففي غير ذلك أولى وأحرى، وعلى هذا يخرج الحديث الصحيح: ((في الذي قال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذِّبني عذاباً ما عذَّبه أحداً من العالمين)) (1) ، وقد غفر الله لهذا مع ما حصل له من الشك في قدرة الله وإعادته إذا حرَّقوه، وهذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع) (2) .

    __________
    (1) رواه البخاري في (أحاديث الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان، 3478، والرقاق، 6481، والتوحيد، 7508) ومسلم في (التوبة، 2757) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه)، والبخاري في (أحاديث الأنبياء، 3481) ومسلم في (التوبة، 2756) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
    (2) * ((مجموع الفتاوى)) (7 / 619).

  9. #29
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    يتبع بإذن الله .

  10. #30
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    التكفير المطلق لا يستلزم تكفير الشخص المعين
    (إن المتجهد في مثل هذا - يعني: إنكار علو الله - من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق؛ فإن الله يغفر له خطأه وإن حصل منه نوع تقصير، فهو ذنب لا يجب أن يبلغ الكفر، وإن كان يُطلق القول بأن هذا الكلام كفر كما أطلق السلف الكفر على من قال ببعض مقالات الجهمية، مثل القول بخلق القرآن أو إنكار الرؤية أو نحو ذلك مما هو دون إنكار علو الله على الخلق، وأنه فوق العرش؛ فإن تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم من أظهر الأمور، فإن التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق، لا يستلزم تكفير الشخص المعيَّن حتى تقوم عليه الحجة التي تكفِّر تاركها.
    كما ثبت في الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي قال: ((إذا أنا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذرُّوني في اليم؛ فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك. فغفر له)) (1) .
    فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك أو شك، وأنه لا يبعثه، وكلٌ من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته.
    فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد من أهل الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر والعمل الصالح لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل؛ فيغفر الله خطأه، أو يعذبه إن كان منه تفريط في اتّباع الحق على قدر دينه، وأما تكفير شخص علم إيمانه بمجرد الغلط في ذلك؛ فعظيم.
    فقد ثبت في ((الصحيح)) عن ثابت بن الضحاك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ قال: ((لعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمناً بالكفر؛ فهو كقتله)) (2) .
    وثبت في ((الصحيح)) أن من قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء به أحدهما (3) ، وإذا كان تكفير المعيّن على سبيل الشتم كقتله؛ فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟! فإن ذلك أعظم من قتله؛ إذ كل كافر يباح قتله، وليس كل من أبيح قتله يكون كافراً، فقد يُقتل الداعي إلى بدعة لإضلاله الناس وإفساده مع إمكان أن الله يغفر له في الآخرة لما معه من الإيمان؛ فإنه قد تواترت النصوص بأنه يخرج من النار مَنْ في قلبه مثقال ذرة من إيمان) (4) .
    ______________
    (1) رواه البخاري في (الأنبياء)، وقد تقدم تخريجه. انظر: (ص 46).
    (2) رواه البخاري في (الأدب، باب ما ينهى من السباب واللعان، رقم 6105، وفي الأيمان والنذور، باب من حلف بملة سوى ملة الإسلام، رقم 6653).
    (3) رواه البخاري في (الأدب، باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال، رقم 6103) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم في (الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر، رقم 6) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
    (4) * ((الاستقامة)) (1 / 163 - 166).

  11. #31
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو مالك المديني مشاهدة المشاركة
    أصل العمل عمل القلب وما يتناوله لفظ : ((السنة)) في كلام السلف
    (أصل العمل عمل القلب، وهو الحب والتَّعظيم المنافي للبغض والاستكبار. ثم قالوا: ولا يُقبل قول وعمل إلاَّ بنيَّة، وهذا ظاهر ؛ فإنَّ القول والعمل إذا لم يكن خالصاً لله تعالى لم يقبله الله تعالى. ثم قالوا: ولا يُقبل قول وعمل ونيَّة إلاَّ بموافقة السُّنَّة؛ وهي الشريعة، وهي ما أمر الله به ورسوله؛ لأنَّ القول والعمل والنيَّة الذي لا يكون مسنوناً مشروعاً قد أمر الله به يكون بدعة ليس مما يحبه الله؛ فلا يقبله الله ولا يصلح، مثل أعمال المشركين وأهل الكتاب.
    ولفظ ((السنة)) في كلام السلف يتناول السنة في العبادات وفي الاعتقادات، وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات، وهذا كقول ابن مسعود وأُبيِّ بن كعب وأبي الدَّرداء رضي الله عنهم: ((اقتصاد في سنَّة خير من اجتهاد في بدعة))، وأمثال ذلك.
    والحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد وآله الطاهرين وأصحابه أجمعين) (1) .
    *
    _________
    (1) * ((مجموع الفتاوى)) (28 / 178).


    جزاكم الله خيرا ،، وقال أيضا رحمه الله ( 28 / 177 ) :

    ( وقد روى ابن شاهين واللالكائي عن سعيد بن جبير قال : لا يقبل قول وعمل إلا بنية ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة . ورويا عن الحسن البصري مثله ، ولفظه : " لا يصلح " مكان يقبل . وهذا فيه رد على المرجئة الذين يجعلون مجرد القول كافيا ، فأخبر أنه لا بد من قول وعمل ، إذ الإيمان قول وعمل ; لا بد من هذين كما قد بسطناه في غير هذا الموضع . وبينا أن مجرد تصديق القلب واللسان مع البغض والاستكبار لا يكون إيمانا - باتفاق المؤمنين - حتى يقترن بالتصديق عمل. ) .
    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  12. #32
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    نعم ، أحسن الله إليكم ، فالعمل من الإيمان والإيمان من العمل ، وعلى هذا قول السلف ، كما حكاه شيخ الإسلام في مواضع متعددة منها 7 / 295 ـ 296 :
    وقال معمر عن الزهري : كنا نقول الإسلام بالإقرار والإيمان بالعمل والإيمان : قول وعمل قرينان لا ينفع أحدهما إلا بالآخر وما من أحد إلا يوزن قوله وعمله ؛ فإن كان عمله أوزن من قوله : صعد إلى الله ؛ وإن كان كلامه أوزن من عمله لم يصعد إلى الله . ورواه أبو عمرو الطلمنكي بإسناده المعروف . وقال معاوية بن عمرو : عن أبي إسحاق الفزاري عن الأوزاعي قال : لا يستقيم الإيمان إلا بالقول ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة . وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل ؛ العمل من الإيمان والإيمان من العمل ؛ وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها ويصدقه العمل . فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق بعمله فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها .

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    المرجئة غلطوا في أصلين
    فهؤلاء (أهل الكلام المرجئة) غلطوا في ((أصلين)):
    أحدهما : ظنهم أن الإيمان مجرد تصديق وعلم فقط ، ليس معه عمل وحال وحركة وإرادة ومحبة وخشية في القلب ، وهذا من أعظم غلط المرجئة مطلقاً...
    والثاني : ظنهم أن كل من حكم الشارع بأنه كافر مخلد في النار؛ فإنما ذاك لأنه لم يكن في قلبه شيء من العلم والتصديق ، وهذا أمر خالفوا به الحس والعقل والشرع ، وما أجمع عليه طوائف بني آدم السليمي الفطرة وجماهير النظار؛ فإن الإنسان قد يعرف أن الحق مع غيره ومع هذا يجحد ذلك لحسده إياه، أو لطلب علوه عليه، أو لهوى النفس، ويحمله ذلك الهوى على أن يعتدي عليه ويرد ما يقول بكل طريق، وهو في قلبه يعلم أن الحق معه، وعامة من كذب الرسل علموا أن الحق معهم وأنهم صادقون، لكن إما لحسدهم وإما لإرادتهم العلو والرياسة، وإما لحبهم دينهم الذي كانوا عليه وما يحصل لهم به من الأغراض كأموال ورياسة وصداقة أقوام وغير ذلك؛ فيرون في اتباع الرسل ترك الأهواء المحبوبة إليهم أو حصول أمور مكروهة إليهم، فيكذبونهم ويعادونهم، فيكونون من أكفر الناس؛ كإبليس وفرعون، مع علمهم بأنهم على الباطل والرسل على الحق) (1) .
    _________
    (1) ((مجموع الفتاوى)) (7 / 190 - 191).

  14. #34
    تاريخ التسجيل
    Sep 2014
    المشاركات
    320

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    أحسن الله إليكم وأجزل لكم المثوبة

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي رد: المنتخب من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية

    نفع الله بكما .

  16. #36
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    ليس لأحد أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ما يريده
    (إذا جنى شخص؛ فلا يجوز أن يُعاقب بغير العقوبة الشرعية، وليس لأحد من المتعلمين والأستاذين أن يعاقبه بما يشاء، وليس لأحد أن يعاونه ولا يوافقه على ذلك، مثل أن يأمر بهجر شخص فيهجره بغير ذنب شرعي، أو يقول: أقعدته أو أهدرته أو نحو ذلك؛ فإن هذا من جنس ما يفعله القساوسة والرهبان مع النصارى والحزابون مع اليهود، ومن جنس ما يفعله أئمة الضلالة والغواية مع أتباعهم، وقد قال الصديق الذي هو خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمته: أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيت الله؛ فلا طاعة لي عليكم. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) (1) ، وقال: ((من أمركم بمعصية؛ فلا تطيعوه)) (2) .
    فإذا كان المعلم أو الأستاذ قد أمر بهجر شخص أو بإهداره وإسقاطه وإبعاده ونحو ذلك؛ نظر فيه، فإن كان قد فعل ذنباً شرعياً عوقب بقدر ذنبه بلا زيادة، وإن لم يكن أذنب ذنباً شرعياً لم يجز أن يعاقب بشيء لأجل غرض المعلم أو غيره. وليس للمعلمين أن يحزبوا الناس ويفعلوا ما يلقي بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الأخوة المتعاونين على البر والتقوى؛ كما قال تعالى: {وَتَعاوَنوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى وَلاَ تَعاوَنوا عَلَى الإثْمِ والعُدْوانِ}.ولي س لأحد منهم أن يأخذ على أحد عهداً بموافقته على كل ما يريده وموالاة من يواليه ومعاداة من يعاديه، بل من فعل هذا كان من جنس جنكزخان وأمثاله الذين يجعلون من وافقهم صديقاً والي ومن خالفهم عدواً باغيا ؛ بل عليهم وعلى أتباعهم عهد الله ورسوله بأن يطيعوا الله ورسوله، ويفعلوا ما أمر الله به ورسوله، ويحرموا ما حرم الله ورسوله، ويرعوا حقوق المعلمين كما أمر الله ورسوله؛ فإن كان أستاذ أحد مظلوماً نصره، وإن كان ظالماً لم يعاونه على الظلم، بل يمنعه منه؛ كما ثبت في ((الصحيح)) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)). قيل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً؛ فكيف أنصره ظالماً؟! قال: ((تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه)) .
    وإذا وقع بين معلم ومعلم أو تلميذ وتلميذ أو معلم وتلميذ خصومة ومشاجرة لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق؛ فلا يعاونه بجهل ولا بهوى، بل ينظر في الأمر، فإذا تبين له الحق أعان المحق منهما على المبطل ، سواء كان المحق من أصحابه أو أصحاب غيره، وسواء كان المبطل من أصحابه أو أصحاب غيره؛ فيكون المقصود عبادة الله وحده وطاعة رسوله واتباع الحق والقيام بالقسط، قال الله تعالى: {يا أيُّها الذينَ آمنوا كونوا قَوَّامينَ بِالقِسْطِ شُهِداءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أنْفُسِكُمْ أوِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبينَ إنْ يَكُنْ غَنِيّاً أوْ فَقيراً فاللهُ أوْلَى بِهِما فَلاَ تَتَّبِعوا الهَوَى أنْ تَعْدِلوا وإنْ تَلْووا أوْ تُعْرِضوا فَإنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلونَ خَبِيراً} ، يقال: لوى يلوي لسانه: فيخبر بالكذب. والإعراض: أن يكتم الحق؛ فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس.

    ومن مال مع صاحبه - سواء كان الحق له أو عليه -؛ فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله، والواجب على جميعهم أن يكونوا يداً واحدة مع الحَقِّيِّ على المبطل، فيكون المعظَّم عندهم من عظَّمه الله ورسوله، والمقدَّم عندهم من قدِّمه الله ورسوله، والمحبوب عندهم من أحبَّه الله ورسوله، والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضى الله ورسوله لا بحسب الأهواء؛ فإنَّه من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنَّه لا يضرُّ إلاَّ نفسه.
    فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده، وحينئذ؛ٍ فلا حاجة إلى تفرُّقهم وتشيُّعهم؛ فإنَّ الله تعالى يقول: {إنَّ الذينَ فَرَّقوا دينَهُمْ وكانوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ في شَيْءٍ} (1) ، وقال تعالى: {وَلاَ تَكونوا كالذينَ تَفَرَّقوا واخْتَلَفوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتِ} (2) ، وإذا كان الرَّجل قد علَّمه أستاذ عرف قدر إحسانه إليه وشكره.
    ولا يشدُّ وسطه لا لمعلِّمه ولا لغير معلِّمه؛ فإنَّ شدَّ الوسط لشخص معيَّن وانتسابه إليه من بدع الجاهليَّة، ومن جنس التَّحالف الذي كان المشركون يفعلونه، ومن جنس تفرُّق قيس ويمن، فإن كان المقصود بهذا الشدِّ والانتماء التَّعاون على البرِّ والتَّقوى؛ فهذا قد أمر الله به ورسوله له ولغيره بدون هذا الشدِّ، وإن كان المقصود به التَّعاون على الإثم والعدوان؛ فهذا قد حرَّمه الله ورسوله، فما قُصد بهذا من خير؛ ففي أمر الله ورسوله بكلِّ معروف استغناء عن أمر المعلِّمين، وما قُصد بهذا من شرٍّ؛ فقد حرَّمه الله ورسوله.
    فليس لمعلِّم أن يحالف تلامذته على هذا، ولا لغير المعلِّم أن يأخذ أحداً من تلامذته لينسبوا إليه على الوجه البدعيِّ: لا ابتداءً ولا إفادةً، وليس له أن يجحد حقَّ الأوَّل عليه، وليس للأوَّل أن يمنع أحداً من إفادة التعلُّم من غيره، وليس للثَّاني أن يقول: شدَّ لي وانتسب لي دون معلِّمك الأوَّل، بل إن تعلَّم من اثنين فإنَّه يراعي حقَّ كلٍّ منهما، ولا يتعصَّب لا للأوَّل ولا للثَّاني، وإذا كان تعليم الأول له أكثر كانت رعايته لحقِّه أكثر.
    وإذا اجتمعوا على طاعة الله ورسوله وتعاونوا على البرِّ والتَّقوى لم يكن أحد مع أحد في كلِّ شيء؛ بل يكون كلُّ شخص مع كلِّ شخص في طاعة الله ورسوله، ولا يكونون مع أحد في معصية الله ورسوله، بل يتعاونون على الصِّدق والعدل والإحسان، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ونصر المظلوم وكلِّ ما يحبُّه الله ورسوله، ولا يتعاونون لا على ظلم ولا عصبيَّة جاهليَّة، ولا اتباع الهوى بدون هدى من الله، ولا تفرق ولا اختلاف، ولا شد وسط لشخص ليتابعه في كل شيء ولا يحالفه على غير ما أمر الله به ورسوله.
    وحينئذٍ؛ فلا ينتقل أحد عن أحد إلى أحد، ولا ينتمي أحد لا لقيطاً ولا ثقيلاً ولا غير ذلك من أسماء الجاهلية؛ فإن هذه الأمور إنما ولدها كون الأستاذ يريد أن يوافقه تلميذه على ما يريد، فيوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه مطلقاً، وهذا حرام؛ ليس لأحد أن يأمر به أحداً ولا يجيب عليه أحداً، بل تجمعهم السنة وتفرقهم البدعة، يجمعهم فعل ما أمر الله به ورسوله وتفرق بينهم معصية الله ورسوله، حتى يصير الناس أهل طاعة الله أو أهل معصية الله؛ فلا تكون العبادة إلا لله عز وجل ولا الطاعة المطلقة إلا له سبحانه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .ولا ريب أنهم إذا كانوا على عادتهم الجاهلية - أي: من علمه أستاذ كان محالفاً له - كان المنتقل عن الأول إلى الثاني ظالماً باغياً ناقضاً لعهده غير موثوق بعقده، وهذا أيضاً حرام وإثم، هذا أعظم من إثم من لم يفعل مثل فعله؛ بل مثل هذا إذا انتقل إلى غير أستاذه وحالفه كان قد فعل حراماً، فيكون مثل لحم الخنزير الميت؛ فإنه لا بعهد الله ورسوله أوفى ولا بعهد الأول؛ بل كان بمنزلة المتلاعب الذي لا عهد له ولا دين له ولا وفاء، وقد كانوا في الجاهلية يحالف الرجل قبيلة، فإذا وجد أقوى منها نقض عهد الأولى وحالف الثانية - وهو شبيه بحال هؤلاء -؛ فأنزل الله تعالى: { وَلاَ تَنْقُضوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفيلاً إنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلونَ . ولا تكونوا كالتي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكاثاً تَتَّخِذونَ أيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إنَّما يَبْلُوَكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنّ َ لَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فيهِ تَخْتَلِفونَ . وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلونَ. وَلاَ تَتَّخِذوا أيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبوتِها وَتَذوقوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظيمٌ } .
    وعليهم أن يأتمروا بالمعروف ويتناهوا عن المنكر، ولا يدعوا بينهم من يظهر ظلماً أو فاحشة، ولا يدعوا صبياً أمرد يتبرج أو يظهر ما يفتن به الناس، ولا أن يعاشر من يتهم بعشرته، ولا يكرم لغرض فاسد.
    ومن حالف شخصاً على أن يوالي من والاه ويعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين؛ بل هؤلاء من عسكر الشيطان، ولكن يحسن أن يقول لتلميذه: عليك عهد الله وميثاقه أن توالي من والى الله ورسوله وتعادي من عادى الله ورسوله، وتعاون على البر والتقوى ولا تعاون على الإثم والعدوان، وإذا كان الحق معي نصرت الحق، وإن كنت على الباطل لم تنصر الباطل؛ فمن التزم هذا كان من المجاهدين في سبيل الله تعالى، الذين يريدون أن يكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا.
    وفي ((الصحيحين)): أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء؛ فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فهو في سبيل الله)) (3) ، فإذا كان المجاهد الذي يقاتل حمية للمسلمين، أو يقاتل رياءً للناس ليمدحوه، أو يقاتل لما فيه من الشجاعة؛ لا يكون قتاله في سبيل الله عز وجل حتى يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ فكيف من يكون أفضل تعلمه صناعة القتال مبنياً على أساس فاسد ليعاون شخصاً مخلوقاً على شخص مخلوق؟! فمن فعل ذلك كان من أهل الجاهلية الجهلاء والتتر الخارجين عن شريعة الإسلام، ومثل هؤلاء يستحقون العقوبة البليغة الشرعية التي تزجرهم وأمثالهم عن مثل هذا التفرق والاختلاف؛ حتى يكون الدين كله لله والطاعة لله ورسوله...) (4) .
    ________________
    (1) [صحيح]. رواه أحمد في ((المسند)) (1 / 131) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي (1 / 409) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وفي (5 / 66) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه بلفظ: ((في معصية الله))، وفي ((مسند الشهاب)) للقضاعي (2 / 55) بلفظ المؤلف. وانظر: ((صحيح الجامع)) (7520).
    (2) [صحيح]. رواه ابن ماجه في (الجهاد، باب لا طاعة في معصية الله، 2863)، وأحمد في ((المسند)) (3 / 67) من حديث أبي سعيد الخدري. وانظر: ((صحيح الجامع)) (6099)، و((السلسلة الصحيحة)) (2324).

    (3) رواه البخاري في (التوحيد، باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ}، 7458)، ومسلم في الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، 1904)؛ من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
    (4) ((مجموع الفتاوى)) (28 / 15 - 21).

  17. #37
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    أصناف المرجئة وأوجه غلطهم والرد عليها
    ((المرجئة ثلاثة أصناف)):
    الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة...
    و((القول الثاني)): من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية.
    و((الثالث)): تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم، وهؤلاء غلطوا من وجوه:
    أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص، وليس الأمر كذلك؛ فإن أتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به الرسول مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملاً؛ فإنه لا بد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول ومات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك، وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيهما من الأخبار والأوامر المفصلة؛ فيجب عليه من التصديق المفصل بخبر خبر وأمر أمر ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل لموته قبل أن يبلغه شيء آخر.
    و((أيضاً))؛ لو قدر أنه عاش؛ فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول وكل ما نهى عنه وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصَّل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصَّل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة؛ فصار يجب من الإيمان تصديقاً وعملاً على أشخاص ما لا يجب على آخرين.
    ...
    فإذا قيل: الأعمال الواجبة من الإيمان؛ فالإيمان الواجب متنوع ليس شيئاً واحداً في حق جميع الناس، وأهل السنة والحديث يقولون: جميع الأعمال الحسنة واجبها ومستحبها من الإيمان؛ أي: من الإيمان الكامل بالمستحبات ليست من الإيمان الواجب، ويفرق بين الإيمان الواجب وبين الإيمان الكامل بالمستحبات، كما يقول الفقهاء: الغسل ينقسم إلى مجزىء وكامل؛ فالمجزىء: ما أتى فيه بالواجبات فقط، والكامل: ما أتى فيه بالمستحبات، ولفظ الكمال قد يراد به الكمال الواجب وقد يراد به الكمال المستحب.
    وأما قولهم: إن الله فرق بين الإيمان والعمل في مواضع؛ فهذا صحيح، وقد بينا أن الإيمان إذا أطلق أدخل الله ورسوله فيه الأعمال المأمور بها، وقد يقرن به الأعمال، وذكرنا نظائر لذلك كثيرة، وذلك لأن أصل الإيمان هو ما في القلب، والأعمال الظاهرة لازمة لذلك، لا يتصور وجود إيمان القلب الواجب مع عدم جميع أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان الذي في القلب؛ فصار الإيمان متناولاً للملزوم واللازم وإن كان أصله ما في القلب، وحيث عطفت عليه الأعمال؛ فإنه أريد أنه لا يكتفي بإيمان القلب بل لا بد معه من الأعمال الصالحة...
    الوجه الثاني: ... ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط دون أعمال القلوب؛ كما تقدم عن جهمية المرجئة.
    الثالث: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاماً بدون شيء من الأعمال، ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبّب ولا يجعلونها لازمة له، والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر؛ ولهذا صاروا يقدرون مسائل يمتنع وقوعها لعدم تحقق الارتباط الذي بين البدن والقلب...) (1) .
    * * *
    _________
    (1) * ((مجموع الفتاوى)) (7 / 195 - 204).

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    من حجج المرجئة والرد عليها
    (فإن قيل: فإذا كان الإيمان المطلق يتناول جميع ما أمر الله به ورسوله، فمتى ذهب بعض ذلك بطل الإيمان؛ فيلزم تكفير أهل الذنوب كما تقوله الخوارج، أو تخليدهم في النار وسلبهم اسم الإيمان بالكلية كما تقوله المعتزلة، وكلا هذين القولين شر من قول المرجئة؛ فإن المرجئة منهم جماعة من العلماء والعباد المذكورين عند الأمة بخير، وأما الخوارج والمعتزلة؛ فأهل السنة والجماعة من جميع الطوائف مطبقون على ذمهم.
    قيل: أولاَ: ينبغي أن يُعرف أن القول الذي لم يوافق الخوارج والمعتزلة عليه أحد من أهل السنة هو القول بتخليد أهل الكبائر في النار؛ فإن هذا القول من البدع المشهورة، وقد اتفق الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين على أنه لا يخلد في النار أحد ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، واتفقوا أيضاً على أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - يشفع فيمن يأذن الله له بالشفاعة فيه من أهل الكبائر من أمته.
    ففي ((الصحيحين)) عنه أنه قال: ((لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة)) (1) ، وهذه الأحاديث مذكورة في مواضعها.
    وأما قول القائل: إن الإيمان إذا ذهب بعضه ذهب كله؛ فهذا ممنوع، وهذا هو الأصل الذي تفرعت عنه البدع في الإيمان؛ فإنهم ظنوا أنه متي ذهب بعضه ذهب كله لم يبق منه شيء، ثم قالت ((الخوارج والمعتزلة)): هو مجموع ما أمر الله به ورسوله، وهو الإيمان المطلق؛ كما قاله أهل الحديث؛ قالوا: فإذا ذهب شيء منه لم يبق مع صاحبه من الإيمان شيء فيخلد في النار. وقالت ((المرجئة)) على اختلاف فرقهم: لا تُذهب الكبائر وترك الواجبات الظاهرة شيئاً من الإيمان؛ إذ لو ذهب شيء منه لم يبق منه شيء؛ فيكون شيئاً واحداً يستوي فيه البر والفاجر، ونصوص الرسول وأصحابه تدل على ذهاب بعضه وبقاء بعضه؛ كقوله: ((يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)) (2) .
    ولهذا كان ((أهل السنة والحديث)) على أنه يتفاضل، وجمهورهم يقولون: ((يزيد وينقص ...)) (3) .
    _________
    (1) رواه البخاري في (الدعوات، باب لكل نبي دعوة مستجابة، رقم (6304)، ومسلم في (الإيمان: باب اختباء النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة الشفاعة لأمته، رقم 199)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
    (2) رواه بنحوه البخاري في (التوحيد، باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ نَاضِرَةٌ}، رقم 7440) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومسلم في (الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال، رقم 2940) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
    (3) ((مجموع الفتاوى)) (7 / 222 - 223).

  19. #39
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    الرد على قول المرجئة: المراد بالإيمان التصديق
    (إن ((المرجئة)) لما عدلوا عن معرفة كلام الله ورسوله؛ أخذوا يتكلمون في مسمى ((الإيمان)) و((الإسلام)) وغيرهما بطرق ابتدعوها، مثل أن يقولوا: ((الإيمان في اللغة)) هو التصديق، والرسول إنما خاطب الناس بلغة العرب لم يغيرها، فيكون مراده بالإيمان التصديق! ثم قالوا: والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان أو بالقلب؛ فالأعمال ليست من الإيمان، ثم عمدتهم أن الإيمان هو التصديق قوله: {وَمَا أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} ؛ أي: بمصدق لنا.
    فيقال لهم: ((اسم الإيمان)) قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ، وهو أصل الدين، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويفرق بين السعداء والأشقياء ومن يوالي ومن يعادي، والدين كله تابعٌ لهذا، وكل مسلم محتاج إلى معرفة ذلك؛ أفيجوز أن يكون الرسول قد أهمل بيان هذا كله ووكله إلى هاتين المقدمتين؟!
    ومعلوم أن الشاهد الذي استشهدوا به على أن الإيمان هو التصديق أنه من القرآن، ونقل معنى الإيمان متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم من تواتر لفظ الكلمة؛ فإن الإيمان يحتاج إلى معرفة جميع الأمة فينقلونه، بخلاف كلمة من سورة، فأكثر المؤمنين لم يكونوا يحفظون هذه السورة؛ فلا يجوز أن يجعل بيان أصل الدين مبنياً على مثل هذه المقدمات، ولهذا كَثُر النزاع والاضطراب بين الذين عدلوا عن صراط الله المستقيم وسلكوا السبل وصاروا من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، ومن الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات؛ فهذا كلام عام مطلق.
    ثم يقال: ((هاتان المقدمتان)) كلاهما ممنوعة، فمن الذي قال: إن لفظ الإيمان مرادف للفظ التصديق؟ وهب أن المعنى يصح إذا استعمل في هذا الموضع، فلم قلت: إنه يوجب الترادف؟ ولو قلت: ما أنت بمسلم لنا، ما أنت بمؤمن لنا؛ صح المعنى، لكن لم قلت: إن هذا هو المراد بلفظ مؤمن؟ وإذا قال: {وأقيموا الصَّلاةَ}؟ ولو قال القائل: أتموا الصلاة، ولازموا الصلاة، التزموا الصلاة، افعلوا الصلاة؛ كان المعنى صحيحاً، لكن لا يدل هذا على معنى: أقيموا؛ فكون اللفظ يرادف اللفظ يراد دلالته على ذلك.
    ثم يقال: ليس هو مرادفاً له، وذلك من وجوه:
    أحدها: أن يقال للمخبر إذا صدقته: صدقه، ولا يقال: آمنه وآمن به؛ بل يقال: آمن له، كما قال: {فَآمَنَ لَهُ لوطٌ} ، وقال : {فَمَا آمَنَ لِموسى إلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} ، قال فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُمْ} ، وقالوا لنوح: {أنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الأرْذَلونَ} ، وقال تعالى: {قُلْ أذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ باللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنينَ} ، {فَقَالوا أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُما لَنَا عابِدونَ} وقال: {وإنْ لَمْ تُؤْمِنوا لي فَاعْتَزِلونِ} ..
    الثاني: أنه ليس مرادفاً للفظ التصديق في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا؛ قيل له: صدق، كما يقال: كذب، وأما لفظ الإيمان؛ فلا يستعمل إلا في الخبر عن غائب، لم يوجد في الكلام أن من أخبر عن مشاهدة؛ كقوله: طلعت الشمس وغربت، أنه يقال: آمناه، كما يقال: صدقناه، ولهذا المحدثون والشهود ونحوهم يقال: صدقناهم، وما يقال: آمنا لهم؛ فإن الإيمان مشتق من الأمن؛ فإنما يستعمل في خبر يؤتمن عليه المخبر، كالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبر، ولهذا لم يوجد قط في القرآن وغيره لفظ آمن له إلا في هذا النوع، والاثنان إذا اشتركا في معرفة الشيء يقال: صدق أحدهما صاحبه، ولا يقال: آمن له؛ لأنه لم يكن غائباً عنه ائتمنه عليه، ولهذا قال: {فَآمَنَ لَهُ لوطٌ} ، {أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلَنَا} ، {آمَنْتُمْ لَهُ} ، {يُؤْمِنُ باللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنينَ} ، فيصدقهم فيما أخبروا به مما غاب عنه وهو مأمون عنده على ذلك؛ فاللفظ متضمن مع التصديق معنى الائتمان والأمانة؛ كما يدل عليه الاستعمال والاشتقاق، ولهذا قالوا: {وَمَا أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} ؛ أي: لا تقر بخبرنا ولا تثق به ولا تطمئن إليه ولو كنا صادقين؛ لأنهم لم يكونوا عنده ممن يؤتمن على ذلك؛ فلو صدقوا لم يأمن لهم.
    الثالث: إن لفظ الإيمان في اللغة لم يقابل بالتكذيب كلفظ التصديق؛ فإنه من المعلوم في اللغة أن كل مخبر يقال له: صدقت أو كذبت، ويقال: صدقناه أو كذبناه، ولا يقال لكل مخبر: آمنا له أو كذبناه، ولا يقال: أنت مؤمن له أو مكذب له؛ بل المعروف في مقابلة الإيمان لفظ الكفر، يقال: هو مؤمن أو كافر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق لكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك ولا أوافقك؛ لكان كفره أعظم، فلما كان الكفر المقابل للإيمان ليس هو التكذيب فقط؛ عُلم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ويكون مخالفة ومعاداة وامتناعاً بلا تكذيب؛ فلا بد أن يكون الإيمان تصديقاً مع موافقة وموالاة وانقياد لا يكفي مجرد التصديق؛ فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان كما كان الامتناع من الانقياد مع التصديق جزء مسمى الكفر؛ فيجب أن يكون كل مؤمن مسلماً منقاداً للأمر، وهذا هو العمل...
    الرابع: أن من الناس من يقول: الإيمان أصله في اللغة من الأمن الذي هو ضد الخوف، فآمن؛ أي: صار داخلاً في الأمن...
    وأما ((المقدمة الثانية))؛ فيقال: إنه إذا فرض أنه مرادف للتصديق، فقولهم: إن التصديق لا يكون إلا بالقلب أو اللسان؛ عنه جوابان:
    أحدهما: المنع، بل الأفعال تسمى تصديقاً؛ كما ثبت في ((الصحيح)) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ذلك ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (1) .
    وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف، قال الجوهري: والصِّديق مثل الفِسِّيق: الدائم التصديق، ويكون الذي يصدق قوله بالعمل. وقال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وهذا من التصديق، وتسأل عن الدين؛ فالدين هو العبادة؛ فإنك لن تجد رجلاً من أهل الدين ترك عبادة أهل الدين ثم لا يدخل في دين آخر إلا صار ديناً له، وتسأل عن العبادة والعبادة هي الطاعة، ذلك أنه من أطاع الله فيما أمره به وفيما نهاه عنه؛ فقد آثر عبادة الله، ومن أطاع الشيطان في دينه وعمله؛ فقد عبد الشيطان، ألا ترى أن الله قال للذين فرطوا: {ألَمَ أعْهَدْ إلَيْكُمْ يا بَني آدَمَ أنْ لا تَعْبُدوا الشَّيْطانَ} ، وإنما كانت عبادتهم الشيطان أنهم أطاعوه في دينهم.
    وقال أسد بن موسى: حدثنا الوليد بن مسلم الأوزاعي، حدثنا حسان بن عطية؛ قال: الإيمان في كتاب الله صار إلى العمل. قال الله تعالى: {إنَّمَا المُؤْمِنونَ الذينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...} الآية، ثم صيرهم إلى العمل، فقال: {الذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقونَ} ؛ قال: وسمعت الأوزاعي يقول: قال الله تعالى: {فَإنْ تابوا وأقاموا الصَّلاةَ وآتوا الزَّكاةَ فَإخْوانُكُمْ في الدِّينِ} ، والإيمان بالله باللسان، والتصديق به العمل.
    وقال معمر عن الزهري: كنا نقول: الإسلام بالإقرار، والإيمان بالعمل، والإيمان: قول وعمل قرينان، لا ينفع أحدهما إلا بالآخر، وما من أحد إلا يوزن قوله وعمله؛ فإن كان عمله أوزن من قوله صعد إلى الله، وإن كان كلامه أوزن من عمله لم يصعد إلى الله. ورواه أبو عمرو الطلمنكي بإسناده المعروف. وقال معاوية بن عمرو: عن أبي إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي؛ قال: لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة.
    وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل؛ العمل من الإيمان والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها ويصدقه العمل، فمن آمن بلسانه، وعرف بقلبه، وصدق بعمله؛ فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه، ولم يعرف بقلبه، ولم يصدق بعمله؛ كان في الآخرة من الخاسرين، وهذا معروف عن غير واحد من السلف والخلف: أنهم يجعلون العمل مصدقاً للقول.
    وكذلك ((الجواب الثاني)): أنه إذا كان أصله التصديق؛ فهو تصديق مخصوص، كما أن الصلاة دعاء مخصوص، والحج قصد مخصوص، والصيام إمساك مخصوص، وهذا التصديق له لوازم صارت لوازمه داخلة في مسماه عند الإطلاق؛ فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، ويبقى النزاع لفظياً: هل الإيمان دال على العمل بالتضمن أو باللزوم؟
    ومما ينبغي أن يُعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا؛ فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء - كحماد بن أبي سليمان، وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم - متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد، وإن قالوا: إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل؛ فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقاً للذم والعقاب، كما تقوله الجماعة. ويقولون أيضاً بأن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة، والذين ينفون عن الفاسق اسم الإيمان من أهل السنة متفقون على أنه لا يخلد في النار؛ فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول، وما تواتر عنه أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها، ولا يخلد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء، ولكن ((الأقوال المنحرفة)) قول من يقول بتخليدهم في النار؛ كالخوارج والمعتزلة، وقول غلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أن أحداً منهم يدخل النار؛ بل نقف في هذا كله. وحُكي عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام.
    ويقال للخوارج: الذي نفى عن السارق والزاني والشارب وغيرهم الإيمان هو لم يجعلهم مرتدين عن الإسلام، بل عاقب هذا بالجلد وهذا بالقطع، ولم يقتل أحداً إلا الزاني المحصن، ولم يقتله قتل المرتد؛ فإن المرتد يقتل بالسيف بعد الاستتابة، وهذا يرجم بالحجارة بلا استتابة؛ فدل ذلك على أنه وإن نفى عنهم الإيمان فليسوا عنده مرتدين عن الإسلام مع ظهور ذنوبهم، وليسوا كالمنافقين الذين كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر؛ فأولئك لم يعاقبهم إلا على ذنب ظاهر) (2) .
    ***


    ________________
    (1) رواه البخاري في (القدر، باب {وَحَرامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ...}، رقم 6612)، ومسلم في (القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره، رقم 2657)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مع اختلاف في اللفظ.

    (2) * ((مجموع الفتاوى)) (7 / 289 - 298).

  20. #40
    تاريخ التسجيل
    Nov 2012
    المشاركات
    13,804

    افتراضي

    أوجه معرفة زيادة الإيمان الذي أمر الله به
    (وزيادة الإيمان الذي أمر الله به والذي يكون من عباده المؤمنين يعرف من وجوه:
    أحدها: الإجمال والتفصيل فيما أمروا به؛ فإنه وإن وجب على جميع الخلق الإيمان بالله ورسوله، ووجب على كل أمة التزام ما يأمر به رسولهم مجملاً؛ فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل عبد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه غيره...
    الوجه الثاني: الإجمال والتفصيل فيما وقع منهم، فمن آمن بما جاء به الرسول مطلقاً فلم يكذبه قط، لكن أعرض عن معرفة أمره ونهيه وخبره وطلب العلم الواجب عليه، فلم يعلم الواجب عليه ولم يعمله، بل اتبع هواه، وآخر طلب علم ما أمر به فعمل به، وآخر طلب علمه فعلمه وآمن به ولم يعمل به، وإن اشتركوا في الوجوب، لكن من طلب علم التفصيل وعمل به؛ فإيمانه أكمل به، فهؤلاء ممن عرف ما يجب عليه والتزمه وأقر به، لكنه لم يعمل بذلك كله، وهذا المقر بما جاء به الرسول المعترف بذنبه الخائف من عقوبة ربه على ترك العمل أكمل إيماناً ممن لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب، بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، مع أنه مقر بنبوته باطناً وظاهراً.
    فكلما علم القلب ما أخبر به الرسول فصدقه، وما أمر به فالتزمه؛ كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك؛ وإن كان معه التزام عام وإقرار عام
    وكذلك من عرف أسماء الله ومعانيها فآمن بها؛ كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء، بل آمن بها إيماناً مجملاً أو عرف بعضها، وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء الله وصفاته وآياته كان إيمانه به أكمل.
    الثالث: أن العلم والتصديق نفسه يكون بعضه أقوى من بعض، وأثبت وأبعد عن الشك والريب، وهذا أمر يشهده كل أحد من نفسه، كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد مثل رؤية الناس للهلال وإن اشتركوا فيها؛ فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض، وكذلك سماع الصوت الواحد وشم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام؛ فكذلك معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعددة! والمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الرب وكلامه يتفاضل الناس في معرفتها أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها.
    الرابع: أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله؛ فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به.
    الخامس: أن أعمال القلوب مثل محبة الله ورسوله وخشية الله تعالى ورجائه ونحو ذلك هي كلها من الإيمان، كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق السلف، وهذه يتفاضل الناس فيها تفاضلاً عظيماً.
    السادس: أن الأعمال الظاهرة مع الباطنة هي أيضاً من الإيمان، والناس يتفاضلون فيها.
    السابع: ذكر الإنسان بقلبه ما أمره الله به واستحضاره لذلك بحيث لا يكون غافلاً عنه أكمل ممن صدق به وغفل عنه؛ فإن الغفلة تضاد كمال العلم والتصديق والذكر، والاستحضار يكمل العلم واليقين...
    الثامن: أن الإنسان قد يكون مكذباً ومنكراً لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها وأمر بها، ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر؛ بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق ولا يأمر إلا بحق، ثم يسمع الآية أو الحديث، أو يتدبر ذلك، أو يفسر له معناه، أو يظهر له ذلك بوجه من الوجوه؛ فيصدق بما كان مكذباً به، ويعرف ما كان منكراً، وهذا تصديق جديد وإيمان جديد ازداد به إيمانه، ولم يكن قبل ذلك كافراً؛ بل جاهلاً، وهذا وإن أشبه المجمل والمفصل لكون قلبه سليماً عن تكذيب وتصديق لشيء من التفاصيل وعن معرفة وإنكار لشيء من ذلك، فيأتيه التفصيل بعد الإجمال على قلب ساذج، وأما كثير من الناس، بل من أهل العلوم والعبادات؛ فيقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول وهم لا يعرفون أنها تخالف؛ فإذا عرفوا رجعوا، وكل من ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه أو عمل عملاً أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول، أو عرف ما قاله وآمن به لم يعدل عنه؛ هو من هذا الباب، وكل مبتدع قصده متابعة الرسول؛ فهو من هذا الباب، فمن علم ما جاء به الرسول وعمل به أكمل ممن أخطأ ذلك، ومن علم الصواب بعد الخطأ وعمل به؛ فهو أكمل ممن لم يكن كذلك) (1)
    _________
    (1) * ((مجموع الفتاوى)) (7 / 332 - 337).

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •