بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فقد كثر الكلام في هذه الأيام في هذه المسألة ألا وهي من عذر بعض المشركين أو المعطلة ولم يكفرهم وهو متأول في ذلك هل يكفر بذلك مباشرة أم لابد من إقامة عليه الحجة وإزالة عنه الشبهة أولا؟
وكثير من المتكلمين في تلك المسألة يعتمدون على بعض العلماء المعاصرين في ذلك دون رجوع إلى ما قاله سلف الأمة وأئمتها في هذا الباب
وأردت أن أجمع كلام أهل العلم السابقين واللاحقين في هذه المسألة
باب هل يعذر من لم يكفر الجهمية والجهمية شر من عباد القبور إذ أن المعطل شر من المشرك لأن المشرك يثبت ربا ثم يشرك معه غيره أما المعطل فلا يثبت شيئا ويعبد عدما
1. قال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم في عقيدة أبيه وأبي زرعة "أصول السنة واعتقاد الدين" ص.2 "ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفرًا ينقل من الملة ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر "
وتأويل هذه العبارة على أن المراد بمن يفهم العاقل المميز تأويل بعيد مستكره إذ أن غير عاقل مميز لا يفهم من الجهمية وما الكفر أصلا حتى يشك في كفرهم
هذا وأن ابن القيم رواها باللفظ ".. ومن شك في كفرة ممن يفهم ولا يجهله فهو كافر.."
وقد نقل ابن أبي حاتم هذه العقيدة عن أبيه وأبي زرعة وأئمة الأمصار كلهم وقد لقوا أكثر من 3000 شيخ! فصار إجماعا سلفيا بينا لا يجوز العدول عنه إلى تقريرات بعض العلماء المعاصرين كائنا من كان
وقد نقل هذه العقيدة عنه جملة كبيرة من علماء أهل السنة متلقين إياها بالقبول ولم يعترض عليه أحد في هذه الجملة فضلا عن رميه بالكفر والمروق!
وممن نقلها مقرا ما فيها اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 1/287 وأبو علاء الهمذاني في قتايه ص.90 والمقدسي في مختصر الحجة 2/618 وابن قدامة في إثبات صفة العلو ص. 120 وشيخ الإسلام ابن القيم في اجتماع الجيوش 1/145 وغيرهم كثير
2. قال الإمام أبو حاتم الرازي أيضا: " من زعم أنه مخلوق مجعول فهو كافر كفرا ينتقل به عن الملة ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر ومن كان جاهلاً علم فإن أذعن بالحق بتكفيره وإلا ألزم الكفر" طبقات الحنابلة 1/286
3. قال البخاري وأبو عبيد القاسم بن سلام: " نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت أضل في كفرهم منهم وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم" خلق أفعال العباد 1/33, مجموع الفتاوى
فقد قال أستجهل لأن الكلام في المعين
4. قال أبو الشيخ الأصبهاني: "من شك في كفر من قال: القرآن مخلوق بعد علمه، وبعد أن سمع من العلماء المرضيين ذلك؛ فهو مثله" الحجة في بيان المحجة 1/240
5. قال أَحْمَد بْن منيع البغوي (ت. 244) " من زعم أَنه مَخْلُوق فَهُوَ جهمي، وَمن وقف فِيهِ فَإِن كَانَ مِمَّن لَا يعقل مثل البقالين وَالنِّسَاء وَالصبيان سكت عَنهُ وَعُلم، وَإِن كَانَ مِمَّن يفهم فَأَجره فِي وَادي الْجَهْمِية" الحجة في بيان المحجة 1/424
ففرق بين الجاهل وغيره
ولا يعرف عن أحد من السلف خلاف في ذلك وما أطلقوه في موضع قيدوه عند الكلام على شخص معين
وبالله التوفيق
وإن قال قائل: هذا في الجهمية ونحن نتكلم في عباد القبور قيل له المعطل شر من المشرك فإن المشرك يثبت ربا ثم يشرك معه غيره أما المعطل فلا يثبت شيئا ويعبد عدما وقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب ومحمد بن إبراهيم بأن المعطل شر من المشرك (مجموع الفتاوى 13/164, مدارج السالكين 3/347, الدرر السنية 1/113, شرح ابن إبراهيم على الواسطية)
فمن يقل إن عابد القبر مشرك ومن عذره ولم يكفره فهو مشرك مطلقا أيضا ومن لم يكفر العاذر فهو كافر فإنه يجب عليه تكفير من عذر الجهمي مطلقا من باب الأولى والأحرى وهذا مخالف لما عليه السلف ثم يجب عليه تكفير السلف أجمعين لأنهم ما كفروا عاذر الجهمي نسأل الله السلامة والعافية
هذا وعن الإمام أحمد روايتان في هذه المسألة
قال أبو يعلى في الروايتين والوجهين:
مسألة لا يختلف المذهب في تكفير المعتزلة بمسائل يقولونها ومنها القول بخلق القرآن ونفي الرؤية وخلق الأفعال ونحو ذلك لأن الدلالة قد دلت على ذلك مما هو مكانه في غير هذا الموضع
فإن توقف أحد في تكفيرهم فهل يكفر هذا الواقف أو لا؟
نقل المروذي ويعقوب بن بختان وأبو طالب لا يكفر وقال في رواية أبي طالب: "من قال القرآن مخلوق فهو كافر ومن قال لا يكفر من قال القرآن مخلوق فلا يكفره"
وكذلك نقل المروذي في قوم بطرسوس يكفرون من لا يكفر فقال ما سمعت في هذا شيئا" وهذا على طريق التوكيد بمعرفة شيء في تكفيرهم فكأن مذهبه أنهم يكفرون يعني الجهمية ولا يكفر من لا يكفرهم فظاهر هذا أنه لم يكفرهم كما نقله أبو طالب"
انتهى النقل من الروايتين والوجهين
هذا وعن الإمام أحمد كلام آخر يكفر فيه من لا يكفر كما في طبقات الحنابلة 1/342, 1/173
وقد جعله بعض أصحاب الإمام أحمد كأبي عبد الله بن حامد وغيره من متقدمي أصحابه روايتين وقد رجح ابن تيمية عدم التكفير
قال الإمام أبو عبد الله بن حامد الحنبلي (ت. 402 ه): " من لم يكفر من كفرناه فسق وهجر . وفي كفره وجهان" الإنصاف 10/21
قال ابن تيمية رحمه الله: " وَعَنْهُ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَا يُكَفِّرُ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يَكْفُرُ" مجموع الفتاوى 12/486
وقد يقال إنه ليس هناك تعارض أصلا فالرواية بالتكفير في الحكم العام والرواية بعدم التكفير في المعين المتأول الذي قام فيه مانع من موانع التكفير والله أعلم
ويلزم من يكفر عاذر العاذر تكفير الإمام أحمد وابن تيمية وابن حامد والحنابلة بأسرهم لنقلهم الخلاف فيما يزعمه معلوما من الدين بالضرورة
والله أعلم
باب في موقف أئمة الدعوة من عاذر الجهمية وعباد القبور
أما موقف أئمة الدعوة النجدية السلفية فلم يختلف كثيرا عن موقف أئمة السلف في شأن الجهمية مما يدل على أن المسألة وفاقية أو شبه وفاقية عند أئمة أهل السنة والجماعة
ومما لا يصلح في مثل هذه الأبحاث أن يأتي الباحث إلى أقوال العلماء بمقدمات نفسية مسبقة وينتقي من كلامهم بعض العبارات والإطلاقات العامة التي لها محلها مع التغافل عن كلامهم الواضح الصريح الذي لا يحتمل المعنيين
فأنا على كثرة ما قرأت من كتبهم ورسائلهم لا أعرف منهم أحدا ممن يستدل به المخالف إلا وله كلام آخر يبين مراده ويزيل الالتباس
1. الشيخ محمد بن عبد الوهاب
قال الشيخ المجدد: " وأما الكذب والبهتان: أنّا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنّا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه. فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدّ به ورثة أبي جهل من سدنة الأصنام وأئمّة الكفر: الناس عن دين الله ورسوله؛ وإنّا لا نكفر إلاّ من كفّره الله ورسوله، من المشركين عباد الأصنام كالذين يعبدون الصنم الذي على قبر عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما أما الذين آمنوا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وجاهدوا في الله حق جهاده فهم إخواننا في الدين وإن لم يهاجروا إلينا. فكيف نكفر هؤلاء؟ سبحانك هذا بهتان عظيم " منهاج التأسيس والتقديس ص87
قال: " إذا عرفتم ذلك، فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم، من أهل الخرج وغيرهم، مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس، كلهم كفار مرتدون عن الإسلام؛ ومن جادل عنهم، أو أنكر على من كفرهم، أو زعم أن فعلهم هذا، لو كان باطلا فلا يخرجهم إلى الكفر، فأقل أحوال هذا المجادل، أنه فاسق لا يقبل خطه ولا شهادته، ولا يصلى خلفه. بل لا يصح دين الإسلام، إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم" الدرر السنية 10/53
فحكم على من أنكر على من كفرهم بأن أقل أحواله الفسق و لم يقطع بكفره و ذلك لعدم قيام الحجة
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: " بسم الله الرحمن الرحيم إلى الأخوان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد ما ذكرتم من قول الشيخ كل من جحد كذا وكذا وقامت عليه الحجة وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليهم الحجة فهذا من العجب كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مراراً.." ثم بين مسألة تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة والمسائل الظاهرة والخفية ثم قال: "إذا علمتم ذلك فإن هذا الذي أنتم فيه كفر، الناس يعبدون الطواغيت ويعادون دين الإسلام فيزعمون أنه ليس ردة لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين، وأظهر مما تقدم الذين حرقهم علي فإنه يشابه هذا، وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم فلا يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم فإن كان معكم بعض الإشكال فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم والسلام" الرسالة الشخصية 1/148
فتأمل قوله "..شاكون في كفر هؤلاء الطواغيت.." وقوله: "وقد أوضحت لكم مرارا.." وقوله: "إلى الإخوان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.." فاسأل الله السلامة من الهوى
ورأيت له مثل هذا في رسالة أخرى في الدرر لكن لا أتذكر موضعها الآن
2. الإمام سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
[right]
قال العلامة سليمان بن عبدالله : " إن كان شاكاً في كفرهم (أي عباد القبور)، أو جاهلاً بكفرهم: بينت له الأدلة من كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على كفرهم فإن شك بعد ذلك أو تردد، فإنه كافر ؛ بإجماع العلماء: على أن من شك في كفر الكفار فهو كافر" هـ أوثق عرى الإيمان ص. 37