الإمام المبجل أحمد بن حنبل .. الدفاع عن السنة
الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
ليس بخاف على أحد أن إسلامنا قد مر بأدوار مختلفة في عصور شتى بأزمات وعقبات لم تكن أخف وأسهل مما تعيش فيها اليوم أمتنا الإسلامية في جهات متعددة من العالم الإسلامي وغيره إلا ما شاء الله تعالى.
وليس غرضي في هذه المقالة المتواضعة أن أتعرض لتلك الأوضاع التي سدت طرق الخير والرشاد والتقدم في وجه العالم لأني لست ممن يضع الحلول السريعة لتلك الأوضاع المشار إليها، ولأن هناك بحمد الله رجالا مخلصين وهبهم الله تبارك وتعالى همة عالية وعزما أكيدا وإيمانا راسخا ولا تزال مساعيهم مبذولة لجمع الصفوف وتوحيد الكلمة وتثبيت الحق ورفع راية الحق عالية خفاقة وعلى رأسهم إمامنا المفدى حامي حمى الدين والداعية الإسلامي الكبير فيصل بن عبد العزيز آل سعود المعظم رعاه الله بعين رعايته ووفقه لكل خير، آمين.
نعم، قلت: قد مر الاسلام بأخطر أزمة وأشدها وأقساها وذلك في بداية القرن الثالث عندما تعرض لأكبر حملة شعواء من قبل تلامذة اليونان المتفلسفة وعلى رأسهم الخليفة العباسي عبد الله المأمون الرشيد القرشي.
قال الإمام ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية 10: 266 – 267: "ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين سنة 212. وفي ربيع الأول أظهر المأمون في الناس بدعتين فظيعتين إحداهما أطم من الأخرى وهي القول بخلق القرآن.
والثانية: تفضيل علي بن أبي طالب على الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أخطأ في كل واحدة منها خطأ كبيرا فاحشا وأثم إثما عظيما ".
قلت: هذا بداية الشر الذي بدأ في ذلك اليوم من تاريخ الاسلام ودعوة صريحة إلى الالحاد وإنكار صفات الباري جل وعلا, ثم تطورت هاتان الفتنتان,حتى أخذتا شكلا آخر من حيث القوة والنشر حتى أصبحتا دين الخليفة وروحه وامتزجتا بعروقه، وهكذا هما في كل يوم في شأن وقوة إلى أن بلغتا أوجهما في سنة 218، حسب ذكر عمدة المؤرخين الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى إذ يقول 10: 272:" وفي هذه السنة يعني سنة 218 كتب المأمون إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن وأن يرسل إليه جماعة منهم وكتب يستحثه في كتاب مطول". قلت: وكتب المأمون كتبا أخرى مماثلة إلى جميع نوابه في جميع البلدان وقد سردها الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه تاريخ الأمم والملوك 10: 284 – 292. ومن هنا نستنبط أن هذا المذهب المنكر الذي اتخذه المأمون كان مذهب الدولة الرسمي وكان مؤيدا بعصا السلطان القوية ولم يكن للناس بد من قبولهم إياه وإقبالهم عليه سواء أرضوا أم كرهوا فإذا كان الأمر كذلك فمن ذا الذي يواجه هذه القوة الباطلة وزد على ذلك أن الاكثرية الغالبة ممن كانوا يعيشون للبطون مع انتسابهم إلى العلم كانوا مع المأمون. قال أبو الفداء في نفس الصفحة:" والمقصود أن كتاب المأمون لما ورد بغداد قرئ على الناس وقد عين المأمون جماعة من المحدثين ليحضرهم إليه وهم محمد بن سعد الكاتب" (قلت: صاحب كتاب الطبقات الكبرى ويعتبر كتابه من المراجع الهامة في تاريخ الرجال), "وأبو مسلم المستملى ويزيد بن هارون ويحي بن معين وأبو خيثمة زهير بن حرب وإسماعيل بن أبي مسعود وأحمد بن الدورقي فبعث بهم المأمون إلى الرقة, قلت: أما يزيد بن هارون فلا وجه لذكره هنا لأنه توفي في السنة السادسة بعد المائتين كما ذكره الحافظ في التقريب 2: 372 إذ يقول: "يزيد بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم أبو خالد الواسطي ثقة متقن عابد من التاسعة مات 206 وقد قارب التسعين". انتهى". قلت: قال ابن كثير: "فامتحنهم المأمون بخلق القرآن فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقته وهم كارهون فردهم إلى بغداد وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء ففعل إسحاق ذلك". قلت: هؤلاء الممتحنون جلهم من كبار المحدثين ومن أئمة الجرح والتعديل ومن شيوخ جبل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى الذي نحن بصدد ترجمته.
والبحث في ذلك طويل جدا وما قام به المأمون من حركة كبيرة لنشر هذه المذاهب الباطلة يطول ذكرها.
وقد سبق أن قلت إن إسحاق بن إبراهيم بن مصعب نائب المأمون ببغداد أمر من قبل المأمون بامتحان القضاة والمحدثين. قال الإمام ابن كثير 10: 273: "فأحضر إسحاق جماعة من الأئمة وهم أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وقتيبة وأبو حيان الزيادي وغيرهم كثيرون" ذكرهم ابن كثير. قلت: فامتحنهم واحدا فواحدا ولما انتهت النوبة إلى امتحان أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى فقال له: أتقول إن القرآن مخلوق ؟ فقال: القرآن كلام الله لا أزيد على هذا, فقال له: ما تقول في هذه الرقعة ؟ - قلت: كانت تلك الرقعة التي كتب فيها بشر بن الوليد إقراره حول مسألة خلق القرآن وكان موافقا لما كان عليه مذهب السلف رضي الله تعالى عنهم وبشر هذا هو بشر بن الولـيد الكندي وهو ثقة مأمون ذكره الخطيب في تاريخه 7: 74- قلت: قال الإمام أحمد مجيباً لإسحاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فقال رجل من المعتزلة: إنه يقول سميع بأُذن وبصير بعين فقال له إسحاق: ما أردت بقولك سميع بصير ؟ فقال رحمه الله: أردت منها ما أراده الله منها وهو كما وصف نفسه ولا أزيد على ذلك فكتب جوابات القوم رجلا رجلا وبعث بها إلى المأمون، وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرها لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه وإن كان له رزق على بيت المال قطع وإن كان مفتيا منع من الإفتاء وإن كان شيخ حديث ردع من الأسماع والأداء.
ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء فلا حول ولا قوة إلا بالله.
قلت: أتعرض أولا لترجمته ثم لوقوفه بتلك الوقفة التاريخية التي تشبه وقفة الصديق رضي الله تعالى في أصحاب الردة, ثم أتعرض لتعريف كتابه العظيم علل الحديث ومعرفة الرجال, ثم الالتماس والرجاء من إمامنا المفدى وقائد مسيرتنا الإسلامية وأب المسلمين بأن يأمر بطبع هذا الكتاب القيم المبارك لرجل عظيم بارع أمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
فأما ترجمته فإنها ما شاء الله أفردت فيها تصانيف الأئمة رحمهم الله تعالى منهم الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفي سنة 597 فقد صنف في مناقب الإمام أحمد رحمه الله مجلداً لطيفاً بلغ ثلاث وثلاثين وخمسمائة صفحة وإنه كتاب حافل جواد ممتع كتب على طريقة المحدثين بإسناده إلى من أخذ العلم عن الإمام أحمد مباشرة وقد سبق الإمام ابن الجوزي شيخ الإسلام الهروي إلا أن كتابه مفقود وترجم له أيضا الخطيب البغدادي في تاريخه 4: 412 – 423 إذ يقول الخطيب:" الإمام الجليل أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسعر أبو عبد الله إمام المحدثين الناصر للدين والمناضل عن السنة والصابر في المحنة مروزي الأصل قدمت أمه بغداد وهي حامل فولدته ونشأ بها وطلب العلم وسمع الحديث من شيوخها ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة".
قال الخطيب بإسناده عن عبد الله بن أبي داود، قال:" أحمد بن حنبل من بني مازن بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ابن قاسط بن هنب بن أفضى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار أخي مضر بن نزار وكان في ربيعة رجلان لم يكن في زمانهما مثلهما لم يكن في زمن قتادة مثل قتادة".
قلت: لعله يقصد من ذلك قتادة بن دعامة السدوسى أبو الخطاب البصري ثقة ثبت يقال ولد أكمه وهو رأس الطبقة الرابعة مات بضع وعشرة ومائة وهو من رجال الكتب الستة قاله الحافظ في التقريب.
وقال بن أبي داود: "ولم يكن في زمان أحمد بن حنبل مثله".
قال الخطيب راداً على عباس الدوري وأبي بكر بن أبي داود بقوله:" قلت أحمد من بني ذهل بن شيبان غلط", إنما كان من بني شيبان بن ذهل بن ثعلبة وذهل بن ثعلبة هذا هو عم ذهل بن شيبان".
قال الخطيب 4: 413:" حدثني من أثق به من العلماء بالنسب قال: مازن ابن ذهل بن ثعلبة الحصن هو ابن عكابة بن مصعب بن علي ثم ساق النسب إلى ربيعة بن نزار كما ذكرناه عن ابن أبي داود".
قلت: قد يكون الخطيب مصيباً فيما يقول, وأما قوله: حدثني من أثق به من العلماء بالنسب فهذا مما لا يحتج به علماء الحديث, وأما عند علماء الأنساب فأنا لا أدري والله تعالى أعلم.
وترجم لهذه الشخصية العظيمة الفذة الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي المتوفي سنة 327هـ في كتابه تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل 292 – 313.
مقدمات في المحنة
قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية 10: 331 – 332:" قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل".
قال البيهقي: "لم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك وزينوا له واتفق خروجه إلى طرطوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد كما مر بكم ذكره".
وقال الإمام ابن كثير:" واتفق للمأمون ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة 218". قلت: نسأل الله العفو والعافية عن سوء العاقبة. قال ابن كثير:" فلما وصل الكتاب كما ذكر استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين".
قلت: وكان من المجيبين الإمام يحي بن معين وابن أبي خيثمة ومحمد بن سعد وغيرهم وكانوا من المكرهين كما مرّ, وقال الإمام ابن كثير:" واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ومحمد بن نوح رحمه الله الجنديسابوري فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد فلما كانا ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب من عبادهم يقال له جابر بن عامر فسلم على الإمام أحمد وقال له:" يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل وإنك إن لم تقتل تمت وإن عشت عشت حميدا".
قلت: صدق الأعرابي رحمه الله ورب أحمد, وكيف لا؛ لأن محنة أحمد ووقفته تلك أعادت للقرآن الكريم – بعد الله عز وجل – حقيقته الكبرى وشرفه العظيم بأنه صفة من صفات الباري جل وعلا وكذا للسنة المحمدية قوتها ونضارتها وحجيتها.
قال الإمام ابن كثير:" قال أحمد وكان كلام الأعرابي مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك ما يدعونني إليه, فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت لو صح هذا فهو طامة كبرى لأن الحلف بغير الله شرك, ثم قال الإمام أحمد قيل لي: لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف قال: فجثي الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي عز حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فأكفنا مؤنته, قال: فجاهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل, قلت وقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله:" إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وكان أن شاء الله تعالى الإمام أحمد رحمه الله من أولئك العباد الصالحين الذين أشار إليهم الحديث.
وقال الإمام أحمد:" ففرحنا ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد والأمر شديد فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى ونالني منهم أذى كثير". قال الإمام ابن كثير:" وكان في رجليه القيود ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان فأودع في السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا وقيل نيفا وثلاثين شهرا ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم. وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه.
يتبع