تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: تاريخ جديد ورحمة مرسلة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    8

    افتراضي تاريخ جديد ورحمة مرسلة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    في جنبات مكة وبين أوديتها السحيقة ، أخذت الشمس تطل بأشعتها على رؤوس الجبال ، وخرج الناس لقضاء حاجاتهم وتأدية أعمالهم في يوم رتيب كسائر أيامهم ، فمنشغل بتقديس آلهته حول الكعبة ، وآخر ربما سد جوعته ببعض أطراف إلهه المزبور من التمر ، والبعض توجه لتسريح ماملكت يمينه من أرقاء يسوقهم سوقا لبيعهم في سوق النخاسة ، وآخرون أقعدهم حب اللهو واللعب والمقامرة عن السعي في طلب الرزق كسائر القوم ، وصنف منهم ربما لم يجد عملا يشغل به وقته ـ فالبطالة عهدها قديم قدم البشرية ـ فتراه مابين خمارة وباغية يبيع عقله لتزجية الوقت ، ويغرق النفس في سبات عميق لكي لاتفيق فتدرك ماهي عليه من كبد الحياة وشقوتها ، وآخرون أحسن حالا من هؤلاء إذ اشتغلوا بالطواف بالبيت العتيق ، ولكن في رسوم مستغربة وثياب مستعارة يتفضل بها عليهم أهل مكة ، ومن لم يستطع منهم الحصول على هذه الثياب فلا يسعه إلا أن يطوف عاريا تبدو منه سوأته .
    ولا أدري هل كان بعضهم يستطيع اختلاس النظر لرؤية بعض الطائفين بالكعبة وهم عراة ، وأظن هذا ماعن لبعض الطائفات حتى أنشدت بيتها المشهور في هذا الشأن .
    ومن بين ماجريّات ذلك اليوم ومع ذلك الصباح التائه في مسارات الحياة ، استيقظن نساء مكة ليقمن بدورهن في الحياة ، من خدمة الزوج وإعلاف دابته و القيام على بيته والإصلاح من شأنه... ، وقد كن نساء طيعات لأزواجهن ، يعرفن قدره وقوامته فلا يسعهن إلا الانصياع والطاعة .
    وكان من بين تلكم النساء أم حنون ، ونساء مكة قد اشتهرت عنهن هذه الحنّية على الولد ، والعطف عليه والاهتمام بشأنه ، وكان من شأن هذه المرأة أن قد اقترب مخاضها ، فقد كانت تحمل في أحشائها جنينا كان ينتظر بشغف شديد ، ليفاخر والده به نظرائه من صناديد مكة ، ومن تجمعه بهم محافلها وأنديتها ، إذ كان التكاثر بالمال والبنين من شيم أولئك القوم .
    
    مضت الأيام على ثقل والوالدان ينتظران هذا المولود ، وما هو إلا أن اقترب المخاض وعلت زفرات الأم وصرخاتها ، حتى أخذ الزوج بعتبة الدار قد امتقع لونه وهوى جالسا قبالة دارة ، قابضا لحيته بشماله ناكثا الأرض بيمينه ، يستشرف المبشِّر والبشارة ، فإن كان المبشَّر به ابناً فهو يوم سعده ، وإن كانت بنتاً فقد أخذ بدرب من السلامة بالبقاء خارج الدار ، ليلوذ بوجهه عن الناس من سؤ مابشّر به ، ولما حانت ساعة الولادة وأذن الخالق في خروج المولود ، وخرج المبشِّر ليبشره بأن المولود أنثى ، لتتبدد معها أحلام الأب التي كانت تتملكه وتطيش بفكره في غياهب الفخر والمجد ، ولم يقف الأمر عند هذا ، بل بلغ به الغضب والصلف على زوجه مبلغه ، وكأن تلك الزوجة هي التي قدرت بمشيئتها الخالصة مايكون في بطنها ، وهو الله الذي يقدر مافي الأرحام قد شاء أن يكون ما تحمله في أحشائها بنتا.
    خرجت المولودة لظهر هذه الحياة ، لتستنشق عبيرها وتخط في صفحاتها من حياتها ابتسامة تملأ المكان ، و ضحكات تسمع الزمان ، وكان قد اضمر لها الأب مايعجز الإنسان عن تصوره ، إلا أن كل يوم كانت تغيب شمسه ، يجدد في قلب الأم لطفلتها حنّية ومحبة تذكي بذرة المحبة التي فطرها الله لكل مولود ، فكأن الدنيا لم تعرف من البنات غير هذه البُنيّة ، تقرأ في عينيها كل دمعة حزن في الوجود ، وتتعرف من حمرة خديها على الورد الذي يوصف بالبهجة وإدخال السرور ، وتشم من مفرق شعر رأسها كل ريح طيبة من خزامى نجد أو رياحين الحجاز .
    كانت هذه الأم الحنون كلما حملت ابنتها لتمشط شعر رأسها وتعقد فيه ضفائره ، تضعها بين يديها مستقبلة ظهرها ، حتى لا تريها دموعها المنهمرة على خديها ، فينبعث عندها سؤال الطفلة عن هذه الدموع التي تجهل سببها .
    فكانت تبكي كلما حملتها وكلما وضعتها ، كانت تبكي كلما أطعمتها أوكستها أو تبسمت بين يديها ، كانت تبكي كلما رأتها تكبر أمام ناظريها ، فكانت تبكي مع شمس كل يوم جديد لا تدري ماتغرب عليه شمس ذلك اليوم ، ويشتد بكاؤها عند رؤيتها لابنتها وهي تلهو وتلعب ضاحكة لاهية غافلة .
    وفي صبيحة يوم كادت تشرق شمسه من غير ضياء ، أيقظت الأم ابنتها الصغيرة ، وأخذتها لتغسل وجهها وتزيل مابه من أثر النوم ، ثم انصرفت مهيأة الطعام لزوجها ، ووضعته بين يديه ، ودعت أبنتها الصغيرة كي تجلس إلى جوار والدها وتأكل معه ، وعندما هم بمد يده للطعام ، وأخذ لقمة ليضعها في فمه إذ به يطرحها ، وكأنه تذكر أمرا كان يبيّته من ساعة بشر بمولوده ، من إمساك على هون لهذه البنت أو دس في التراب ، إلا أنه اختار لشقائه أن يدسها في التراب فساء ما حكم ، وهو الآن يريد أن يخبر زوجه بهذه الفاجعة ، فصوت مستنصتا مستصغيا ، وتمتم بكلمات يسيرات ، لكنها مع قصرها كانت كصفرة الموت قبل الموت ، أو كريح المقابر ووحشتها ، فكانت كالقدر المحتوم الذي لا يسعك أن تحيد عنه أو تفر منه ، وأنت لا تملك صنع الأقدار أو أن تحيد عنها أو تبدل فيها أو تفر منها ، لكنك تملك أن تتقبلها أو ترفضها وتسخطها .
    عندها صاحت الأم صيحة داخل أعماقها ، صيحة لم تسمعها أذنيها ، إنما كانت صيحة تفت الكبد والفؤاد في الأعماق ، فتصهره كما يصهر الرصاص ، فهي تخشى أن تكدر على ابنتها إقبالها على الطعام ، كما كانت ترجوا أن يكون هناك قدرا لم يدر في خلدها ، قدرا تدفع به هذا القدر ، كانت صيحة لو تنفست لفجّرت صخور مكة ، ولأبكت معها كل من لايحسن البكاء ، ولأطفأت بها كل نور يشع في الحياة ، ولذبلت معها كل زهرة نظرة تتنسم ضوء النهار ، بل كظمتها ونفثتها في أحشائها تمزق بها نياط قلبها وتفت رخيص عظمها , وأخذت تدر دمعا مدرارا يفطر القلوب ، كأنما كل دمعة منه قد انتظم حبات روحها .
    وأخذ فؤادها كأنما هو شمعة تنصهر ويحترق فتيلها فيتبدد معه كل ضياء ، وماكان منها إلا أن التفتت إلى طفلتها الصغيرة المتربعة على مائدة الطعام ، فأخذتها واحتضنتها وراحت تشمها في عنقها ورأسها ، وتقبل عينيها وخديها ويديها وقدميها .
    
    يا الله ... مالذي تمتم به هذا الظلوم لامرأته ، وما شأن كل هذا الحزن القاتل ، والكمد المميت ، وكل هذه الدموع الحارة ، ولم كل هذه القبل من الأم لطفلتها ، أحبا أم رحمة أم هما معا ، وما الداعي لها في هذا الوقت ؟.
    إنها تمتمة قل بيت في جنبات مكة إلا وسمع مثلها يوما ما ، تمتمة لا أظن ظلوما يفري مثلها إلا وقد محيت كل سمة للرحمة من قلبه ، لقد طلب من الأم أن تزين ابنتها لأن هذا هو يومها الموعود ، هذا يومها الذي فيه سيمسح العار عن وجهه لإنجاب هذه البنية ، فقبح من وجه وقبح حامله ، هذا هو اليوم الذي سيدفن فيه ابنته حية كما خلقها الله ، سيذهب لصنع قبرها بيديه ، ويعود لحملها بين يديه ، ويهيل عليها التراب بيديه ، فيدفنها بيديه .
    هكذا بكل يسر وسهوله... ، لكن ما هو الجرم ؟ ما هي الفاحشة ؟ ما هي الخطيئة ؟ ما هو السبب الذي استحقت به هذا العذاب ، لا شئ لا شئ.
    يا الله يا الله يا الله... ماهذه القلوب الصلْدة ؟ وما هذا القلب الذي يحمله هذا الأب ؟ إنك لتنظر إلى السباع في الفلاة وهي ترفع أرجلها عن صغارها رحمة بها فتشهد بأن الخالق هو الله ، وترى العقرب الكريهة ذي السم الزعاف وهي تحمل صغارها على ظهرها رحمة بها فتشهد بأن الخالق هو الله ، وترى الجارحات من الطير وهي تجوب القفار للقمة تعود بها لأسغابها رحمة بها فتشهد بأن الخالق هو الله .
    وتسمع حنين الناقة العشراء على سقبها رحمة فتشهد بأن الخالق هو الله ، بهذه الرحمة حنت النّيب في نجد ، وصوت الدوح في يمن ، وأكلت الهرة صغارها .
    فماهي هذه العادة الملعونة الممقوتة ، أن يدفن الأب ابنته ، أن يقتلها بدسها حية في التراب ، أن يعلن انعدام الرحمة من قلبه ووأد لكل معان البشرية بل البهيمية ، لا لشئ سوى جاهلية وضلال قد حشر قلبه ، وعمت ظلمته الكون كله .
    ولما متع النهار يمم الأب بوجهه شطر مكة ، متخفيا من شهم كريم قد يثنيه عن مراده ، وحمل معوله لتكسير الحجارة التي قد تعترض طريقه في حفر القبر ، ولا تطاوعه في تحطيمها ، وكأنما لسان حالها يناديه قائلا: إن هذا الحجر الذي تضربه بمعولك تريد تحطيمه ، لهو ألين من قلبك الذي بين أضلعك ، يوم أن طاوعك حتى تدس في التراب فِلْذَة كبدك ، ولو نطق مرة أخرى لقال : إنك بتكسيرك لي قد أعلنت أن الإنسانية والرحمة عدمت ، وما أنت أيها الإنسان إلا حجر يسير ، لا ولن تصلح منك المعاول ما أصلحت مني ، إني وأنا حجر لا أملك ما تملكه من آدمية ، لأكنك عن كل مايؤذيك ، فتتخذ مني بيتا يقيك برد الشتاء وقيظ الصيف ويبس الخريف ومطر الربيع ، لطالما وجدت لي نفعا وصنعت بي رحمة ...، فلولا حكمة التسخير لحق لي أن أكون أنت وأنت أنا .
    وكان مع كل دقيقة تمضي ، تموت الأم المسكينة في المرة ألف مرة وهي تترقب عودة الأب ، فلا حول لها ولا قوة تدفع بها عن ابنتها ، إذ حال هذه البنت حال الكثير من أترابها ، غير أنها ترفع طرفها إلى السماء ، لعلها ترى منقذا أو مخلصا ، فلم يعد لها في الأرض من يستنقذ ابنتها ، لعل قدرا يأتي به الله فهو مقدر الأقدار وخالقها ، إنها تعلم بأن الله هو من خلقها ، لكنها كانت تجهل كيف الوصول لتقول يا ألله .
    ولما انتعل كل شئ ظله عاد الأب إلى بيته لحمل ابنته والذهاب بها عن أعين الناس ، واقترب من بيته ودخل داره مناديا لها ، فأقبلت إليه الفتاة وهي تعثر في خطاها تظن أنه يريد حملها وتقبيلها ، أو أنه يحمل في جعبته ما يدخل به الفرح والسرور على قلبها .
    أمّا الأم فقد أسقط في يدها وانهدت وخارت كل قواها ، فلم تعد تحسن غير البكاء والعويل ، جف جريضها وانعدم قريضها ، وتملكتها الرهبة وأسكتتها الرغبة ، وشخصت عيناها إلى السماء ، فلم يعد في الأرض من يغيثها ، غير سف الدموع على ابنتها التي انتزعت من بين الحياة ، ويراد أن تنتزع منها الحياة ، لتكون شاهد صدق على سوء تلك الحياة .
    
    إنها جريمة من جرائم البشرية التي كادت تتكلم لها السماء وتخر الجبال وتبكي الأرض ، أن تنتزع طفلة صغيرة من بين أحضان أمها ثم تدس في التراب .
    إنك لترى الخنفساء الصغيرة بجوار أمها ، فترى فيها من معان الطفولة مايذكرك بكل طفل صغير ، وترى الشبل الناشئ في عرين الأسد ، فترى ابتسامة ابنك الصغير قد رسمت على محياه ، وتقع عينيك على هر صغير تائه فقد أمه ، فتشعر أن في حماطة قلبك حزنا وأسفا عليه كما لو كان طفلا صغيرا من بني آدم كتب عليه اليتم .
    إن للطفولة رائحة تجدونها في أعناق أبنائكم وبناتكم ، ولها صورة لا يمكن أن ترسمها ريشة أو تعبر عنها كلمة ، ولها دفء يغمر القلب فيحرك كل رحمة ومحبة ورقة وإنسانية ، ولها ماء لو سقي به يابس العشب لاخضر عوده ، أو تنفسته وردة منسية في فلاة لتشربت ماء الحياة .
    فكيف بحال هذه الأم التي تنتحب ، وهي تشم رائحة ابنتها في كل زاوية من زوايا البيت ، كيف بقلبها وهي لم تعد تشاهد من ابنتها إلا آثارها التي تنظر إليها من دمية وثياب ، كيف بها وهي الأم التي حملت وأرضعت وأطعمت وسهرت وسقت وكست رحمة ومحبة وشفقة ، بأي لسان يمكن وصف حالها ،وأي عبارة تتسع لرسم لوعتها وحنينها وجزعها.
    يحمل الأب! ابنته بين يديه ، كما يحمل السبع الضاري الصغير من الضأن ، وهي تقبله وتلاعبه وتفتح ثغرها الباسم له ، في هذه اللحظات التي لا يعدل حب البنت لأبيها إلا ما هي عليه من غفلة وبراءة الطفولة ، يقترب الأب من موضع دس ابنته في التراب ، ويجلس طفلته بجوار قبرها ، حتى يهيئ لها مرقدا ترقد فيه ، ولشدة غفلتها وبراءتها أخذت تعبث بالتراب ، وتصنع بالحجارة ما يذكرها بالخليلات والأتراب .
    وكلما استدعاها الأب كي تقترب منه ، صوتت بنغم رخيم تكاد تقف لخوفه ساعة الحياة ، أريد أمي يا أبتاه ! لم هذه الحفرة المظلمة يا أبتاه ؟ هل تريد وضعي فيها فإياك أن تدعني فيها يا أبتاه ؟ إياك أن تدعني في هذه الظلمة وهذه الوحشة بمفردي يا أبتاه ؟.
    وما هو إلا أن يلقيها في قبرها وهي لاهية غافلة ، وبعد أن يبدأ بمعوله إهالة التراب عليها حتى تدرك شيئا من الحقيقة المفجعة ، فتضع كفيها الصغيرين المخضبين على وجهها لتتقي بهما التراب ، وتناشد أباها وهي مستصرخة باكية في إخراجها ، ويزداد إدراكها للحقيقة كلما نأت أضلعها وعظامها الدقيقة تحت وطأة التراب ، فتصرخ صرخة مدوية لا يزال صداها بين السماء والأرض حتى تحدث الأرض أخبارها ، صرخة كتبها التاريخ وسودها في صفحاته، إلا أنه لا يستطيع محاكمتها أو إجابتها ،حتى ساعة النشر والحشر فيبعثها خالقها ليسألها على رؤوس الأشهاد ، بأي ذنب قُتِلَتْ ؟ وبأي ذنب قُتِلْْتِ ؟ بأي ذنب كان هذا عقابها ؟ بأي ذنب استحقت أن تدس في التراب ؟ بأي ذنب تختلس منها الحياة وتسلب ثوب الطفولة والبراءة ؟... سيكون هناك الجواب .
    
    يا حسرتاه ...كيف استطاع تاريخ البشرية كتابة هذه الساعات التي يعجز المرء عن تصورها ، وكيف لنا بعد كتابته من محوه من هذا التاريخ ، وللأسف فقد كتب ، وصدقه أعظم وأصدق كتاب في الكون ، فجاء خبره في كتاب الله ، ليكون شاهدا على ميلاد تاريخ جديد يستقى العبرة من ماضيه .
    لقد كان هذا تاريخ سويعات يوم واحد ، وصورة قاتمة من صوره الكثيرة ، فيكف بتاريخ اليوم بأكمله ، بله لياليه وأيامه وأعوامه ، إنه يوم تكسوه عتمة الجهل والظلم والطغيان ، حتى كاد لرعبه ينعدم معنى الإنسان ، فليس من قانون إلا قانون السباع ، وليس من غاية إلا الضياع ، فيه تسفك الدماء ، وتنتهك الأعراض ، وتشرب الخمور ، وتسبى الأموال ، وتعبد الحجارة من دون الله ، فلها يذبح وبها يستغاث وعليها يتكل ، إنه يوم ميت يبعث على كراهية لليوم الذي يليه ، وسخطا على اليوم الذي قبله ، إنه تاريخ أسود مقيت لن تستطيع أمة بأسرها إصلاحه وتطهيره .
    
    وفي مثل هذه الأحداث التائهة في بحر الظلمة والضلال ، الغارقة في مقت الله وسخطه ، بعث الله عبدا من عباده ليكون مخلصا للبشرية من كل هذه الأهوال ، ويكون رحمة يهبها الخالق سبحانه للإنسانية ، ليعيد لها تاريخ الإنسانية الحقة ، فكأنه القدر الذي كانت تنتظره تلكم الأم المكلومة ، ليضع حدا لهذه المأساة وقد فعل ، ويكون للبشرية فجرا جديدا ينقذها مما هي فيه من ضنك الحياة وظلمتها وتيهها ، فيكون هو اليد البيضاء التي يصلح الخالق بها حال البشرية.
    لقد ابتعث الله رجلا من بين هذه الوجوه التي تكسوها ظلمة الجهل والكفر والبغي ، اصطفاه الله من الناس على الناس
    ومن بين الناس ليكون للناس
    وملأ قلبه رحمة فكان للناس ولغير الناس
    وعلمه الحكمة والكتاب وآتاه فصل الخطاب ، فهو المخلص لها من كل هذه المهلكات .
    لقد كان يوم مبعثه إعلانا في الكون كله بأن للبشرية تاريخا جديدا سيكتب ، وأنه سيكون لها من الصفحات البيضاء ما يسعد به كل منتم لهذا التاريخ ، سيكون لها تاريخا جديدا يستوحي الحياة ليبعثها من جديد ، ولتقتبس من نور وحيه وهديه مايضئ لها الطريق فلا تحيد ، ويكون للقلوب مشربا ترد إليه فترتشف من زلاله ، وتتطهر من براثن غيها بأوشاله ، فتستحيل القلوب قلبا واحدا ، وتأتلف الغايات غاية واحدة ، حتى غدت فكسرت أصنامها ولعنت أزلامها ، وأراقت خمورها وصانت أعراضها .
    سيكون لها عزة ومجدا وفخرا ، سيخرجها الله به من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، بل ستحيى بمبعثه الموؤدة ، فلن يدس في التراب مثل تلكم الفتاة ، أو تروع مثل تلكم الأم على ابنتها ، ستستحيل كل ظلمة إلى نور وضياء ، وسيتبدد كل جهل وظلال ليحل محله العلم والحق والهدى ، إنه التاريخ الجديد والرحمة المرسلة .
    فمن هذا الرجل العظيم ، الذي أنقذ الله به البشرية من كل براثن الظلال والانحدار ، إلى نور التوحيد وسمو الأخلاق وفضائل الأعمال ، لهو بحق من يستحق كل تعظيم من التاريخ ، فهو التاريخ الذي لم يكن للبشرية دونه تاريخ ، تاريخا ينشر ويروى للأجيال بأن لهم تاريخ ، فباسمه كتب التاريخ الباسم ، ومن دونه لم يكن لنا هذا التاريخ .
    إنه محمد صلى الله عليه وسلم
    رجل يعرفه أهل مكة ، فليس فيهم بالدعيّ في نسبه ، أو الوضيع في حسبه ، بل هو من أشرفها بيتا وأكرمها محتدا ، تعرفه مكة وأهلها بالعفة والطهارة والصدق والأمانة ، بل كانت تدعوه الصادق الأمين ، فتستأمنه على النفيس من أموالها . تعرفه مكة بجبالها وأوديتها وأشجارها وأحجارها ، بل كانت تحن إليه الأشجار ، وتتودد إليه الأحجار ، وتتبادل معه التحية والسلام .
    فما حملت من ناقة فوق ظهرها أبر وأوفى ذمــة من محمد
    أتعرفون رجلا تكلمه الأشجار والأحجار ، بل أتعرفون رجلا يسلم عليه الحجر ويحن إليه الشجر ، إنه محمد صلى الله عليه وسلم ، فكم بين ذلك الحجر الذي لسان حاله يخاطب الأب الظالم لنفسه وبنته ، وبين حجر يتودد بإلقاء السلام ، إن بينهما لبونا واسعا كما بين الشقوة والرحمة ، أو كما بين اللعنة والنعمة .
    لقد أرسله ربه رحمة للبشرية بقوله : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين  فكأن الله أعاد إليها تاريخها البشري يوم ابتعث إليها نبي الرحمة ، تاريخ الآدمية والإنسانية الذي أضاعته ، والذي تسمو به على كل المخلوقات ، علمها لماذا خلقت ، علمها أن يكون لها هدف سام في هذه الحياة لتعيش الحياة ، فتقدر نعمة الحياة لتتوصل بها لأبديتها المطلقة .
    لقد كان رحمة مهداة للكون صلى الله عليه وسلم ، رحمة أخرجت الناس من رق العبودية إلى عزها ، رحمة بين الله به طريق النجاة وسبيلها ، وأنقذنا بها من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ، رحمة نستمد منها رحمة أنفسنا ، ونستنير بهداها بين أهلنا وذوي قرابتنا ، ونستلهم وحيها مع غيرنا ، فلم تقتصر على لون أو جنس أو عرق ، بل قام سوقها على رجل وامرأة وصبي وحر وعبد ، فهي للناس كافة ، بل هي رحمة بكل مخلوق ولكل مخلوق .
    كانت رحمة جبرية بمبعث خير البرية ، فلم تكن عربية حصرية أو شرقية أو غربية ، بل عالمية سماوية ، حتى شملت البر والفاجر ، والمقبل والمدبر ، تظل الجميع بظلالها الوارفة ، وتسقيهم من سحابتها الطارفة ، مازال التاريخ يحدث حديثها ويروي نشيدها ، فلم تكن أحاسيس فياضة فحسب ، أو مشاعر وجدانية تبدأ وتنتهي في القلب ، فما كان صاحبها بشاعر يجيد تصوير الجسد أو تجسيد الصور ، بل كان للعالمين رحمة مرسلة ، فكانت رسالته شرعة ومنهاجا لكل حق ، ونواميس صدق وعدل للخلق ، تستوي معها كل الأمم ، وتستفيد منها حتى الرمم ، وتلتقي عندها أرنبة الحر بالعبد ، فلا خد ولا جد , وتستنطقها كل اللغات ، فلا عذر بالبعد .
    لقد كانت البهائم تدرك وجود هذه الرحمة وتتلمسها ، فكم شرعت منهاجا ومعلما لرحمتها والإحسان إليها ، شكى البعير إليه صلى الله عليه وسلم ظلم صاحبه وذرف الدموع بين يديه ، فما برح من مكانه حتى أنصفه من صاحبه ، وأتت إليه الحمّرة مفجوعة تفرّش بجناحيها وتشتكي أن فجعت بفراخها ، فما غادرت حتى أعاد إليها فراخها ممن أخذها .
    وحن إليه جذع شجر منحوت ، كما يحن الصبي لأمه وكما تحن العشار لأسقابها ، فما سكت حتى لامس الرحمة واحتضنه نبي الرحمة وإلا لحن إلى يوم القيامة ، كانت تدرك هذه المخلوقات بحسها وبوحي الله لها وجود هذه الرحمة في هذا النبي العظيم .
    
    وبعد ... ، أيعقل أن يفكر مخلوق بالهم بسؤ إلى هذه الرحمة ، فيسود بريشته صفحات طهر ونقاء سخّم الله وجهه بالرغام ، أو يكتب كاتب بالسواد عن صفحات النور والرحمة سخرية ، بيض الله سواد عينيه بالسهر والسقام ، لقد انبعث لكل نبي أشقياء من قومهم ، فبارزوهم بالسباب وأصناف الأذى ، فتحملوا عليهم الصلاة والسلام ما تحملوا في إيصال رسالتهم وتبليغ دعوتهم ، سُبو وشُتمو وقُتلو ، وأوذوا في أعراضهم ودمائهم وأموالهم ، فما ثناهم ثان عن رسالتهم وقصدهم .
    هذا نوح أول الرسل ، لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فكان ملأهم يسخرون منه فيجيبهم بوحي السماء  إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم 
    وهذا خليل الله ونبيه إبراهيم ، قام لله آمرا ناهيا  فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه حتى قام مقامه المشهود في التسفيه بآلهتهم ، فأنجزوا ما وعدوا وقالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين  فألقوه في النار فكانت إرادة الرحمن الرحيم أن جعلها بردا وسلاما على إبراهيم .
    وهذا كليم الله موسى ، رماه قومه بداء معيب وسحر وجنون فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها .
    وهذا كلمة الله عيسى ، رميت أمه العفيفة بالفاحشة وأجمع قومه على قتله ، فأخذوا من شبه لهم بأنه هو فقتلوه وصلبوه ، وتشدقوا بفعلتهم فأخزاهم الله  وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم  .
    وهذا خاتم الأنبياء وأفضل الرسل محمد ، أخرجه قومه من أرضه وأهله ، ولاكت السنة إفك سؤ في عرضه ، فأورثه الله أرضهم وديارهم ورقابهم ، إلا أنه لما كان نبي الرحمة وأمكنه الله منهم قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، فصفح صفح المقتدر ، وأحسن إحسان المتفضل ، وجعلها كلمة خالدة في الآخرين .
    فما زادهم الأذى من ملأ قومهم إلا إيمانا برسالتهم ، وثباتا في دعوتهم ، ونصرة من ربهم ، ورفعة على قومهم ، لأنهم صفوة الله من خلقه ، وخلقه المصطفين ، وخاصته المقربين ، ورسل هدايته ورحمته ، فعليهم من ربي صلواته وتسليماته .
    أما إن طريق الدعوة لمخوف مشوك ، وأرض مأسدة لن تعدم أحمقا أنوك ، من تشرف بنهجها لزمه الصبر على ليّها ، والتأسي بميتها وحيّها ، ممن أوذوا في الله فصبروا ، وما استكانوا وما ضعفوا .
    لها كير يعرف به الباكي من المتباكي ، والدعيّ من الداعي ، فلزم من تسنّمها أن يعد للأمر عدته ، ويعلم أنه بالبلاء مسبوق فيأخذ أهبته ، ولا يقدمن إلا على بصيرة ، وإلا كان مصيره في كثير من أمره العناء والحيرة .
    
    إن البهائم والطير لتدرك من معان الرحمة مالم يدركه أعدا الله ورسله ، ممن استهواهم الشيطان ، وختم على سمعهم وأبصارهم ، إن البقرة الحلوب لتدرك من عبادة الله ما أعرض عنه أربابها في كثير من أقطار الدنيا .
    فليسأل بني الأصفر بقرته الحلوب ، ألم ينه صلى الله عليه وسلم عن ركوب ظهرها وضربها ، سل نعجتك وشاتك الراتعة ألم يأمرنا بأن نصلح لها الطريق ونمهده حتى تسير في يسر وسهوله ، سل هرتك الطوافة ألم يكن نبي الرحمة يرخي لها السقاء حتى تشرب وترتوي ، سل كلبك الوفي ألم يخبرنا نبي الرحمة بأنه كان يوما سببا لمن أحسن إليه في دخول الجنة ، سل النملة في قريتها ألم ينهنا عن حرقها وتعذيبها والإساءة إليها ، سل الطير في وكناته ألم يستجر حين أخذت صغاره بالرحمة المهداة ، سل البهائم كلها ألم ينه عن التفريق بين والدة وولدها ، سلها ألم يأمرنا بالرحمة بها والإحسان إليها حتى عند ذبحها.
    ستجيبك لو كان لها بيان ، بأنك أيه الإنسان ، لا تساوي في ميزان الحقيقة الإنسانية ونيم الذباب عند تنكرك لهذه الرحمة ، ستجيبك بأن هذه الرحمة لم ترسل للون أو جنس أو عرق ، بل للبشرية كافة ، بل لكل مخلوق يلامسه الأثير ، فكيف بالإنسان الذي يسير.
    لقد عرفت العرب في تاريخها من بلغت بهم النخوة والشهامة مكانا محمودا ، حتى سمي أحدهم بمجير الذئب ، وآخر بمجير الطير وثالث بمجير الوعل ... ، لكن محمد صلى الله عليه وسلم كان مجيرا للإنسانية كافة لأنه الرحمة المرسلة .
    إنك لتعجب من قوم دوابهم أفطن منهم ، بل أطوع لله وأعبد ، فوا عجبا بقرة خير من إنسان ؟! وهل يبقى للإنسانية معنى عند كفرها بخالقها وإعراضها واستكبارها ؟! ، هل يبقى لها شئ من معنى الحياة الحقة عند تكذيبها لرسله والسخرية منهم والاستهزاء بهم؟!.
    لا يبقى إلا شئ من البهيمية التي لا ترقى لمستوى كثير من البهائم ، فما قيمة الإنسان وهو يعلم أن وجوده في هذا الكون بأمر الله ! وأن الله كرمه على سائر المخلوقات ، ثم هو يتنكر لهذه المنحة الربانية ويعاديها وينسلخ من كل معانيها ؟ لاشئ لاشئ .
    
    إننا نغضب ونغضب وغضبنا وسنغضب ومن الذي لن يغضب أولم يغضب لهمسة يُنتقص بها من مقام الأنبياء ، إن أحدنا ليغضب إذا جَهِل عليه أحد السفهاء ، أو انتُقص ملح طعامه ، أو انقطع شسع نعله ، أولا يراد منا أن نغضب ونحن نرى بعض السفهاء يتعدى كل حمق بشري ، فيبلغ في العتو والسفه منتهاه ، ليسئ لمن أتى إليه بالرحمة والهدى والنور ، ويسخر بمن أتى له منقذا ومخلصا من التيه الذي هو فيه .
    فليت له عقل بقرته السارحة في مرعاها ، ولعمري وما عمري علي بهين خاصة مع مثله ، ما أظن البقر يقبل به واحدا من صواره لو قدر له ذلك ، فما هو إلا عار على الإنسانية حين يئد معناها في ضميره ووجدانه ، فيعادي رسل الإنسانية والرحمة والهداية ، وينفتل لسبهم والسخرية بهم ، وينبعث ليكون في صفها أشقاها ، ويتفنن كي يبلغ في السخرية منتهاها ، فبسم الله مجراها ومرساها ، مع كل كلمة بالحق مغلغلة ، وللظالم مزلزلة ، وبالحق وللحق مدوية ، فليس يصلح هذا الضرب من الفن إلا سيف مليح ، أو توبة كالصبح الصريح ، ولن تفلح أمة آذت نبيها ، أو توانت عن نصرته والذب عن جنابه الشريف .
    لقد كان المسلمون يستبشرون بألغلبة على أعدائهم حين يسمعون منهم سب نبيهم ، فتفح لهم الحصون وتدك القلاع وتملك الرقاب ، فلن يخلف الله وعده في تعجيل النصَفَة من منتقصهم ، فهل في قلوبنا مافي قلوب الأولين حتى نستبشر بهذه النصرة ، أم أن القلوب صدئة تحتاج إلى تجلية وتطهير ، فيعوزنا النصرة لهم من أنفسنا وسمتنا وهدينا الشئ الكثير ، ولعل إمضاء هذا لا يعوزه استشارة أو تخيير ، فإن لم تكن سحابة مودقة فاستمطار وتمطير ، فهاهي المنابر قد علت في كل واد لكنها تشكوا قلة المتعبدين ، وهاهي المنكرات يتندر بها جهرة في المحافل والميادين ، وأمور تتبدى كل يوم يحار لها الحليم في كل حين ، فما أحوج توبتنا إلى توبة ، ونصرتنا إلى نصرة .
    إن العالم كله ليعيش لحظات سؤ هضم فكري ، أفرزت عنه عصارة صفراوية وأخلاطا وغددا تحتاج معه لاستئصال ، فالأيام حبلى بالكثير من التوائم المشوهة التي تحتاج إلى وأد شرعي ، وما هذا إلا للإعراض عن هدي الرحمة المرسلة ، والتيه في اختيار أقوم النجدين طريقا ، حتى كادت الأرض تتجرد عن ردائها الأخضر الجميل ، وتكتسي ضؤ الشمس فتحرق كل ورقة خضراء يستظل بها عن لهيبها ، فلم يعد من البساتين ماتهنأ معه الحياة ويطيب العيش إلا ما نبتت باسمه تلكم الرحمة المرسلة ، ورسمت على نهجه تلكم الطريقة الراشدة ، ولم يعد من الحياة ما يطيب للنفس أن تحياه إلا مع نوره الذي يزيح هذا الظلام الدامس الذي أجدبت معه الأرض ، وامتنع القطر ، وهجر الصاحب الصاحب ، والخليل خليله اللازب ، واختصم الولد مع الوالد ، وبخل الواجد ، وكسر ظهر الفاقد ، وكاد كل لون يفقد لونه ، وكل لذيذ من العيش يفقد طعمه ، وكل زاك من الطيب يفقد طيبه ، فما أشقاها من حياة حين تنكبها عن هذه الرحمة ! وما أضيقها من دنيا حين لم يسعها هدي نبي الرحمة !.
    
    ومع هذه الفسالة المخجلة ، فلا بد أن نري الله من قلوبنا خيرا ، وأن يتحمل كل منا وسعه في هذه الغضبة ، ويجاهد جهده بسنان أو قلم أو إيالة ، وياليت شعري كيف للأمة بصعقة غضبية عمرية ، وإن لم يكن ثم فمعتصمية .
    وبعد هذا فلن نتعدى في غضبنا هذا فوق ما كان من نبينا صلى الله عليه وسلم ، أو نتكلف فوق جهدنا ، وإن كان الكمد يغلي بالقلب غليان المرجل بما فيه ، فلقد أوذي صلى الله عليه وسلم من قبل فصبر ، إذ كانت الرحمة المتدفقة من قلبه ملكته زمام كل رحمة في طول الأرض وعرضها ، وأورثته قوة وعظمة تعلو كل انتصار ، فلم ينتصر انتصار المقهور المغلوب على أمره بل عفى وأصلح ، ولم يردّ تسفها إذ كان يستقى الحكمة من تنزيل الحكيم الحميد ، فكان بخلقه العظيم وصدره المنشرح يحمل للدنيا كلمة جديدة على سمعها لم يسعها معها إلا المعاداة ، فلم يجبها جواب شاعر أو ناثر ، بل سكت سكوت القوي الذي لا يريد من الكلمة إلا خلْقها حين يلقيها ، حتى تكون كالغيث الملاقي أرضا ميتة ، فينبت به العشب وتخضر له الأرض ويدر معه الضرع ، فكان لا يضاهي فصاحته حين يتكلم إلا بلاغته في السكوت ، لقد كان في سكوته إرادة وحديثا ورؤية تنقشع به هذه الظلمة وتتبدد له هذه الغشاوة ، وهو بذلك يستنطق هذه الوجوه الخاسرة كي تتساقط أوراقها فتسفر عن ورق مخضر يتنفس ينبوع الحياة العذبة الصادقة .
    ولم يضرب بيده الشريفة ضعيفا ليخيف بذلك الأقوياء ، بل كان يقصدهم فيعرض عليهم رسالته وما حمله إليهم من نور ورحمة فشقي وسعيد ، فلن يسعنا إلا ما وسعه صلى الله عليه وسلم من ذلك ، فهذا قبس لم يخفت ضوؤه بل هو ممتد حتى يشاء الله ، ولمثل هذا الصنيع من أعداء الرسل باب من الرحمة يتسع لناشد إنسانية الإنسانية في جلال العبودية ، لأنها لم تكن يوما عربية بل عالمية ، ولم تكن أرضية بل سماوية ، فكانت ربانية ملهمة ، وتاريخ جديد ورحمة مرسلة .

    ولصعوبة التنسق ارفقه منسقا على الوورد وبالله التوفيق
    الملفات المرفقة الملفات المرفقة

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •