تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 7 من 22 الأولىالأولى 1234567891011121314151617 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 121 إلى 140 من 433

الموضوع: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد

  1. #121

    افتراضي تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد

    ( 52 )

    من سورة النساء
    { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ
    وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
    وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
    فَسَيَحْشُرُهُم ْ إِلَيْهِ جَمِيعًا *
    فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
    فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
    وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا
    فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
    وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا }

    { 172 ، 173 }


    لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه السلام،


    وذكر أنه عبده ورسوله،

    ذكر هنا أنه لا يستنكف عن عبادة ربه،

    أي: لا يمتنع عنها رغبة عنها، لا هو { وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ }

    فنزههم عن الاستنكاف وتنزيههم عن الاستكبار من باب أولى،

    ونفي الشيء فيه إثبات ضده.


    أي: فعيسى والملائكة المقربون قد رغبوا في عبادة ربهم،


    وأحبوها وسعوا فيها بما يليق بأحوالهم،

    فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم والفوز العظيم،

    فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ولا لإلهيته،

    بل يرون افتقارهم لذلك فوق كل افتقار.


    ولا يظن أن رفع عيسى أو غيره من الخلق

    فوق مرتبته التي أنزله الله فيها وترفعه عن العبادة كمالا،

    بل هو النقص بعينه، وهو محل الذم والعقاب،

    ولهذا قال: { وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُم ْ إِلَيْهِ جَمِيعًا }

    أي: فسيحشر الخلق كلهم إليه،

    المستنكفين والمستكبرين وعباده المؤمنين،

    فيحكم بينهم بحكمه العدل، وجزائه الفصل.
    ثم فصل حكمه فيهم فقال:

    { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي:

    جمعوا بين الإيمان المأمور به، وعمل الصالحات من واجبات ومستحبات،

    من حقوق الله وحقوق عباده.


    { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي: الأجور التي رتبها على الأعمال،

    كُلٌّ بحسب إيمانه وعمله.

    { وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ }

    من الثواب الذي لم تنله أعمالهم ولم تصل إليه أفعالهم،
    ولم يخطر على قلوبهم.


    ودخل في ذلك كل ما في الجنة من المآكل والمشارب، والمناكح،
    والمناظر والسرور، ونعيم القلب والروح، ونعيم البدن،
    بل يدخل في ذلك كل خير ديني ودنيوي رتب على الإيمان والعمل الصالح.

    { وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا } أي: عن عبادة الله تعالى

    { فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وهو سخط الله وغضبه،
    والنار الموقدة التي تطلع على الأفئدة.


    { وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا }


    أي: لا يجدون أحدا من الخلق يتولاهم فيحصل لهم المطلوب،

    ولا مَن ينصرهم فيدفع عنهم المرهوب،

    بل قد تخلى عنهم أرحم الراحمين،

    وتركهم في عذابهم خالدين،

    وما حكم به تعالى فلا رادّ لحكمه ولا مغيّر لقضائه.
    الحمد لله رب العالمين

  2. #122

    افتراضي تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد

    ( 53 )

    من سورة المائدة

    { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ
    فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
    الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ
    وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
    وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا
    }

    { 3 }


    واليوم المشار إليه يوم عرفة، إذ أتم الله دينه، ونصر عبده ورسوله،


    وانخذل أهل الشرك انخذالا بليغا،

    بعد ما كانوا حريصين على رد المؤمنين عن دينهم، طامعين في ذلك.


    فلما رأوا عز الإسلام وانتصاره وظهوره،

    يئسوا كل اليأس من المؤمنين، أن يرجعوا إلى دينهم،

    وصاروا يخافون منهم ويخشون،

    ولهذا في هذه السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم

    سنة عشر حجة الوداع

    - لم يحج فيها مشرك، ولم يطف بالبيت عريان.


    ولهذا قال: { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ }
    أي: فلا تخشوا المشركين،

    واخشوا الله الذي نصركم عليهم وخذلهم،

    ورد كيدهم في نحورهم.

    { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }

    بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع،


    ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية،

    في أحكام الدين أصوله وفروعه.

    فكل متكلف يزعم أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم

    إلى علوم غير علم الكتاب والسنة،


    من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطل في دعواه،

    قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه،

    وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله.



    { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } الظاهرة والباطنة

    { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا }

    أي: اخترته واصطفيته لكم دينا،

    كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرا لربكم،


    واحمدوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها.
    الحمد لله رب العالمين

  3. #123
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو فراس السليماني مشاهدة المشاركة
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
    فإن في القرآن الكريم البراهين العظيمة على إثبات التوحيد والإخلاص لله تعالى وحده
    ونقض الشرك والرد على المشركين
    وهي مبثوثة في سور القرآن الكريم

    فرأيت أن أجمع ما تيسر منها مع تفسيرها
    للعلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى

    من تفسيره العظيم تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان،
    عسى الله تعالى أن يكرمنا وسائر المسلمين
    بالعلم النافع والعمل الصالح،
    وأسميته

    تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد

    جزاكم الله خيرا
    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  4. #124

    افتراضي تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد

    وإياكم أختنا الفاضلة

    =======


    ( 54 )

    من سورة المائدة

    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
    وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ
    وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ
    لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

    { 35 }هذا أمر من الله لعباده المؤمنين،
    بما يقتضيه الإيمان من تقوى الله والحذر من سخطه وغضبه،
    وذلك بأن يجتهد العبد، ويبذل غاية ما يمكنه من المقدور
    في اجتناب ما يَسخطه الله،
    من معاصي القلب واللسان والجوارح، الظاهرة والباطنة.
    ويستعين بالله على تركها،
    لينجو بذلك من سخط الله وعذابه.



    { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ }

    أي:
    القرب منه، والحظوة لديه، والحب له،

    وذلك بأداء فرائضه القلبية، كالحب له وفيه،

    والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل.

    والبدنية: كالزكاة والحج. والمركبة من ذلك كالصلاة ونحوها،

    من أنواع القراءة والذكر،

    ومن أنواع الإحسان إلى الخلق
    بالمال والعلم والجاه، والبدن،
    والنصح لعباد الله،

    فكل هذه الأعمال تقرب إلى الله.

    ولا يزال العبد يتقرب بها إلى الله حتى يحبه الله،

    فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به،

    ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي [بها]

    ويستجيب الله له الدعاء.


    ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه،

    الجهاد في سبيله،

    وهو: بذل الجهد في قتال الكافرين بالمال، والنفس، والرأي، واللسان،

    والسعي في نصر دين الله بكل ما يقدر عليه العبد،

    لأن هذا النوع من أجل الطاعات وأفضل القربات.

    ولأن من قام به، فهو على القيام بغيره أحرى وأولى


    { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

    إذا اتقيتم الله بترك المعاصي،


    وابتغيتم الوسيلة إلى الله، بفعل الطاعات،

    وجاهدتم في سبيله ابتغاء مرضاته.

    والفلاح هو الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب،

    والنجاة من كل مرهوب،

    فحقيقته السعادة الأبدية والنعيم المقيم.

    الحمد لله رب العالمين

  5. #125

    افتراضي تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد

    ( 55 )

    من سورة المائدة

    { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
    فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }

    { 44 }


    { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
    فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }

    { 45 }



    { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ }

    من الحق المبين، وحكم بالباطل الذي يعلمه،

    لغرض من أغراضه الفاسدة



    { فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }

    فالحكم بغير ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر،



    وقد يكون كفرا ينقل عن الملة، وذلك إذا اعتقد حله وجوازه.

    وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب،

    ومن أعمال الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد.

    { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
    قال ابن عباس: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق،

    فهو ظلم أكبر، عند استحلاله،

    وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له.

    الحمد لله رب العالمين

  6. #126

    افتراضي تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد

    ( 56 )

    من سورة المائدة

    { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ
    وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا
    لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }


    { 50 }

    { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ }

    أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية،



    وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله.

    فلا ثمَّ إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية.

    فمن أعرض عن الأول

    ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي،

    ولهذا أضافه الله للجاهلية،

    وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم،

    والعدل والقسط، والنور والهدى.

    { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }
    فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين


    ويميز -بإيقانه- ما في حكم الله من الحسن والبهاء،

    وأنه يتعين -عقلا وشرعا- اتباعه.


    واليقين،
    هو العلم التام الموجب للعمل.

    الحمد لله رب العالمين

  7. #127

    افتراضي تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد

    ( 57 )

    من سورة المائدة

    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ

    بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
    وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
    إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }



    { 51 - 53 }

    يرشد تعالى عباده المؤمنين
    حين بيَّن لهم أحوال اليهود والنصارى وصفاتهم غير الحسنة،

    أن لا يتخذوهم أولياء.
    فإن بَعْضهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يتناصرون فيما بينهم
    ويكونون يدا على من سواهم،

    فأنتم لا تتخذوهم أولياء،
    فإنهم الأعداء على الحقيقة ولا يبالون بضركم،

    بل لا يدخرون من مجهودهم شيئا على إضلالكم،



    فلا يتولاهم إلا من هو مثلهم،
    ولهذا قال: { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْْ }
    لأن التولي التام يوجب الانتقال إلى دينهم.
    والتولي القليل يدعو إلى الكثير،
    ثم يتدرج شيئا فشيئا،
    حتى يكون العبد منهم.




    { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
    أي: الذين وصْفُهم الظلم، وإليه يَرجعون، وعليه يعولون.
    فلو جئتهم بكل آية ما تبعوك، ولا انقادوا لك.


    الحمد لله رب العالمين

  8. #128

    افتراضي

    ( 58 )

    من سورة المائدة

    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ

    فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ

    أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
    يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
    وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ
    ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ

    وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

    { 54 }

    يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين،

    وأنه من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا، وإنما يضر نفسه.

    وأن لله عبادا مخلصين، ورجالا صادقين،

    قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم، ووعد بالإتيان بهم،

    وأنهم أكمل الخلق أوصافا، وأقواهم نفوسا، وأحسنهم أخلاقا،


    أجلُّ صفاتهم أن الله
    { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }

    فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه،

    وأفضل فضيلة، تفضل الله بها عليه،

    وإذا أحب الله عبدا يسر له الأسباب، وهون عليه كل عسير،

    ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات،

    وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد.
    ومن لوازم محبة العبد لربه،
    أنه لابد أن يتصف
    بمتابعة الرسول
    صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا،
    في أقواله وأعماله وجميع أحواله،
    كما قال تعالى:

    { قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }

    كما أن من لازم محبة الله للعبد،
    أن يكثر العبد من التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل،

    كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله:

    "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه،

    ولا يزال [عبدي] يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه،

    فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به،

    وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها،

    ورجله التي يمشي بها،

    ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".

    ومن لوازم محبة الله معرفته تعالى، والإكثار من ذكره،

    فإن المحبة بدون معرفة بالله ناقصة جدا،

    بل غير موجودة وإن وجدت دعواها،

    ومن أحب الله أكثر من ذكره،

    وإذا أحب الله عبدا قبل منه اليسير من العمل،
    وغفر له الكثير من الزلل.


    ومن صفاتهم أنهم { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين }

    فهم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم، ونصحهم لهم،

    ولينهم ورفقهم ورأفتهم، ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم،

    وقرب الشيء الذي يطلب منهم


    وعلى الكافرين بالله، المعاندين لآياته، المكذبين لرسله أعزة،

    قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم،

    وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم،


    قال تعالى:


    {
    وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ

    تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
    }


    وقال تعالى: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }

    فالغلظة والشدة على أعداء الله مما يقرب العبد إلى الله،

    ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم،

    ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة
    دعوتهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن.


    فتجتمع الغلظة عليهم، واللين في دعوتهم،

    وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم.


    { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }

    بأموالهم وأنفسهم، بأقوالهم وأفعالهم.


    { وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ }

    بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين،


    وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم،


    فإن ضعيف القلب ضعيف الهمة، تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين،

    وتفتر قوته عند عذل العاذلين.

    وفي قلوبهم تعبد لغير الله، بحسب ما فيها من مراعاة الخلق

    وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله،

    فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله،

    حتى لا يخاف في الله لومة لائم.


    ولما مدحهم تعالى بما من به عليهم منَّ الصفات الجليلة والمناقب العالية،

    المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير

    أخبر أن هذا من فضله عليهم وإحسانه لئلا يعجبوا بأنفسهم،

    وليشكروا الذي مَنَّ عليهم بذلك ليزيدهم من فضله،

    وليعلم غيرُهم أن فضل الله تعالى ليس عليه حجاب،


    فقال: { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم }

    أي: واسع الفضل والإحسان، جزيل المنن،

    قد عمت رحمته كل شيء،

    ويوسع على أوليائه من فضله، ما لا يكون لغيرهم،

    ولكنه عليم بمن يستحق الفضل فيعطيه،

    فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلا وفرعا.
    الحمد لله رب العالمين

  9. #129

    افتراضي

    ( 59 )

    من سورة المائدة


    { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
    الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ *
    وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
    فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }

    { 55 ، 56 }

    لما نهى عن ولاية الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم،

    وذكر مآل توليهم أنه الخسران المبين،

    أخبر تعالى مَن يجب ويتعين توليه، وذكر فائدة ذلك ومصلحته

    فقال: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ }


    فولاية الله تدرك بالإيمان والتقوى.

    فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا،

    ومن كان وليا لله فهو ولي لرسوله،

    ومن تولى الله ورسوله كان تمام ذلك تولي من تولاه،


    وهم المؤمنون الذين قاموا بالإيمان ظاهرا وباطنا، وأخلصوا للمعبود،

    بإقامتهم الصلاة بشروطها وفروضها ومكملاتها،


    وأحسنوا للخلق، وبذلوا الزكاة من أموالهم لمستحقيها منهم.


    وقوله: { وَهُمْ رَاكِعُونَ } أي: خاضعون لله ذليلون.


    فأداة الحصر في قوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا }

    تدل على أنه يجب قصر الولاية على المذكورين،


    والتبري من ولاية غيرهم.

    ثم ذكر فائدة هذه الولاية فقال:

    { وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }


    أي: فإنه من الحزب المضافين إلى الله إضافة عبودية وولاية،

    وحزبه هم الغالبون الذين لهم العاقبة في الدنيا والآخرة،


    كما قال تعالى: { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }

    وهذه بشارة عظيمة،

    لمن قام بأمر الله وصار من حزبه وجنده،


    أن له الغلبة،

    وإن أديل عليه في بعض الأحيان لحكمة يريدها الله تعالى،


    فآخر أمره الغلبة والانتصار،

    ومن أصدق من الله قيلا.
    الحمد لله رب العالمين

  10. #130

    افتراضي تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد

    ( 60 )


    من سورة المائدة


    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا
    مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ
    وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *

    وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا
    ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ }


    { 57 ، 58 }


    ينهى عباده المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب
    من اليهود والنصارى ومن سائر الكفار أولياء يحبونهم ويتولونهم،


    ويبدون لهم أسرار المؤمنين،

    ويعاونونهم على بعض أمورهم التي تضر الإسلام والمسلمين،

    وأن ما معهم من الإيمان يوجب عليهم ترك موالاتهم،

    ويحثهم على معاداتهم،

    وكذلك التزامهم لتقوى الله التي هي امتثال أوامره واجتناب زواجره

    مما تدعوهم إلى معاداتهم،



    وكذلك ما كان عليه المشركون والكفار المخالفون للمسلمين،

    من قدحهم في دين المسلمين،

    واتخاذهم إياه هزوا ولعبا، واحتقاره واستصغاره،

    خصوصا الصلاة التي هي أظهر شعائر المسلمين، وأجلُّ عباداتهم،

    إنهم إذا نادوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا،

    وذلك لعدم عقلهم ولجهلهم العظيم،

    وإلا فلو كان لهم عقول لخضعوا لها،

    ولعلموا أنها أكبر من جميع الفضائل التي تتصف بها النفوس.


    فإذا علمتم أيها المؤمنون حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم،

    فمن لم يعادهم بعد هذا دل على أن الإسلام عنده رخيص،

    وأنه لا يبالي بمن قدح فيه أو قدح بالكفر والضلال،

    وأنه ليس عنده من المروءة والإنسانية شيء.


    فكيف تدعي لنفسك دينا قيما،
    وأنه الدين الحق وما سواه باطل،
    وترضى بموالاة من اتخذه هزوا ولعبا،
    وسخر به وبأهله، من أهل الجهل والحمق؟!



    وهذا فيه من التهييج على عداوتهم

    ما هو معلوم لكل من له أدنى مفهوم.
    الحمد لله رب العالمين

  11. #131

    افتراضي

    ( 61 )

    من سورة المائدة


    { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا

    بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ


    وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا
    وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
    كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ
    وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا
    وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }
    { 64 }


    يخبر تعالى عن مقالة اليهود الشنيعة، وعقيدتهم الفظيعة، فقال:

    { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } أي: عن الخير والإحسان والبر.


    { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا } وهذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم.

    فإن كلامهم متضمن لوصف الله الكريم، بالبخل وعدم الإحسان.

    فجازاهم بأن كان هذا الوصف منطبقا عليهم.


    فكانوا أبخل الناس وأقلهم إحسانا، وأسوأهم ظنا بالله،

    وأبعدهم الله عن رحمته التي وسعت كل شيء،

    وملأت أقطار العالم العلوي والسفلي.


    ولهذا قال: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ }

    لا حجر عليه، ولا مانع يمنعه مما أراد،

    فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي،

    وأمر العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده،

    وأن لا يسدوا على أنفسهم أبواب إحسانه بمعاصيهم.

    فيداه سحاء الليل والنهار،


    وخيره في جميع الأوقات مدرارا،
    يفرج كربا، ويزيل غما،

    ويغني فقيرا،
    ويفك أسيرا ويجبر كسيرا,
    ويجيب سائلا،
    ويعطي فقيرا عائلا،
    ويجيب المضطرين،
    ويستجيب للسائلين.
    وينعم على من لم يسأله،

    ويعافي من طلب العافية،
    ولا يحرم من خيره عاصيا،
    بل خيره يرتع فيه البر والفاجر،

    ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح الأعمال
    ثم يحمدهم عليها،

    ويضيفها إليهم، وهي من جوده
    ويثيبهم عليها من الثواب العاجل والآجل
    ما لا يدركه الوصف،
    ولا يخطر على بال العبد،


    ويلطف بهم في جميع أمورهم،
    ويوصل إليهم من الإحسان،
    ويدفع عنهم من النقم
    ما لا يشعرون بكثير منه،

    فسبحان مَن كل النعم التي بالعباد فمنه،
    وإليه يجأرون في دفع المكاره،
    وتبارك من لا يحصي أحد ثناء عليه,
    بل هو كما أثنى على نفسه،

    وتعالى من لا يخلو العباد من كرمه طرفة عين،
    بل لا وجود لهم ولا بقاء إلا بجوده.


    وقبَّح الله من استغنى بجهله عن ربه،

    ونسبه إلى ما لا يليق بجلاله،

    بل لو عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة،

    ونحوهم ممن حاله كحالهم ببعض قولهم،

    لهلكوا، وشقوا في دنياهم،

    ولكنهم يقولون تلك الأقوال،

    وهو تعالى, يحلم عنهم، ويصفح،

    ويمهلهم ولا يهملهم.



    وقوله { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا }


    وهذا أعظم العقوبات على العبد،


    أن يكون الذكر الذي أنزله الله على رسوله،

    الذي فيه حياة القلب والروح،

    وسعادة الدنيا والآخرة, وفلاح الدارين،

    الذي هو أكبر منة امتن الله بها على عباده,

    توجب عليهم المبادرة إلى قبولها,

    والاستسلام لله بها, وشكرا لله عليها,


    أن تكون لمثل هذا زيادة غي إلى غيه،

    وطغيان إلى طغيانه، وكفر إلى كفره،

    وذلك بسبب إعراضه عنها، ورده لها،

    ومعاندته إياها، ومعارضته لها بالشبه الباطلة.


    { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ }

    فلا يتآلفون، ولا يتناصرون, ولا يتفقون على حالة فيها مصلحتهم،

    بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم, متعادين بأفعالهم, إلى يوم القيامة


    { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ } ليكيدوا بها الإسلام وأهله،

    وأبدوا وأعادوا، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم


    { أَطْفَأَهَا اللَّهُ } بخذلانهم وتفرق جنودهم, وانتصار المسلمين عليهم.


    { وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا }

    أي: يجتهدون ويجدون، ولكن بالفساد في الأرض،


    بعمل المعاصي، والدعوة إلى دينهم الباطل،

    والتعويق عن الدخول في الإسلام.


    { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }

    بل يبغضهم أشد البغض، وسيجازيهم على ذلك.



    الحمد لله رب العالمين

  12. #132

    افتراضي

    ( 62 )

    من سورة المائدة


    { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ
    وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ
    إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
    فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ
    وَمَأْوَاهُ النَّارُ

    وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ

    لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ

    وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ

    وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ
    لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
    أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ
    وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ


    مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ
    قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ

    كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ

    انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ
    ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ }

    { 72 / 75 }


    يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم:

    { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ }

    بشبهة أنه خرج من أم بلا أب، وخالف المعهود من الخلقة الإلهية،

    والحال أنه عليه الصلاة والسلام قد كذبهم في هذه الدعوى،


    وقال لهم: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ }

    فأثبت لنفسه العبودية التامة،

    ولربه الربوبية الشاملة لكل مخلوق.


    { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ } أحدا من المخلوقين، لا عيسى ولا غيره.


    { فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ }

    وذلك لأنه سوى الخلق بالخالق،


    وصرف ما خلقه الله له وهو العبادة الخالصة لغير من هي له،

    فاستحق أن يخلد في النار.


    { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ }

    ينقذونهم من عذاب الله، أو يدفعون عنهم بعض ما نزل بهم.

    { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ }

    وهذا من أقوال النصارى المنصورة عندهم،

    زعموا أن الله ثالث ثلاثة: الله، وعيسى، ومريم،

    تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.


    وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى،

    كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء، والعقيدة القبيحة؟!

    كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوقين ؟!

    كيف خفي عليهم رب العالمين؟!


    قال تعالى رادا عليهم وعلى أشباههم :

    { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ }

    متصف بكل صفة كمال، منـزه عن كل نقص،

    منفرد بالخلق والتدبير، ما بالخلق من نعمة إلا منه.

    فكيف يجعل معه إله غيره؟

    تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

    ثم توعدهم بقوله:

    { وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }


    ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم، وبين أنه يقبل التوبة عن عباده

    فقال: { أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ }

    أي: يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من الإقرار لله بالتوحيد،

    وبأن عيسى عبد الله ورسوله،

    عما كانوا يقولونه { وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ } عن ما صدر منهم

    { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

    أي: يغفر ذنوب التائبين، ولو بلغت عنان السماء،


    ويرحمهم بقبول توبتهم، وتبديل سيئاتهم حسنات.


    وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله:

    { أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ }



    ثم ذكر حقيقة المسيح وأُمِّه، الذي هو الحق،

    فقال: { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ }

    أي: هذا غايته ومنتهى أمره، أنه من عباد الله المرسلين،

    الذين ليس لهم من الأمر ولا من التشريع، إلا ما أرسلهم به الله،

    وهو من جنس الرسل قبله،

    لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية.


    { وَأُمَّهُ } مريم { صِدِّيقَةٌ } أي: هذا أيضا غايتها،

    أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء.

    والصديقية، هي العلم النافع المثمر لليقين، والعمل الصالح.


    وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية، بل أعلى أحوالها الصديقية،

    وكفى بذلك فضلا وشرفا.

    وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية،

    لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين، في الرجال كما قال تعالى:

    { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ }

    فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله،

    وأمه صديقة، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟


    وقوله: { كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ }

    دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران،

    محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب،

    فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب،

    ولم يحتاجا إلى شيء،

    فإن الإله هو الغني الحميد.


    ولما بين تعالى البرهان قال:

    { انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ } الموضحة للحق، الكاشفة لليقين،

    ومع هذا لا تفيد فيهم شيئا،

    بل لا يزالون على إفكهم وكذبهم وافترائهم،

    وذلك ظلم وعناد منهم.
    الحمد لله رب العالمين

  13. #133

    افتراضي

    ( 63 )

    من سورة المائدة

    { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
    مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا
    وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

    { 76 }


    أي: { قُلْ } لهم أيها الرسول:

    { أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } من المخلوقين الفقراء المحتاجين،


    { ما لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا }

    وتدعون من انفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع،
    { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ }

    لجميع الأصوات باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات.


    { الْعَلِيمُ }

    بالظواهر والبواطن، والغيب والشهادة، والأمور الماضية والمستقبلة،


    فالكامل تعالى الذي هذه أوصافه


    هو الذي يستحق أن يفرد بجميع أنواع العبادة،

    ويخلص له الدين.

    الحمد لله رب العالمين

  14. #134

    افتراضي

    ( 64 )

    من سورة المائدة

    { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ
    وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ
    وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ }

    { 77 _ 81 }

    يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:

    { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ }

    أي: لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل،

    وذلك كقولهم في المسيح، ما تقدم حكايته عنهم.


    وكغلوهم في بعض المشايخ، اتباعا لـ { أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ }

    أي: تقدم ضلالهم.


    { وَأَضَلُّوا كَثِيرًا } من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين، الذي هم عليه.


    { وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } أي: قصد الطريق، فجمعوا بين الضلال والإضلال،

    وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله عنهم


    وعن اتباع أهوائهم المردية، وآرائهم المضلة.
    الحمد لله رب العالمين

  15. #135

    افتراضي

    ( 65 )

    من سورة المائدة

    { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ

    وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ


    وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ

    وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ *


    وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ

    قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا
    أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }

    { 103 _ 104 }

    هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله،

    وحرموا ما أحله الله،

    فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما،

    على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله


    فقال: { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ }

    وهي: ناقة يشقون أذنها، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة.

    { وَلَا سَائِبَةٍ } وهي: ناقة، أو بقرة، أو شاة، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه،

    سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل،

    وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة.

    { وَلَا حَامٍ } أي: جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل،

    إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم.


    فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان.

    وإنما ذلك افتراء على الله، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم،

    ولهذا قال: { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }

    فلا نقل فيها ولا عقل،

    ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم.


    فإذا دعوا { إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ } أعرضوا فلم يقبلوا،

    و { قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } من الدين،

    ولو كان غير سديد، ولا دينًا ينجي من عذاب الله.

    ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية لهان الأمر.


    ولكن آباءهم لا يعقلون شيئا،

    أي: ليس عندهم من المعقول شيء،

    ولا من العلم والهدى شيء.

    فتبا لمن قلَّد من لا علم عنده صحيح،

    ولا عقل رجيح،

    وترك اتباع ما أنزل الله، واتباع رسله

    الذي يملأ القلوب علما وإيمانا, وهدى, وإيقانا.
    الحمد لله رب العالمين

  16. #136

    افتراضي

    ( 66 )


    من سورة المائدة


    { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
    أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ
    قال سُبْحَانَكَ
    مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ
    إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ
    تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ
    إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ *

    مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ
    أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ
    وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ
    فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ
    وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *


    إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ
    وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *
    قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ
    لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
    رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
    ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *
    لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وما فيهن
    وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }


    { 116 _ 120 }


    { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
    أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ }

    وهذا توبيخ للنصارى الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة،
    فيقول الله هذا الكلام لعيسى.

    فيتبرأ عيسى ويقول:

    { سُبْحَانَكَ } عن هذا الكلام القبيح، وعمّا لا يليق بك.



    { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ }

    أي: ما ينبغي لي، ولا يليق أن أقول شيئا ليس من أوصافي ولا من حقوقي،

    فإنه ليس أحد من المخلوقين،

    لا الملائكة المقربون ولا الأنبياء المرسلون ولا غيرهم

    له حق ولا استحقاق لمقام الإلهية وإنما الجميع عباد، مدبرون،

    وخلق مسخرون، وفقراء عاجزون



    { إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }

    فأنت أعلم بما صدر مني

    و { إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ }

    وهذا من كمال أدب المسيح عليه الصلاة والسلام في خطابه لربه،


    فلم يقل عليه السلام: "لم أقل شيئا من ذلك"

    وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف،

    وأن هذا من الأمور المحالة،

    ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة.


    ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل،

    فقال: { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ }

    فأنا عبد متبع لأمرك، لا متجرئ على عظمتك،

    { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ }

    أي: ما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له،

    المتضمن للنهي عن اتخاذي وأمي إلهين من دون الله،

    وبيان أني عبد مربوب، فكما أنه ربكم فهو ربي.


    { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ }

    أشهد على من قام بهذا الأمر، ممن لم يقم به.


    { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ }

    أي: المطلع على سرائرهم وضمائرهم.


    { وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } علما وسمعا وبصرا،

    فعلمك قد أحاط بالمعلومات، وسمعك بالمسموعات، وبصرك بالمبصرات،

    فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر.


    { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ }

    وأنت أرحم بهم من أنفسهم وأعلم بأحوالهم،


    فلولا أنهم عباد متمردون لم تعذبهم.

    { وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

    أي: فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة،


    لا كمن يغفر ويعفو عن عجز وعدم قدرة.

    الحكيم حيث كان من مقتضى حكمتك أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة.


    { قَالَ اللَّهُ } مبينا لحال عباده يوم القيامة،

    ومَن الفائز منهم ومَن الهالك، ومَن الشقي ومَن السعيد،

    { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }

    والصادقون هم الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم

    على الصراط المستقيم والهدْي القويم،

    فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق،

    إذا أحلهم الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر،


    ولهذا قال: { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا

    رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }

    والكاذبون بضدهم، سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم، وثمرة أعمالهم الفاسدة.


    { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

    لأنه الخالق لهما والمدبر لذلك بحكمه القدري، وحكمه الشرعي، وحكمه الجزائي،

    ولهذا قال: { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فلا يعجزه شيء،

    بل جميع الأشياء منقادة لمشيئته، ومسخرة بأمره.

    الحمد لله رب العالمين

  17. #137

    افتراضي

    ( 67 )

    من سورة الأنعام


    { الْحَمْدُ لِلَّهِ
    الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
    وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ
    ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ *

    هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ
    ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ
    ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ }
    { 1 ، 2 }


    هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال،
    ونعوت العظمة والجلال عموما، وعلى هذه المذكورات خصوصا.
    فحمد نفسه على خلقه السماوات والأرض،
    الدالة على كمال قدرته، وسعة علمه ورحمته،
    وعموم حكمته، وانفراده بالخلق والتدبير،


    وعلى جعله الظلمات والنور،
    وذلك شامل للحسي من ذلك، كالليل والنهار، والشمس والقمر.

    والمعنوي، كظلمات الجهل، والشك، والشرك، والمعصية، والغفلة،

    ونور العلم والإيمان، واليقين، والطاعة،

    وهذا كله، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى،

    هو المستحق للعبادة، وإخلاص الدين له،

    ومع هذا الدليل ووضوح البرهان

    { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يعدلون به سواه،

    يسوونهم به في العبادة والتعظيم،

    مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال،

    وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه.

    { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ }

    وذلك بخلق مادتكم وأبيكم آدم عليه السلام.


    { ثُمَّ قَضَى أَجَلًا } أي: ضرب لمدة إقامتكم في هذه الدار أجلا،

    تتمتعون به وتمتحنون، وتبتلون بما يرسل إليكم به رسله.


    { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }

    ويعمركم ما يتذكر فيه من تذكر.



    { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } وهي: الدار الآخرة،

    التي ينتقل العباد إليها من هذه الدار، فيجازيهم بأعمالهم من خير وشر.



    { ثُمَّ } مع هذا البيان التام وقطع الحجة

    { أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } أي: تشكون في وعد الله ووعيده،

    ووقوع الجزاء يوم القيامة.


    وذكر الله الظلمات بالجمع، لكثرة موادها وتنوع طرقها.

    ووحد النور لكون الصراط الموصلة إلى الله واحدة لا تعدد فيها،،


    وهي: الصراط المتضمنة للعلم بالحق والعمل به،


    كما قال تعالى:

    { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ

    وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }

    الحمد لله رب العالمين

  18. #138

    افتراضي

    ( 68 )

    من سورة الأنعام


    { قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ
    كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
    لَيَجْمَعَنَّكُ مْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ
    الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}

    { 12 }


    يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم

    { قُلْ } لهؤلاء المشركين بالله، مقررا لهم وملزما بالتوحيد:

    { لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

    أي: مَن الخالق لذلك، المالك له، المتصرف فيه؟


    { قُلْ } لهم: { لِلَّهِ } وهم مقرون بذلك لا ينكرونه،

    أفلا حين اعترفوا بانفراد الله بالملك والتدبير،

    أن يعترفوا له بالإخلاص والتوحيد؟".



    وقوله { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ }

    أي: العالم العلوي والسفلي تحت ملكه وتدبيره،

    وهو تعالى قد بسط عليهم رحمته وإحسانه، وتغمدهم برحمته وامتنانه،

    وكتب على نفسه كتابا أن رحمته تغلب غضبه،

    وأن العطاء أحب إليه من المنع،

    وأن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة،

    إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم،

    ودعاهم إليها، إن لم تمنعهم من طلبها معاصيهم وعيوبهم،


    وقوله { لَيَجْمَعَنَّكُ مْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ }

    وهذا قسم منه، وهو أصدق المخبرين،

    وقد أقام على ذلك من الحجج والبراهين، ما يجعله حق اليقين،



    ولكن أبى الظالمون إلا جحودا، وأنكروا قدرة الله على بعث الخلائق،

    فأوضعوا في معاصيه، وتجرءوا على الكفر به، فخسروا دنياهم وأخراهم،

    ولهذا قال:


    { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }

    الحمد لله رب العالمين

  19. #139

    افتراضي

    ( 69 )

    من سورة الأنعام


    { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *

    قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
    وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ
    قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ


    وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *


    قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *
    مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ *

    وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ
    وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *


    وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ *

    قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
    وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ
    أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى
    قُلْ لَا أَشْهَدُ
    قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ

    وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * }
    { 13 _ 19 }


    اعلم أن هذه السورة الكريمة، قد اشتملت على تقرير التوحيد، بكل دليل عقلي ونقلي،

    بل كادت أن تكون كلها في شأن التوحيد ومجادلة المشركين بالله المكذبين لرسوله.


    فهذه الآيات، ذكر الله فيها ما يتبين به الهدى، وينقمع به الشرك.

    فذكر أن { لَهُ } تعالى { مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ }

    وذلك هو المخلوقات كلها، من آدميها، وجِنِّها، وملائكتها، وحيواناتها وجماداتها،

    فالكل خلق مدبرون، وعبيد مسخرون لربهم العظيم، القاهر المالك،

    فهل يصح في عقل ونقل،

    أن يعبد مِن هؤلاء المماليك، الذي لا نفع عنده ولا ضر؟


    ويترك الإخلاص للخالق، المدبر المالك، الضار النافع؟!

    أم العقول السليمة، والفطر المستقيمة،
    تدعو إلى إخلاص العبادة، والحب، والخوف،

    والرجاء لله رب العالمين؟!.


    { السَّمِيعُ } لجميع الأصوات، على اختلاف اللغات، بتفنن الحاجات.

    { الْعَلِيمُ } بما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون،

    المطلع على الظواهر والبواطن؟!.

    { قُلْ } لهؤلاء المشركين بالله: { أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا }

    من هؤلاء المخلوقات العاجزة يتولاني، وينصرني؟!.

    فلا أتخذ من دونه تعالى وليا،لأنه فاطر السماوات والأرض، أي:

    خالقهما ومدبرهما.

    { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ }

    أي: وهو الرزاق لجميع الخلق، من غير حاجة منه تعالى إليهم،

    فكيف يليق أن أتخذ وليا غير الخالق الرزاق، الغني الحميد؟"



    { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } لله بالتوحيد، وانقاد له بالطاعة،
    لأني أولى من غيري بامتثال أوامر ربي.


    { وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }

    أي: ونهيت أيضا، عن أن أكون من المشركين،

    لا في اعتقادهم، ولا في مجالستهم، ولا في الاجتماع بهم،

    فهذا أفرض الفروض عليَّ، وأوجب الواجبات.

    { قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }

    فإن المعصية في الشرك توجب الخلود في النار، وسخطَ الجبار.

    وذلك اليوم هو اليوم الذي يُخاف عذابه، ويُحذر عقابه؛

    لأنه مَن صُرف عنه العذاب يومئذ فهو المرحوم،

    ومن نجا فيه فهو الفائز حقا،

    كما أن من لم ينج منه فهو الهالك الشقي.

    ومن أدلة توحيده،

    أنه تعالى المنفرد بكشف الضراء،

    وجلب الخير والسراء.



    ولهذا قال: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ }

    من فقر، أو مرض، أو عسر، أو غم، أو هم أو نحوه.


    { فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

    فإذا كان وحده النافع الضار،

    فهو الذي يستحق أن يفرد بالعبودية والإلهية.

    { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ }

    فلا يتصرف منهم متصرف، ولا يتحرك متحرك، ولا يسكن ساكن، إلا بمشيئته،

    وليس للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه وسلطانه،

    بل هم مدبرون مقهورون،

    فإذا كان هو القاهر وغيره مقهورا،

    كان هو المستحق للعبادة.



    { وَهُوَ الْحَكِيمُ }

    فيما أمر به ونهى، وأثاب، وعاقب، وفيما خلق وقدر.


    { الْخَبِيرُ }

    المطلع على السرائر والضمائر وخفايا الأمور،

    وهذا كله من أدلة التوحيد.



    الحمد لله رب العالمين

  20. #140

    افتراضي ( 69 )

    { قُلْ } لهم لما بينا لهم الهدى، وأوضحنا لهم المسالك:

    { أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } على هذا الأصل العظيم.

    { قُلِ اللَّهُ } أكبر شهادة، فهو { شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ }

    فلا أعظم منه شهادة، ولا أكبر،

    وهو يشهد لي بإقراره وفعله، فيقرني على ما قلت لكم،

    كما قال تعالى

    { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ }

    فالله حكيم قدير، فلا يليق بحكمته وقدرته أن يقر كاذبا عليه،

    زاعما أن الله أرسله ولم يرسله،

    وأن الله أمره بدعوة الخلق ولم يأمره،

    وأن الله أباح له دماء من خالفه، وأموالهم ونساءهم،

    وهو مع ذلك يصدقه بإقراره وبفعله،

    فيؤيده على ما قال بالمعجزات الباهرة،

    والآيات الظاهرة، وينصره،

    ويخذل من خالفه وعاداه،

    فأي: شهادة أكبر من هذه الشهادة؟"

    وقوله: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ }

    أي وأوحى الله إليَّ هذا القرآن الكريم لمنفعتكم ومصلحتكم،

    لأنذركم به من العقاب الأليم.

    والنذارة إنما تكون بذكر ما ينذرهم به، من الترغيب، والترهيب،

    وببيان الأعمال، والأقوال، الظاهرة والباطنة،

    التي مَن قام بها، فقد قبل النذارة،

    فهذا القرآن، فيه النذارة لكم أيها المخاطبون،

    وكل من بلغه القرآن إلى يوم القيامة،

    فإن فيه بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب الإلهية.

    لما بيّن تعالى شهادته التي هي أكبر الشهادات على توحيده،

    قال: قل لهؤلاء المعارضين لخبر الله، والمكذبين لرسله

    { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ }

    أي: إن شهدوا، فلا تشهد معهم.

    فوازِنْ بين شهادة أصدق القائلين، ورب العالمين،

    وشهادة أزكى الخلق المؤيدة بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة،

    على توحيد الله وحده لا شريك له،


    وشهادة أهل الشرك، الذين مرجت عقولهم وأديانهم،

    وفسدت آراؤهم وأخلاقهم، وأضحكوا على أنفسهم العقلاء.

    بل خالفوا بشهادة فطرهم،

    وتناقضت أقوالهم على إثبات أن مع الله آلهة أخرى،

    مع أنه لا يقوم على ما قالوه أدنى شبهة، فضلا عن الحجج،

    واختر لنفسك أي: الشهادتين، إن كنت تعقل،

    ونحن نختار لأنفسنا ما اختاره الله لنبيه،

    الذي أمرنا الله بالاقتداء به،

    فقال: { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ }

    أي: منفرد، لا يستحق العبودية والإلهية سواه،

    كما أنه المنفرد بالخلق والتدبير.

    { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } به،

    من الأوثان، والأنداد،

    وكل ما أشرك به مع الله.


    فهذا حقيقة التوحيد،
    إثبات الإلهية لله ونفيها عما عداه.


    الحمد لله رب العالمين

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •