تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 15 من 22 الأولىالأولى ... 5678910111213141516171819202122 الأخيرةالأخيرة
النتائج 281 إلى 300 من 433

الموضوع: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد

  1. #281

    افتراضي

    ( 198 )


    من سورة الكهف

    { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا *

    الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

    وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *

    أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ

    فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا *

    ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا

    وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا }


    { 103-106 ْ}


    أي: قل يا محمد، للناس -على وجه التحذير والإنذار-:

    هل أخبركم بأخسر الناس أعمالا على الإطلاق؟


    { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }

    أي: بطل واضمحل كل ما عملوه من عمل،

    يحسبون أنهم محسنون في صنعه،

    فكيف بأعمالهم التي يعلمون أنها باطلة،

    وأنها محادة لله ورسله ومعاداة؟"


    فمن هم هؤلاء الذين خسرت أعمالهم،

    فـ { فخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة؟

    ألا ذلك هو الخسران المبين }


    { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ }

    أي: جحدوا الآيات القرآنية والآيات العيانية،

    الدالة على وجوب الإيمان به، وملائكته، ورسله، وكتبه، واليوم الآخر.


    { فَحَبِطَتْ } بسبب ذلك

    { أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا }

    لأن الوزن فائدته، مقابلة الحسنات بالسيئات،

    والنظر في الراجح منها والمرجوح،

    وهؤلاء لا حسنات لهم لعدم شرطها وهو الإيمان،


    كما قال تعالى

    { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ

    فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا }


    لكن تعد أعمالهم وتحصى، ويقررون بها،

    ويخزون بها على رءوس الأشهاد، ثم يعذبون عليها،



    ولهذا قال: { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ } أي: حبوط أعمالهم،

    وأنه لا يقام لهم يوم القيامة، { وَزْنًا }

    لحقارتهم وخستهم، بكفرهم بآيات الله،

    واتخاذهم آياته ورسله، هزوا يستهزئون بها، ويسخرون منها،


    مع أن الواجب في آيات الله ورسله،

    الإيمان التام بها، والتعظيم لها، والقيام بها أتم القيام،

    وهؤلاء عكسوا القضية، فانعكس أمرهم،

    وتعسوا، وانتكسوا في العذاب.
    الحمد لله رب العالمين

  2. #282

    افتراضي

    ( 199 )


    من سورة الكهف


    { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ

    كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا *

    خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا }


    { 107-108 ْ}


    أي: إن الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا الصالحات بجوارحهم،

    وشمل هذا الوصف جميع الدين، عقائده، وأعماله،

    أصوله، وفروعه الظاهرة، والباطنة،

    فهؤلاء -على اختلاف طبقاتهم من الإيمان والعمل الصالح -

    لهم جنات الفردوس.


    يحتمل أن المراد بجنات الفردوس،

    أعلى الجنة، وأوسطها، وأفضلها،

    وأن هذا الثواب، لمن كمل فيه الإيمان والعمل الصالح،

    والأنبياء والمقربون.



    ويحتمل أن يراد بها،


    جميع منازل الجنان، فيشمل هذا الثواب، جميع طبقات أهل الإيمان،

    من المقربين، والأبرار، والمقتصدين، كل بحسب حاله،



    وهذا أولى المعنيين لعمومه،

    ولذكر الجنة بلفظ الجمع المضاف إلى الفردوس،

    ولأن الفردوس يطلق على البستان المحتوي على الكرم،

    أو الأشجار الملتفة،

    وهذا صادق على جميع الجنة،


    فجنة الفردوس نزل، وضيافة لأهل الإيمان والعمل الصالح،

    وأي: ضيافة أجل وأكبر، وأعظم من هذه الضيافة،

    المحتوية على كل نعيم، للقلوب، والأرواح، والأبدان،

    وفيها ما تشتهيه الأنفس. وتلذ الأعين، من المنازل الأنيقة،

    والرياض الناضرة، والأشجار المثمرة،.

    والطيور المغردة المشجية، والمآكل اللذيذة، والمشارب الشهية،

    والنساء الحسان، والخدم، والولدان، والأنهار السارحة،

    والمناظر الرائقة، والجمال الحسي والمعنوي، والنعمة الدائمة،


    وأعلى ذلك وأفضله وأجله،

    التنعم بالقرب من الرحمن ونيل رضاه،

    الذي هو أكبر نعيم الجنان، والتمتع برؤية وجهه الكريم،

    وسماع كلام الرءوف الرحيم،

    فلله تلك الضيافة، ما أجلها وأجملها، وأدومها وأكملها"،

    وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق،

    أو تخطر على القلوب،



    فلو علم العباد بعض ذلك النعيم علما حقيقيا يصل إلى قلوبهم،

    لطارت إليها قلوبهم بالأشواق،

    ولتقطعت أرواحهم من ألم الفراق،

    ولساروا إليها زرافات ووحدانا،

    ولم يؤثروا عليها دنيا فانية، ولذات منغصة متلاشية،

    ولم يفوتوا أوقاتا تذهب ضائعة خاسرة،

    يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب آلاف مؤلفة،


    ولكن الغفلة شملت،

    والإيمان ضعف،

    والعلم قل،

    والإرادة نفذت فكان، ما كان،

    فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.



    وقوله { خَالِدِينَ فِيهَا } هذا هو تمام النعيم،

    إن فيها النعيم الكامل، ومن تمامه أنه لا ينقطع

    { لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا } أي: تحولا ولا انتقالا،

    لأنهم لا يرون إلا ما يعجبهم ويبهجهم، ويسرهم ويفرحهم،

    ولا يرون نعيما فوق ما هم فيه.
    الحمد لله رب العالمين

  3. #283

    افتراضي

    ( 200 )


    من سورة الكهف


    { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًالِكَلِمَاتِ رَبِّي

    لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي

    وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا }


    { 109 ْ}


    أي: قل لهم مخبرا عن عظمة الباري، وسعة صفاته،

    وأنها لا يحيط العباد بشيء منها:


    { لَوْ كَانَ الْبَحْرُ } أي: هذه الأبحر الموجودة في العالم

    { مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي } أي: وأشجار الدنيا من أولها إلى آخرها،

    من أشجار البلدان والبراري، والبحار، أقلام،

    { لَنَفِدَ الْبَحْرُ } وتكسرت الأقلام

    { قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } وهذا شيء عظيم، لا يحيط به أحد.



    وفي الآية الأخرى

    { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام

    والبحر يمده من بعده سبعة أبحر

    ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم }



    وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان،

    لأن هذه الأشياء مخلوقة، وجميع المخلوقات، منقضية منتهية،

    وأما كلام الله، فإنه من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة،

    ولا لها حد ولا منتهى،

    فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب

    فالله فوق ذلك،

    وهكذا سائر صفات الله تعالى،

    كعلمه، وحكمته، وقدرته، ورحمته،


    فلو جمع علم الخلائق من الأولين والآخرين،

    أهل السماوات وأهل الأرض،

    لكان بالنسبة إلى علم العظيم،

    أقل من نسبة عصفور وقع على حافة البحر،

    فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته،

    ذلك بأن الله له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة،

    وأن إلى ربك المنتهى.

    الحمد لله رب العالمين

  4. #284

    افتراضي

    ( 201 )


    من سورة الكهف


    { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ

    يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ

    فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ

    فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا

    وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }

    { 110 ْ}


    أي: { قُلْ } يا محمد للكفار وغيرهم:

    { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ }

    أي: لست بإله، ولا لي شركة في الملك،

    ولا علم بالغيب، ولا عندي خزائن الله،


    { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } عبد من عبيد ربي،



    { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ }

    أي: فضلت عليكم بالوحي، الذي يوحيه الله إلي،

    الذي أجله الإخبار لكم: أنما إلهكم إله واحد،

    أي: لا شريك له،

    ولا أحد يستحق من العبادة مثقال ذرة غيره،

    وأدعوكم إلى العمل الذي يقربكم منه،

    وينيلكم ثوابه، ويدفع عنكم عقابه.



    ولهذا قال: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا }

    وهو الموافق لشرع الله، من واجب ومستحب،


    { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }

    أي: لا يرائي بعمله بل يعمله خالصا لوجه الله تعالى،

    فهذا الذي جمع بين الإخلاص والمتابعة،

    هو الذي ينال ما يرجو ويطلب،

    وأما من عدا ذلك، فإنه خاسر في دنياه وأخراه،

    وقد فاته القرب من مولاه، ونيل رضاه.

    الحمد لله رب العالمين

  5. #285

    افتراضي

    ( 202 )

    من سورة مريم


    { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا *

    قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا *

    وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ

    وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا *

    وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا *

    وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا }

    { 29 - 33 }


    فلما أشارت إليهم بتكليمه، تعجبوا من ذلك وقالوا:


    { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا }

    لأن ذلك لم تجر به عادة، ولا حصل من أحد في ذلك السن. .


    فحينئذ قال عيسى عليه السلام، وهو في المهد صبي:

    { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا }

    فخاطبهم بوصفه بالعبودية،

    وأنه ليس فيه صفة يستحق بها أن يكون إلها، أو ابنا للإله،

    تعالى الله عن قول النصارى المخالفين لعيسى في قوله

    { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } ومدعون موافقته.


    { آتَانِيَ الْكِتَابَ } أي: قضى أن يؤتيني الكتب

    { وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } فأخبرهم بأنه عبد الله، وأن الله علمه الكتاب،

    وجعله من جملة أنبيائه، فهذا من كماله لنفسه،


    ثم ذكر تكميله لغيره فقال: { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ }

    أي: في أي: مكان، وأي: زمان،

    فالبركة جعلها الله فيَّ من تعليم الخير والدعوة إليه، والنهي عن الشر،

    والدعوة إلى الله في أقواله وأفعاله، فكل من جالسه، أو اجتمع به، نالته بركته، وسعد به مصاحبه.


    { وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا }

    أي: أوصاني بالقيام بحقوقه، التي من أعظمها الصلاة،

    وحقوق عباده، التي أجلها الزكاة،

    مدة حياتي، أي: فأنا ممتثل لوصية ربي، عامل عليها، منفذ لها،

    ووصاني أيضا، أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الإحسان،

    وأقوم بما ينبغي له، لشرفها وفضلها، ولكونها والدة لها حق الولادة وتوابعها.


    { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا } أي: متكبرا على الله، مترفعا على عباده

    { شَقِيًّا } في دنياي أو أخراي،

    فلم يجعلني كذلك بل جعلني مطيعا له خاضعا خاشعا متذللا،

    متواضعا لعباد الله، سعيدا في الدنيا والآخرة، أنا ومن اتبعني.


    فلما تم له الكمال، ومحامد الخصال قال:

    { وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا }

    أي: من فضل ربي وكرمه، حصلت لي السلامة يوم ولادتي، ويوم موتي، ويوم بعثي،

    من الشر والشيطان والعقوبة،

    وذلك يقتضي سلامته من الأهوال، ودار الفجار، وأنه من أهل دار السلام،


    فهذه معجزة عظيمة، وبرهان باهر،

    على أنه رسول الله، وعبد الله حقا.
    الحمد لله رب العالمين

  6. #286

    افتراضي

    ( 203 )


    من سورة مريم


    { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ *

    مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ

    إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *

    وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ

    هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }
    { 34 - 36 }




    أي: ذلك الموصوف بتلك الصفات، عيسى بن مريم،

    من غير شك ولا مرية، بل قول الحق، وكلام الله،

    الذي لا أصدق منه قيلا، ولا أحسن منه حديثا،

    فهذا الخبر اليقيني، عن عيسى عليه السلام،

    وما قيل فيه مما يخالف هذا، فإنه مقطوع ببطلانه،

    وغايته أن يكون شكا من قائله لا علم له به،


    ولهذا قال: { الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي: يشكون فيمارون بشكهم،

    ويجادلون بخرصهم،

    فمن قائل عنه: إنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة،

    تعالى الله عن إفكهم وتقولهم علوا كبيرا.


    فــ { مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ } أي: ما ينبغي ولا يليق،

    لأن ذلك من الأمور المستحيلة،

    لأنه الغني الحميد، المالك لجميع الممالك،

    فكيف يتخذ من عباده ومماليكه، ولدا؟!


    { سُبْحَانَهُ } أي: تنزه وتقدس عن الولد والنقص،

    { إِذَا قَضَى أَمْرًا } أي: من الأمور الصغار والكبار،

    لم يمتنع عليه ولم يستصعب

    { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

    فإذا كان قدره ومشيئته نافذا في العالم العلوي والسفلي،

    فكيف يكون له ولد؟"

    .وإذا كان إذا أراد شيئا قال له:

    { كُن فَيَكُونُ }
    فكيف يستبعد إيجاده عيسى من غير أب؟!.



    ولهذا أخبر عيسى أنه عبد مربوب كغيره،

    فقال: { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ }

    الذي خلقنا، وصورنا، ونفذ فينا تدبيره، وصرفنا تقديره.


    { فَاعْبُدُوهُ } أي: أخلصوا له العبادة، واجتهدوا في الإنابة،

    وفي هذا الإقرار بتوحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية،

    والاستدلال بالأول على الثاني،

    ولهذا قال: { هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }

    أي: طريق معتدل، موصل إلى الله،

    لكونه طريق الرسل وأتباعهم،

    وما عدا هذا، فإنه من طرق الغي والضلال.
    الحمد لله رب العالمين

  7. #287

    افتراضي

    ( 204 )


    من سورة مريم



    { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ

    وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ *

    إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ْ}

    { 39 - 40 }


    الإنذار هو: الإعلام بالمخوف على وجه الترهيب، والإخبار بصفاته،

    وأحق ما ينذر به ويخوف به العباد، يوم الحسرة حين يقضى الأمر،

    فيجمع الأولون والآخرون في موقف واحد،

    ويسألون عن أعمالهم،

    فمن آمن بالله، واتبع رسله، سعد سعادة لا يشقى بعدها،

    ومن لم يؤمن بالله ويتبع رسله شقي شقاوة لا سعادة بعدها،

    وخسر نفسه وأهله،

    فحينئذ يتحسر، ويندم ندامة تتقطع منها القلوب، وتنصدع منها الأفئدة،


    وأي: حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته،

    واستحقاق سخطه والنار،

    على وجه لا يتمكن من الرجوع، ليستأنف العمل،

    ولا سبيل له إلى تغيير حاله بالعود إلى الدنيا؟!

    فهذا قدامهم، والحال أنهم في الدنيا في غفلة عن هذا الأمر العظيم

    لا يخطر بقلوبهم، ولو خطر فعلى سبيل الغفلة،

    قد عمتهم الغفلة، وشملتهم السكرة،

    فهم لا يؤمنون بالله، ولا يتبعون رسله،

    قد ألهتهم دنياهم،

    وحالت بينهم وبين الإيمان شهواتهم المنقضية الفانية.


    فالدنيا وما فيها، من أولها إلى آخرها،

    ستذهب عن أهلها، ويذهبون عنها،

    وسيرث الله الأرض ومن عليها، ويرجعهم إليه،

    فيجازيهم بما عملوا فيها، وما خسروا فيها أو ربحوا،

    فمن فعل خيرا فليحمد الله،

    ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه.
    الحمد لله رب العالمين

  8. #288

    افتراضي

    ( 205 )


    من سورة مريم


    { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا *

    إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ

    مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا *

    يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ

    فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا *

    يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ

    إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا *

    يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ

    فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا *

    قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ

    لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا *

    قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا *

    وَأَعْتَزِلُكُم ْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

    وَأَدْعُو رَبِّي

    عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا *

    فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

    وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا *

    وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا }


    { 41 - 50 ْ}



    { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا }

    جمع الله له بين الصديقية والنبوة.

    فالصديق: كثير الصدق، فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله،

    المصدق بكل ما أمر بالتصديق به،

    وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب، المؤثر فيه،

    الموجب لليقين، والعمل الصالح الكامل،

    وإبراهيم عليه السلام، هو أفضل الأنبياء كلهم

    بعد محمد صلى الله عليه وسلم،

    وهو الأب الثالث للطوائف الفاضلة،

    وهو الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب،

    وهو الذي دعا الخلق إلى الله،

    وصبر على ما ناله من العذاب العظيم،

    فدعا القريب والبعيد،


    واجتهد في دعوة أبيه، مهما أمكنه،

    وذكر الله مراجعته إياه، فقال:

    { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ } مهجنا له عبادة الأوثان:


    { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا }

    أي: لم تعبد أصناما، ناقصة في ذاتها،

    وفي أفعالها، فلا تسمع، ولا تبصر،

    ولا تملك لعابدها نفعا ولا ضرا،

    بل لا تملك لأنفسها شيئا من النفع،

    ولا تقدر على شيء من الدفع،


    فهذا برهان جلي


    دال على أن عبادة الناقص في ذاته وأفعاله

    مستقبح عقلا وشرعا.


    ودل بتنبيهه وإشارته،

    أن الذي يجب ويحسن عبادة من له الكمال،

    الذي لا ينال العباد نعمة إلا منه،

    ولا يدفع عنهم نقمة إلا هو،

    وهو الله تعالى.



    { يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ }

    أي: يا أبت لا تحقرني وتقول: إني ابنك، وإن عندك ما ليس عندي،

    بل قد أعطاني الله من العلم ما لم يعطك،

    والمقصود من هذا قوله: { فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا }

    أي: مستقيما معتدلا، وهو: عبادة الله وحده لا شريك له،

    وطاعته في جميع الأحوال،


    وفي هذا من لطف الخطاب ولينه، ما لا يخفى،

    فإنه لم يقل: " يا أبت أنا عالم، وأنت جاهل "

    أو " ليس عندك من العلم شيء "

    وإنما أتى بصيغة تقتضي أن عندي وعندك علما،

    وأن الذي وصل إلي لم يصل إليك ولم يأتك،

    فينبغي لك أن تتبع الحجة وتنقاد لها.


    { يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ }

    لأن من عبد غير الله، فقد عبد الشيطان،


    كما قال تعالى:

    { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ

    إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ }


    { إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا }

    فمن اتبع خطواته، فقد اتخذه وليا وكان عاصيا لله بمنزلة الشيطان.

    وفي ذكر إضافة العصيان إلى اسم الرحمن،

    إشارة إلى أن المعاصي تمنع العبد من رحمة الله، وتغلق عليه أبوابها،

    كما أن الطاعة أكبر الأسباب لنيل رحمته،



    ولهذا قال: { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ }

    أي: بسبب إصرارك على الكفر، وتماديك في الطغيان


    { فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } أي: في الدنيا والآخرة،

    فتنزل بمنازله الذميمة، وترتع في مراتعه الوخيمة،


    الحمد لله رب العالمين

  9. #289

    افتراضي

    فتدرج الخليل عليه السلام بدعوة أبيه، بالأسهل فالأسهل،

    فأخبره بعلمه، وأن ذلك موجب لاتباعك إياي،

    وأنك إن أطعتني، اهتديت إلى صراط مستقيم،

    ثم نهاه عن عبادة الشيطان، وأخبره بما فيها من المضار،

    ثم حذره عقاب الله ونقمته إن أقام على حاله،

    وأنه يكون ولياللشيطان،



    فلم ينجع هذا الدعاء بذلك الشقي،

    وأجاب بجواب جاهل وقال:

    { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ }

    فتبجح بآلهته [التي هي] من الحجر والأصنام،

    ولام إبراهيم عن رغبته عنها،

    وهذا من الجهل المفرط، والكفر الوخيم،

    يتمدح بعبادة الأوثان، ويدعو إليها.


    { لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ } أي: عن شتم آلهتي، ودعوتي إلى عبادة الله

    { لَأَرْجُمَنَّكَ } أي: قتلا بالحجارة

    { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } أي: لا تكلمني زمانا طويلا،


    فأجابه الخليل جواب عباد الرحمن عند خطاب الجاهلين،

    ولم يشتمه، بل صبر، ولم يقابل أباه بما يكره،


    وقال: { سَلَامٌ عَلَيْكَ }

    أي: ستسلم من خطابي إياك بالشتم والسب وبما تكره،

    { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا }

    أي: لا أزال أدعو الله لك بالهداية والمغفرة،

    بأن يهديك للإسلام، الذي تحصل به المغفرة،

    فــ { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } أي: رحيما رءوفا بحالي، معتنيا بي،

    فلم يزل يستغفر الله له رجاء أن يهديه الله،

    فلما تبين له أنه عدو لله، وأنه لا يفيد فيه شيئا،

    ترك الاستغفار له، وتبرأ منه.



    وقد أمرنا الله باتباع ملة إبراهيم،

    فمن اتباع ملته، سلوك طريقه في الدعوة إلى الله،

    بطريق العلم والحكمة واللين والسهولة،

    والانتقال من مرتبة إلى مرتبة والصبر على ذلك،

    وعدم السآمة منه،

    والصبر على ما ينال الداعي من أذى الخلق بالقول والفعل،

    ومقابلة ذلك بالصفح والعفو،

    بل بالإحسان القولي والفعلي.



    فلما أيس من قومه وأبيه قال:

    { وَأَعْتَزِلُكُم ْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي: أنتم وأصنامكم

    { وَأَدْعُو رَبِّي } وهذا شامل لدعاء العبادة، ودعاء المسألة


    { عَسَى أن لا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا }

    أي: عسى الله أن يسعدني بإجابة دعائي، وقبول أعمالي،

    وهذه وظيفة من أيس ممن دعاهم، فاتبعوا أهواءهم،

    فلم تنجع فيهم المواعظ، فأصروا في طغيانهم يعمهون،


    أن يشتغل بإصلاح نفسه، ويرجو القبول من ربه،

    ويعتزل الشر وأهله.



    ولما كان مفارقة الإنسان لوطنه ومألفه وأهله وقومه،

    من أشق شيء على النفس، لأمور كثيرة معروفة،


    ومنها انفراده عمن يتعزز بهم ويتكثر،

    وكان من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه،


    واعتزل إبراهيم قومه، قال الله في حقه:

    { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ

    وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا }

    من إسحاق ويعقوب

    { جَعَلْنَا نَبِيًّا } فحصل له هبة هؤلاء الصالحين المرسلين إلى الناس،

    الذين خصهم الله بوحيه، واختارهم لرسالته،

    واصطفاهم من العالمين.


    { وَوَهَبْنَا لَهُمْ } أي: لإبراهيم وابنيه

    { مِنْ رَحْمَتِنَا } وهذا يشمل جميع ما وهب الله لهم من الرحمة،

    من العلوم النافعة، والأعمال الصالحة،

    والذرية الكثيرة المنتشرة، الذين قد كثر فيهم الأنبياء والصالحون.


    { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا }

    وهذا أيضا من الرحمة التي وهبها لهم،

    لأن الله وعد كل محسن، أن ينشر له ثناء صادقا بحسب إحسانه،

    وهؤلاء من أئمة المحسنين،

    فنشر الله الثناء الحسن الصادق غير الكاذب،

    العالي غير الخفي،

    فذكرهم ملأ الخافقين،

    والثناء عليهم ومحبتهم، امتلأت بها القلوب، وفاضت بها الألسنة،

    فصاروا قدوة للمقتدين، وأئمة للمهتدين،

    ولا تزال أذكارهم في سائر العصور متجددة،

    وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء،

    والله ذو الفضل العظيم.
    الحمد لله رب العالمين

  10. #290

    افتراضي

    ( 206 )

    من سورة مريم

    { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ

    لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ

    وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا *

    رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا

    فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ

    هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }

    { 64 - 65 }

    استبطأ النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام

    مرة في نزوله إليه فقال له:

    " لو تأتينا أكثر مما تأتينا " -تشوقا إليه، وتوحشا لفراقه،

    وليطمئن قلبه بنزوله- فأنزل الله تعالى على لسان جبريل:


    { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ } أي: ليس لنا من الأمر شيء،

    إن أمرنا، ابتدرنا أمره، ولم نعص له أمرا،

    كما قال عنهم:

    { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }

    فنحن عبيد مأمورون،


    { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ }

    أي: له الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة، في الزمان والمكان،

    فإذا تبين أن الأمر كله لله، وأننا عبيد مدبرون،

    فيبقى الأمر دائرا بين:

    " هل تقتضيه الحكمة الإلهية فينفذه؟ أم لا تقتضيه فيؤخره " ؟


    ولهذا قال: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }

    أي: لم يكن لينساك ويهملك،

    كما قال تعالى: { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }

    بل لم يزل معتنيا بأمورك،

    مجريا لك على أحسن عوائده الجميلة، وتدابيره الجميلة.

    أي: فإذا تأخر نزولنا عن الوقت المعتاد،

    فلا يحزنك ذلك ولا يهمك،

    واعلم أن الله هو الذي أراد ذلك، لما له من الحكمة فيه.

    ثم علل إحاطة علمه، وعدم نسيانه،

    بأنه { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }

    فربوبيته للسماوات والأرض، وكونهما على أحسن نظام وأكمله،

    ليس فيه غفلة ولا إهمال، ولا سدى، ولا باطل،

    برهان قاطع على علمه الشامل،

    فلا تشغل نفسك بذلك، بل اشغلها بما ينفعك ويعود عليك طائله،

    وهو: عبادته وحده لا شريك له،


    { وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ }

    أي: اصبر نفسك عليها وجاهدها،

    وقم عليها أتم القيام وأكملها بحسب قدرتك،

    وفي الاشتغال بعبادة الله تسلية للعابد عن جميع التعلقات والمشتهيات،


    كما قال تعالى:

    { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ

    زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }

    إلى أن قال:

    { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } الآية.


    { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }

    أي: هل تعلم لله مساميا ومشابها ومماثلا من المخلوقين.

    وهذا استفهام بمعنى النفي، المعلوم بالعقل.

    أي: لا تعلم له مساميا ولا مشابها،

    لأنه الرب، وغيره مربوب،

    الخالق، وغيره مخلوق،

    الغني من جميع الوجوه،

    وغيره فقير بالذات من كل وجه،

    الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه،

    وغيره ناقص ليس فيه من الكمال إلا ما أعطاه الله تعالى،

    فهذا برهان قاطع على

    أن الله هو المستحق لإفراده بالعبودية،

    وأن عبادته حق، وعبادة ما سواه باطل،
    فلهذا أمر بعبادته وحده، والاصطبار لها،

    وعلل ذلك بكماله وانفراده بالعظمة والأسماء الحسنى.
    الحمد لله رب العالمين

  11. #291

    افتراضي

    ( 207 )


    من سورة مريم


    { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا *

    كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ

    وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا }
    { 81 - 82 }


    قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره ( 1 ):

    { وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً }

    يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم

    أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون تلك الآلهة { عزاً }

    يعتزون بها ويستنصرونها


    ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا ولا يكون ما طمعوا فقال:

    {كلا سيكفرون بعبادتهم} أي يوم القيامة

    {ويكونون عليهم ضداً} أي بخلاف ما ظنوا فيهم


    كما قال تعالى:

    { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة

    وهم عن دعائهم غافلون *

    وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء

    وكانوا بعبادتهم كافرين }

    وقرأ أبو نهيك { كل سيكفرون بعبادتهم }.


    وقال السدي: {كلا سيكفرون بعبادتهم} أي بعبادة الأوثان.

    وقوله: {ويكونون عليهم ضداً} أي بخلاف ما رجوا منهم.


    وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس

    {ويكونون عليهم ضداً} قال: أعواناً.


    قال مجاهد: عوناً عليهم تخاصمهم وتكذبهم.


    وقال العوفي عن ابن عباس

    { ويكونون عليهم ضداً }, قال: قرناء.


    وقال قتادة: قرناء في النار يلعن بعضهم بعضاً, ويكفر بعضهم ببعض.

    وقال السدي {ويكونون عليهم ضداً} قال:

    الخصماء الأشداء في الخصومة,

    وقال الضحاك {ويكونون عليهم ضداً} قال: أعداء.

    وقال ابن زيد: الضد البلاء,

    وقال عكرمة: الضد الحسرة.


    ``````````````````````````````
    ( 1 ) لم يفسِّر الشيخ السعدي رحمه الله تعالى هاتين الآيتين في تفسيره

    الحمد لله رب العالمين

  12. #292

    افتراضي

    ( 208 )


    من سورة مريم

    { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا *

    تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ

    وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *

    أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا *

    وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا *

    إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا *

    لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *

    وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا }

    { 88 - 95 }


    وهذا تقبيح وتشنيع لقول المعاندين الجاحدين،

    الذين زعموا أن الرحمن اتخذ ولدا،

    كقول النصارى: المسيح ابن الله، واليهود: عزير ابن الله،

    والمشركين: الملائكة بنات الله،

    تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.


    { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا } أي: عظيما وخيما.


    من عظيم أمره أنه { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ } على عظمتها وصلابتها

    { يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } أي: من هذا القول

    { وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ } منه، أي: تتصدع وتنفطر

    { وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } أي: تندك الجبال.


    { أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ }

    أي: من أجل هذه الدعوى القبيحة تكاد هذه المخلوقات،

    أن يكون منها ما ذكر.


    والحال أنه: { مَا يَنْبَغِي } أي: لا يليق ولا يكون

    { لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا }

    وذلك لأن اتخاذه الولد، يدل على نقصه واحتياجه،

    وهو الغني الحميد.

    والولد أيضا، من جنس والده،

    والله تعالى
    لا شبيه له ولا مثل ولا سمي.


    { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا }

    أي: ذليلا منقادا، غير متعاص ولا ممتنع،

    الملائكة، والإنس، والجن وغيرهم،

    الجميع مماليك، متصرف فيهم،

    ليس لهم من الملك شيء، ولا من التدبير شيء،

    فكيف يكون له ولد،

    وهذا شأنه وعظمة ملكه؟".


    { لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا }

    أي: لقد أحاط علمه بالخلائق كلهم، أهل السماوات والأرض،

    وأحصاهم وأحصى أعمالهم،

    فلا يضل ولا ينسى، ولا تخفى عليه خافية.


    { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا }

    أي: لا أولاد، ولا مال، ولا أنصار، ليس معه إلا عمله،

    فيجازيه الله ويوفيه حسابه،

    إن خيرا فخير، وإن شرا فشر،


    كما قال تعالى:

    { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }
    الحمد لله رب العالمين

  13. #293

    افتراضي

    ( 209 )


    من سورة طه


    { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ طه *

    مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى *

    تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا *

    الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *

    لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى *

    وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى *

    اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }

    { 1 - 8 }


    { طه } من جملة الحروف المقطعة، المفتتح بها كثير من السور،

    وليست اسما للنبي صلى الله عليه وسلم.


    { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى }

    أي: ليس المقصود بالوحي، وإنزال القرآن عليك، وشرع الشريعة،

    لتشقى بذلك، ويكون في الشريعة تكليف يشق على المكلفين،

    وتعجز عنه قوى العاملين.

    وإنما الوحي والقرآن والشرع، شرعه الرحيم الرحمن،

    وجعله موصلا للسعادة والفلاح والفوز، وسهله غاية التسهيل

    ، ويسر كل طرقه وأبوابه، وجعله غذاء للقلوب والأرواح، وراحة للأبدان،

    فتلقته الفطر السليمة والعقول المستقيمة بالقبول والإذعان،

    لعلمها بما احتوى عليه من الخير في الدنيا والآخرة،


    ولهذا قال:

    { إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى }

    إلا ليتذكر به من يخشى الله تعالى،

    فيتذكر ما فيه من الترغيب إلى أجل المطالب، فيعمل بذلك،

    ومن الترهيب عن الشقاء والخسران، فيرهب منه،

    ويتذكر به الأحكام الحسنة الشرعية المفصلة،

    التي كان مستقرا في عقله حسنها مجملا،

    فوافق التفصيل ما يجده في فطرته وعقله،


    ولهذا سماه الله { تَذْكِرَةً } والتذكرة لشيء كان موجودا،

    إلا أن صاحبه غافل عنه، أو غير مستحضر لتفصيله،

    وخص بالتذكرة { مَن يَخْشَى } لأن غيره لا ينتفع به،

    وكيف ينتفع به من لم يؤمن بجنة ولا نار،

    ولا في قلبه من خشية الله مثقال ذرة؟

    هذا ما لا يكون،


    { سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى* وَيَتَجَنَّبُهَ ا الْأَشْقَى*

    الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى }


    ثم ذكر جلالة هذا القرآن العظيم،

    وأنه تنـزيل خالق الأرض والسماوات، المدبر لجميع المخلوقات،

    أي: فاقبلوا تنـزيله بغاية الإذعان والمحبة والتسليم، وعظموه نهاية التعظيم.


    وكثيرا ما يقرن بين الخلق والأمر، كما في هذه الآية،

    وكما في قوله: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ }

    وفي قوله:

    { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ }

    وذلك أنه الخالق الآمر الناهي،

    فكما أنه لا خالق سواه،

    فليس على الخلق إلزام ولا أمر ولا نهي إلا من خالقهم،

    وأيضا فإن خلقه للخلق فيه التدبير القدري الكوني،

    وأمره فيه التدبير الشرعي الديني،

    فكما أن الخلق لا يخرج عن الحكمة، فلم يخلق شيئا عبثا،

    فكذلك لا يأمر ولا ينهى إلا بما هو عدل وحكمة وإحسان.

    فلما بين أنه الخالق المدبر، الآمر الناهي،


    أخبر عن عظمته وكبريائه، فقال:

    { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ }

    الذي هو أرفع المخلوقات وأعظمها وأوسعها،

    { اسْتَوَى }

    استواء يليق بجلاله، ويناسب عظمته وجماله،

    فاستوى على العرش، واحتوى على الملك.


    { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا }

    من ملك وإنسي وجني، وحيوان، وجماد، ونبات،

    { وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } أي: الأرض،

    فالجميع ملك لله تعالى، عبيد مدبرون،

    مسخرون تحت قضائه وتدبيره،

    ليس لهم من الملك شيء،

    ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا

    ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.

    الحمد لله رب العالمين

  14. #294

    افتراضي

    { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ } الكلام الخفي

    { وَأَخْفَى } من السر، الذي في القلب، ولم ينطق به.

    أو السر: ما خطر على القلب.

    { وأخفى } ما لم يخطر. يعلم تعالى أنه يخطر في وقته، وعلى صفته،


    المعنى: أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء،

    دقيقها، وجليلها، خفيها، وظاهرها،

    فسواء جهرت بقولك أو أسررته،

    فالكل سواء، بالنسبة لعلمه تعالى.


    فلما قرر كماله المطلق، بعموم خلقه،

    وعموم أمره ونهيه، وعموم رحمته،

    وسعة عظمته، وعلوه على عرشه،

    وعموم ملكه، وعموم علمه،

    نتج من ذلك، أنه المستحق للعبادة،

    وأن عبادته هي الحق التي يوجبها الشرع والعقل والفطرة،

    وعبادة غيره باطلة،


    فقال:

    { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }

    أي: لا معبود بحق، ولا مألوه بالحب والذل،

    والخوف والرجاء، والمحبة والإنابة والدعاء، إلا هو.


    { لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }

    أي: له الأسماء الكثيرة الكاملة الحسنى،

    من حسنها أنها كلها أسماء دالة على المدح،

    فليس فيها اسم لا يدل على المدح والحمد،


    ومن حسنها أنها ليست أعلاما محضة، وإنما هي أسماء وأوصاف،


    ومن حسنها أنها دالة على الصفات الكاملة،

    وأن له من كل صفة أكملها وأعمها وأجلها،


    ومن حسنها أنه أمر العباد أن يدعوه بها،

    لأنها وسيلة مقربة إليه يحبها،

    ويحب من يحبها، ويحب من يحفظها،

    ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها،


    قال تعالى:

    { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا }

    الحمد لله رب العالمين

  15. #295

    افتراضي

    ( 210 )

    من سورة طه

    { قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى *

    قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى *

    قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى *

    قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى *

    الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا

    وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى *

    كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى *

    مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ

    وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى }
    { 49 - 55 }


    أي: قال فرعون لموسى على وجه الإنكار: { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى }

    فأجاب موسى بجواب شاف كاف واضح،

    فقال: { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }

    أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به،

    الدال على حسن صنعه من خلقه،

    من كبر الجسم وصغره وتوسطه، وجميع صفاته،

    { ثُمَّ هَدَى } كل مخلوق إلى ما خلقه له،


    وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات

    فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضار عنه،

    حتى إن الله تعالى أعطى الحيوان البهيم من العقل، ما يتمكن به على ذلك.


    وهذا كقوله تعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }

    فالذي خلق المخلوقات، وأعطاها خلقها الحسن،

    الذي لا تقترح العقول فوق حسنه، وهداها لمصالحها،

    هو الرب على الحقيقة،

    فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودا، وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب،

    فلو قدر أن الإنسان، أنكر من الأمور المعلومة ما أنكر،

    كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك،


    ولهذا لما لم يمكن فرعون، أن يعاند هذا الدليل القاطع،

    عدل إلى المشاغبة، وحاد عن المقصود فقال لموسى:

    { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى } أي: ما شأنهم، وما خبرهم؟

    وكيف وصلت بهم الحال، وقد سبقونا إلى الإنكار والكفر،

    والظلم، والعناد، ولنا فيهم أسوة؟


    فقال موسى:

    { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى }

    أي: قد أحصى أعمالهم من خير وشر، وكتبه في كتاب، وهو اللوح المحفوظ،

    وأحاط به علما وخبرا، فلا يضل عن شيء منها، ولا ينسى ما علمه منها.


    ومضمون ذلك، أنهم قدموا إلى ما قدموا، ولاقوا أعمالهم، وسيجازون عليها،

    فلا معنى لسؤالك واستفهامك يا فرعون عنهم،

    فتلك أمة قد خلت، لها ما كسبت،ولكم ما كسبتم،

    فإن كان الدليل الذي أوردناه عليك، والآيات التي أريناكها،

    قد تحققت صدقها ويقينها، وهو الواقع،

    فانقد إلى الحق، ودع عنك الكفر والظلم، وكثرة الجدال بالباطل،

    وإن كنت قد شككت فيها أو رأيتها غير مستقيمة،

    فالطريق مفتوح وباب البحث غير مغلق،

    فرد الدليل بالدليل، والبرهان بالبرهان،

    ولن تجد لذلك سبيلا، ما دام الملوان.


    كيف وقد أخبر الله عنه، أنه جحدها مع استيقانها،

    كما قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا }


    وقال موسى:

    { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ }

    فعلم أنه ظالم في جداله، قصده العلو في الأرض.


    الحمد لله رب العالمين

  16. #296

    افتراضي

    ثم استطرد في هذا الدليل القاطع، بذكر كثير من نعمه وإحسانه الضروري،

    فقال: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا }

    أي: فراشا بحالة تتمكنون من السكون فيها، والقرار، والبناء، والغراس،

    وإثارتها للازدراع وغيره، وذللها لذلك،

    ولم يجعلها ممتنعة عن مصلحة من مصالحكم.


    { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا } أي: نفذ لكم الطرق الموصلة،

    من أرض إلى أرض، ومن قطر إلى قطر،

    حتى كان الآدميون يتمكنون من الوصول إلى جميع الأرض بأسهل ما يكون،

    وينتفعون بأسفارهم، أكثر مما ينتفعون بإقامتهم.


    { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى }

    أي: أنزل المطر

    { فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }

    وأنبت بذلك جميع أصناف النوابت على اختلاف أنواعها،

    وتشتت أشكالها، وتباين أحوالها، فساقه، وقدره، ويسره، رزقا لنا ولأنعامنا،

    ولولا ذلك لهلك من عليها من آدمي وحيوان،

    ولهذا قال: { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } وسياقها على وجه الامتنان،

    ليدل ذلك على أن الأصل في جميع النوابت الإباحة،

    فلا يحرم منهم إلا ما كان مضرا، كالسموم ونحوه.


    { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى }

    أي: لذوي العقول الرزينة،

    والأفكار المستقيمة على فضل الله وإحسانه،

    ورحمته، وسعة جوده، وتمام عنايته،

    وعلى أنه الرب المعبود، المالك المحمود،

    الذي لا يستحق العبادة سواه،

    ولا الحمد والمدح والثناء، إلا من امتن بهذه النعم،

    وعلى أنه على كل شيء قدير،

    فكما أحيا الأرض بعد موتها، إن ذلك لمحيي الموتى.



    وخص الله أولي النهى بذلك،

    لأنهم المنتفعون بها، الناظرون إليها نظر اعتبار،

    وأما من عداهم،

    فإنهم بمنـزلة البهائم السارحة، والأنعام السائمة،

    لا ينظرون إليها نظر اعتبار،

    ولا تنفذ بصائرهم إلى المقصود منها،

    بل حظهم، حظ البهائم، يأكلون ويشربون،

    وقلوبهم لاهية، وأجسامهم معرضة.

    { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

    يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }


    ولما ذكر كرم الأرض، وحسن شكرها لما ينـزله الله عليها من المطر،

    وأنها بإذن ربها، تخرج النبات المختلف الأنواع،

    أخبر أنه خلقنا منها، وفيها يعيدنا إذا متنا فدفنا فيها،

    ومنها يخرجنا تارة أخرى،

    فكما أوجدنا منها من العدم، وقد علمنا ذلك وتحققناه،

    فسيعيدنا بالبعث منها بعد موتنا،

    ليجازينا بأعمالنا التي عملناها عليها.



    وهذان دليلان على الإعادة عقليان واضحان:

    إخراج النبات من الأرض بعد موتها،

    وإخراج المكلفين منها في إيجادهم.
    الحمد لله رب العالمين

  17. #297

    افتراضي

    ( 211 )


    من سورة طه


    { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى *

    قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي

    وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى *

    قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ *

    فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا

    قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا

    أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ

    أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ

    فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي }
    { 83 - 86 }


    كان الله تعالى قد واعد موسى أن يأتيه

    لينزل عليه التوراة ثلاثين ليلة، فأتمها بعشر،

    فلما تم الميقات، بادر موسى عليه السلام إلى الحضور للموعد

    شوقا لربه، وحرصا على موعوده،

    فقال الله له: { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى }

    أي: ما الذي قدمك عليهم؟

    ولم لم تصبر حتى تقدم أنت وهم؟

    قال: { هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي } أي: قريبا مني،

    وسيصلون في أثري

    والذي عجلني إليك يا رب طلبا لقربك

    ومسارعة في رضاك، وشوقا إليك،



    فقال الله له:

    { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ }

    أي: بعبادتهم للعجل، ابتليناهم، واختبرناهم، فلم يصبروا،

    وحين وصلت إليهم المحنة، كفروا { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ }

    { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا } وصاغه فصار

    { لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا } لهم { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى }

    فنسيه موسى، فافتتن به بنو إسرائيل، فعبدوه،

    ونهاهم هارون فلم ينتهوا.


    فلما رجع موسى إلى قومه وهو غضبان أسف،

    أي: ممتلئ غيظا وحنقا وغما،

    قال لهم موبخا ومقبحا لفعلهم:

    { يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا } وذلك بإنزال التوراة،


    { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ }

    أي: المدة، فتطاولتم غيبتي وهي مدة قصيرة؟

    هذا قول كثير من المفسرين،


    ويحتمل أن معناه: أفطال عليكم عهد النبوة والرسالة،

    فلم يكن لكم بالنبوة علم ولا أثر، واندرست آثارها،

    فلم تقفوا منها على خبر، فانمحت آثارها لبعد العهد بها،

    فعبدتم غير الله، لغلبة الجهل،

    وعدم العلم بآثار الرسالة؟


    أي: ليس الأمر كذلك، بل النبوة بين أظهركم،

    والعلم قائم، والعذر غير مقبول؟

    أم أردتم بفعلكم،

    أن يحل عليكم غضب من ربكم؟

    أي: فتعرضتم لأسبابه واقتحمتم موجب عذابه،

    وهذا هو الواقع،


    { فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي }

    حين أمرتكم بالاستقامة، ووصيت بكم هارون،

    فلم ترقبوا غائبا، ولم تحترموا حاضرا.

    الحمد لله رب العالمين

  18. #298

    افتراضي

    ( 212 )


    من سورة طه




    { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا

    وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا

    فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ *

    فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ

    فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ *

    أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا

    وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا }

    { 87 - 89 }


    أي: قالوا له:

    ما فعلنا الذي فعلنا عن تعمد منا، وملك منا لأنفسنا،

    ولكن السبب الداعي لذلك، أننا تأثمنا من زينة القوم التي عندنا،

    وكانوا فيما يذكرون استعاروا حليا كثيرا من القبط،

    فخرجوا وهو معهم وألقوه،

    وجمعوه حين ذهب موسى ليراجعوه فيه إذا رجع.


    وكان السامري قد بصر يوم الغرق بأثر الرسول،

    فسولت له نفسه أن يأخذ قبضة من أثره،

    وأنه إذا ألقاها على شيء حيي، فتنة وامتحانا،

    فألقاها على ذلك العجل الذي صاغه بصورة عجل،

    فتحرك العجل، وصار له خوار وصوت،

    وقالوا: إن موسى ذهب يطلب ربه، وهو هاهنا فنسيه،


    وهذا من بلادتهم، وسخافة عقولهم،

    حيث رأوا هذا الغريب الذي صار له خوار،

    بعد أن كان جمادا،

    فظنوه إله الأرض والسماوات.


    { أَفَلَا يَرَوْنَ } أن العجل

    { لَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا }

    أي: لا يتكلم ويراجعهم ويراجعونه،

    ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا،


    فالعادم للكمال والكلام والفعال

    لا يستحق أن يعبد وهو أنقص من عابديه،

    فإنهم يتكلمون ويقدرون على بعض الأشياء،

    من النفع والدفع، بإقدار الله لهم.

    الحمد لله رب العالمين

  19. #299

    افتراضي

    ( 213 )


    من سورة طه


    { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ

    وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ

    فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي
    *

    قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى }

    { 90 - 91 }


    أي: إن اتخاذهم العجل، ليسوا معذورين فيه،

    فإنه وإن كانت عرضت لهم الشبهة في أصل عبادته،

    فإن هارون قد نهاهم عنه، وأخبرهم أنه فتنة،


    وأن ربهم الرحمن،

    الذي منه النعم الظاهرة والباطنة،

    الدافع للنقم


    وأنه أمرهم أن يتبعوه، ويعتزلوا العجل،

    فأبوا وقالوا:

    { لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى }

    الحمد لله رب العالمين

  20. #300

    افتراضي

    ( 214 )



    من سورة طه



    { .... وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا

    لَنُحَرِّقَنَّه ُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا *

    إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

    وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }

    { 97 – 98 }



    { وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا } أي: العجل

    { لَنُحَرِّقَنَّه ُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } ففعل موسى ذلك،


    فلو كان إلهاً،

    لامتنع ممن يريده بأذى ويسعى له بالإتلاف،

    وكان قد أشرب العجل في قلوب بني إسرائيل،

    فأراد موسى عليه السلام إتلافه وهم ينظرون،

    على وجه لا تمكن إعادته

    بالإحراق والسحق وذريه في اليم ونسفه،

    ليزول ما في قلوبهم من حبه، كما زال شخصه،

    ولأن في إبقائه محنة،

    لأن في النفوس أقوى داع إلى الباطل،



    فلما تبين لهم بطلانه،

    أخبرهم بمن يستحق العبادة وحده لا شريك له، فقال:


    { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

    وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }

    أي: لا معبود إلا وجهه الكريم،

    فلا يؤله، ولا يحب،

    ولا يرجى ولا يخاف، ولا يدعى إلا هو،

    لأنه الكامل الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى،

    المحيط علمه بجميع الأشياء،


    الذي ما من نعمة بالعباد إلا منه،

    ولا يدفع السوء إلا هو،

    فلا إله إلا هو، ولا معبود سواه.

    الحمد لله رب العالمين

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •