تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 16 من 22 الأولىالأولى ... 678910111213141516171819202122 الأخيرةالأخيرة
النتائج 301 إلى 320 من 433

الموضوع: تفسير آيات التوحيد في القرآن المجيد

  1. #301

    افتراضي

    ( 215 )


    من سورة طه

    { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *

    فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا *

    يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ

    وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا *

    يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ

    إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا *

    يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا *

    وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ

    وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا *

    وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ

    فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا }



    { 105 - 112 }


    يخبر تعالى عن أهوال القيامة، وما فيها من الزلازل والقلاقل، فقال:

    { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ }

    أي: ماذا يصنع بها يوم القيامة، وهل تبقى بحالها أم لا؟

    { فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا }

    أي: يزيلها ويقلعها من أماكنها فتكون كالعهن وكالرمل،

    ثم يدكها فيجعلها هباء منبثا، فتضمحل وتتلاشى، ويسويها بالأرض،

    ويجعل الأرض قاعا صفصفا، مستويا لا يرى فيه أيها الناظر عِوَجًا،

    هذا من تمام استوائها

    { وَلَا أَمْتًا } أي: أودية وأماكن منخفضة، أو مرتفعة

    فتبرز الأرض، وتتسع للخلائق، ويمدها الله مد الأديم،

    فيكونون في موقف واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر،


    ولهذا قال:

    { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ }

    وذلك حين يبعثون من قبورهم ويقومون منها،

    يدعوهم الداعي إلى الحضور والاجتماع للموقف، فيتبعونه مهطعين إليه،

    لا يلتفتون عنه، ولا يعرجون يمنة ولا يسرة،

    وقوله: { لَا عِوَجَ لَهُ } أي: لا عوج لدعوة الداعي،

    بل تكون دعوته حقا وصدقا، لجميع الخلق،

    يسمعهم جميعهم، ويصيح بهم أجمعين،

    فيحضرون لموقف القيامة، خاشعة أصواتهم للرحمن،


    { فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا }

    أي: إلا وطء الأقدام، أو المخافتة سرا بتحريك الشفتين فقط،

    يملكهم الخشوع والسكون والإنصات،

    انتظارا لحكم الرحمن فيهم،

    وتعنو وجوههم، أي: تذل وتخضع،


    فترى في ذلك الموقف العظيم، الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء،

    والأحرار والأرقاء، والملوك والسوقة،

    ساكتين منصتين، خاشعة أبصارهم، خاضعة رقابهم،

    جاثين على ركبهم، عانية وجوههم،

    لا يدرون ماذا ينفصل كل منهم به، ولا ماذا يفعل به،

    قد اشتغل كل بنفسه وشأنه، عن أبيه وأخيه، وصديقه وحبيبه

    { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }

    فحينئذ يحكم فيهم الحاكم العدل الديان،

    ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بالحرمان.


    الحمد لله رب العالمين

  2. #302

    افتراضي

    والأمل بالرب الكريم، الرحمن الرحيم،

    أن يرى الخلائق منه، من الفضل والإحسان،

    والعفو والصفح والغفران،

    ما لا تعبر عنه الألسنة، ولا تتصوره الأفكار،

    ويتطلع لرحمته إذ ذاك جميع الخلق لما يشاهدونه

    [فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة]

    فإن قيل: من أين لكم هذا الأمل؟

    وإن شئت قلت:

    من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟


    قلنا:

    لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه،

    ومن سعة جوده، الذي عم جميع البرايا،

    ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا، من النعم المتواترة في هذه الدار،

    وخصوصا في فصل القيامة،


    فإن قوله: { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ }

    { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ }

    مع قوله { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ }


    مع قوله صلى الله عليه وسلم:

    " إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة، بها يتراحمون ويتعاطفون،

    حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها خشية أن تطأه

    -أي:- من الرحمة المودعة في قلبها،

    فإذا كان يوم القيامة،

    ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، فرحم بها العباد "


    مع قوله صلى الله عليه وسلم:

    " لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها "



    فقل ما شئت عن رحمته،

    فإنها فوق ما تقول،

    وتصور ما شئت، فإنها فوق ذلك،

    فسبحان من رحم في عدله وعقوبته،

    كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته،

    وتعالى من وسعت رحمته كل شيء،

    وعمَّ كرمه كل حي،

    وجلَّ من غني عن عباده، رحيم بهم،

    وهم مفتقرون إليه على الدوام،

    في جميع أحوالهم،

    فلا غنى لهم عنه طرفة عين.



    وقوله: { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ

    إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا }

    أي: لا يشفع أحد عنده من الخلق،

    إلا إذا أذن في الشفاعة

    ولا يأذن إلا لمن رضي قوله،

    أي: شفاعته، من الأنبياء والمرسلين، وعباده المقربين،

    فيمن ارتضى قوله وعمله، وهو المؤمن المخلص،

    فإذا اختل واحد من هذه الأمور،

    فلا سبيل لأحد إلى شفاعة من أحد.


    وينقسم الناس في ذلك الموقف قسمين:


    ظالمين بكفرهم وشرهم، فهؤلاء لا ينالهم إلا الخيبة والحرمان،

    والعذاب الأليم في جهنم، وسخط الديان.


    والقسم الثاني: من آمن الإيمان المأمور به، وعمل صالحا من واجب ومسنون

    { فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا } أي: زيادة في سيئاته

    { وَلَا هَضْمًا } أي: نقصا من حسناته،

    بل تغفر ذنوبه، وتطهر عيوبه، وتضاعف حسناته،

    { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا }

    الحمد لله رب العالمين

  3. #303

    افتراضي

    ( 216 )


    من سورة الأنبياء


    { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ

    فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ *

    مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا

    أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ }
    { 5 - 6 }



    يذكر تعالى ائتفاك المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم،

    وبما جاء به من القرآن العظيم،

    وأنهم سفهوه وقالوا فيه الأقاويل الباطلة المختلفة،

    فتارة يقولون: { أضغاث أحلام }

    بمنزلة كلام النائم الهاذي، الذي لا يحس بما يقول،


    وتارة يقولون: { افتراه } واختلقه وتقوله من عند نفسه،

    وتارة يقولون: إنه شاعر وما جاء به شعر.


    وكل من له أدنى معرفة بالواقع من حالة الرسول،

    ونظر في هذا الذي جاء به،

    جزم جزما لا يقبل الشك،

    أنه أجل الكلام وأعلاه،

    وأنه من عند الله،

    وأن أحدا من البشر لا يقدر على الإتيان بمثل بعضه،

    كما تحدى الله أعداءه بذلك،

    ليعارضوا مع توفر دواعيهم لمعارضته وعداوته،

    فلم يقدروا على شيء من معارضته،


    وهم يعلمون ذلك

    وإلا فما الذي أقامهم وأقعدهم

    وأقض مضاجعهم وبلبل ألسنتهم

    إلا الحق الذي لا يقوم له شيء،


    وإنما يقولون هذه الأقوال فيه - حيث لم يؤمنوا به -

    تنفيرا عنه لمن لم يعرفه،



    وهو أكبر الآيات المستمرة،

    الدالة على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه،

    وهو كاف شاف،

    فمن طلب دليلا غيره، أو اقترح آية من الآيات سواه،

    فهو جاهل ظالم مشبه لهؤلاء المعاندين الذين كذبوه

    وطلبوا من الآيات الاقتراح ما هو أضر شيء عليهم،

    وليس لهم فيها مصلحة،

    لأنهم إن كان قصدهم معرفة الحق إذا تبين دليله،

    فقد تبين دليله بدونها،

    وإن كان قصدهم التعجيز وإقامة العذر لأنفسهم،

    إن لم يأت بما طلبوا فإنهم بهذه الحالة

    - على فرض إتيان ما طلبوا من الآيات -

    لا يؤمنون قطعا،

    فلو جاءتهم كل آية،

    لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.


    ولهذا قال الله عنهم:

    { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ }

    أي: كناقة صالح، وعصا موسى، ونحو ذلك.


    قال الله: { مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا }

    أي: بهذه الآيات المقترحة،

    وإنما سنته تقتضي أن من طلبها، ثم حصلت له،

    فلم يؤمن أن يعاجله بالعقوبة.


    فالأولون ما آمنوا بها،

    أفيؤمن هؤلاء بها؟

    ما الذي فضلهم على أولئك، وما الخير الذي فيهم،

    يقتضي الإيمان عند وجودها؟

    وهذا الاستفهام بمعنى النفي،

    أي: لا يكون ذلك منهم أبدا.

    الحمد لله رب العالمين

  4. #304

    افتراضي

    ( 217 )


    من سورة الأنبياء

    { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ

    فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ *

    وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ

    وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ *

    ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُ مْ وَمَنْ نَشَاءُ

    وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ }

    { 7 - 9 }


    هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين: هلا كان ملكا،

    لا يحتاج إلى طعام وشراب، وتصرف في الأسواق،

    وهلا كان خالدا؟

    فإذا لم يكن كذلك، دل على أنه ليس برسول.


    وهذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل،

    تشابهوا في الكفر، فتشابهت أقوالهم،

    فأجاب تعالى عن هذه الشبه لهؤلاء المكذبين للرسول،

    المقرين بإثبات الرسل قبله -

    ولو لم يكن إلا إبراهيم عليه السلام،

    الذي قد أقر بنبوته جميع الطوائف،

    والمشركون يزعمون أنهم على دينه وملته -

    بأن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم من البشر،

    الذين يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق،

    وتطرأ عليهم العوارض البشرية، من الموت وغيره،

    وأن الله أرسلهم إلى قومهم وأممهم،

    فصدقهم من صدقهم، وكذبهم من كذبهم،

    وأن الله صدقهم ما وعدهم به

    من النجاة والسعادة لهم ولأتباعهم،

    وأهلك المسرفين المكذبين لهم.



    فما بال محمد صلى الله عليه وسلم،

    تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته،

    وهي موجودة في إخوانه المرسلين،

    الذين يقر بهم المكذبون لمحمد ؟


    فهذا إلزام لهم في غاية الوضوح،

    وأنهم إن أقروا برسول من البشر،

    ولن يقروا برسول من غير البشر،


    إن شبههم باطلة، قد أبطلوها هم بإقرارهم بفسادها،

    وتناقضهم بها،

    فلو قدر انتقالهم من هذا إلى إنكار نبوة البشر رأسا،

    وأنه لا يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلدا، لا يأكل الطعام،

    فقد أجاب [الله] تعالى عن هذه الشبهة بقوله:


    { وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ

    وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ*

    وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ }


    وأن البشر لا طاقة لهم بتلقي الوحي من الملائكة

    { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ

    لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا }

    فإن حصل معكم شك وعدم علم بحالة الرسل المتقدمين


    { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ }

    من الكتب السالفة، كأهل التوراة والإنجيل،

    يخبرونكم بما عندهم من العلم،

    وأنهم كلهم بشر من جنس المرسل إليهم.



    وهذه الآية وإن كان سببها خاصا

    بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر وهم أهل العلم،

    فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين، أصوله وفروعه،

    إذا لم يكن عند الإنسان علم منها،

    أن يسأل من يعلمها،


    ففيه الأمر بالتعلم والسؤال لأهل العلم،

    ولم يؤمر بسؤالهم،

    إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه.


    وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم،

    نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم،

    ونهي له أن يتصدى لذلك،


    وفي هذه الآية دليل على أن النساء ليس منهن نبية،

    لا مريم ولا غيرها، لقوله { إِلَّا رِجَالًا }


    الحمد لله رب العالمين

  5. #305

    افتراضي

    ( 218 )



    من سورة طه


    { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *

    لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ

    وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى *

    وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى *

    اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }

    { 5 - 8 }



    { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ }الذي هو أرفع المخلوقات وأعظمها وأوسعها،

    { اسْتَوَى } استواء يليق بجلاله، ويناسب عظمته وجماله،

    فاستوى على العرش، واحتوى على الملك.




    { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا }

    من ملك وإنسي وجني، وحيوان، وجماد، ونبات،

    { وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } أي: الأرض،

    فالجميع ملك لله تعالى، عبيد مدبرون،

    مسخرون تحت قضائه وتدبيره، ليس لهم من الملك شيء،

    ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا

    ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.





    { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ }الكلام الخفي

    { وَأَخْفَى }من السر، الذي في القلب، ولم ينطق به.


    أو السر: ما خطر على القلب.

    { وأخفى }ما لم يخطر.

    يعلم تعالى أنه يخطر في وقته، وعلى صفته،


    المعنى: أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء،

    دقيقها، وجليلها، خفيها، وظاهرها،

    فسواء جهرت بقولك أو أسررته،

    فالكل سواء، بالنسبة لعلمه تعالى.




    فلما قرر كماله المطلق، بعموم خلقه، وعموم أمره ونهيه،

    وعموم رحمته، وسعة عظمته،

    وعلوه على عرشه، وعموم ملكه، وعموم علمه،

    نتج من ذلك،

    أنه المستحق للعبادة،

    وأن عبادته هي الحق التي يوجبها الشرع والعقل والفطرة،

    وعبادة غيره باطلة،


    فقال:



    { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ }

    أي: لا معبود بحق،

    ولا مألوه بالحب والذل، والخوف والرجاء،

    والمحبة والإنابة والدعاء، إلا هو.





    { لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }

    أي: له الأسماء الكثيرة الكاملة الحسنى،

    من حسنها أنها كلها أسماء دالة على المدح،

    فليس فيها اسم لا يدل على المدح والحمد،

    ومن حسنها أنها ليست أعلاما محضة، وإنما هي أسماء وأوصاف،


    ومن حسنها أنها دالة على الصفات الكاملة،

    وأن له من كل صفة أكملها وأعمها وأجلها،


    ومن حسنها أنه أمر العباد أن يدعوه بها،

    لأنها وسيلة مقربة إليه يحبها، ويحب من يحبها،

    ويحب من يحفظها، ويحب من يبحث عن معانيها ويتعبد له بها،


    قال تعالى:

    { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا }

    الحمد لله رب العالمين

  6. #306

    افتراضي

    ( 219 )


    من سورة طه


    { قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى *

    قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى *

    قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى *

    قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ

    لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى }

    { 49 - 52 }



    أي: قال فرعون لموسى على وجه الإنكار: { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى }

    فأجاب موسى بجواب شاف كاف واضح، فقال:

    { رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }

    أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات،

    وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به،

    الدال على حسن صنعه من خلقه،

    من كبر الجسم وصغره وتوسطه، وجميع صفاته،


    { ثُمَّ هَدَى } كل مخلوق إلى ما خلقه له،

    وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات

    فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع،

    وفي دفع المضار عنه،

    حتى إن الله تعالى أعطى الحيوان البهيم من العقل،

    ما يتمكن به على ذلك.


    وهذا كقوله تعالى:

    { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ }


    فالذي خلق المخلوقات، وأعطاها خلقها الحسن،

    الذي لا تقترح العقول فوق حسنه، وهداها لمصالحها،

    هو الرب على الحقيقة،

    فإنكاره إنكار لأعظم الأشياء وجودا،

    وهو مكابرة ومجاهرة بالكذب،

    فلو قدر أن الإنسان، أنكر من الأمور المعلومة ما أنكر،

    كان إنكاره لرب العالمين أكبر من ذلك،


    ولهذا لما لم يمكن فرعون،

    أن يعاند هذا الدليل القاطع، عدل إلى المشاغبة،

    وحاد عن المقصود فقال لموسى: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى }

    أي: ما شأنهم، وما خبرهم؟ وكيف وصلت بهم الحال،

    وقد سبقونا إلى الإنكار والكفر،

    والظلم، والعناد، ولنا فيهم أسوة؟


    فقال موسى:

    { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى }

    أي: قد أحصى أعمالهم من خير وشر،

    وكتبه في كتاب، وهو اللوح المحفوظ،

    وأحاط به علما وخبرا، فلا يضل عن شيء منها،

    ولا ينسى ما علمه منها.


    ومضمون ذلك،

    أنهم قدموا إلى ما قدموا، ولاقوا أعمالهم، وسيجازون عليها،

    فلا معنى لسؤالك واستفهامك يا فرعون عنهم،

    فتلك أمة قد خلت، لها ما كسبت،ولكم ما كسبتم،

    فإن كان الدليل الذي أوردناه عليك، والآيات التي أريناكها،

    قد تحققت صدقها ويقينها، وهو الواقع،

    فانقد إلى الحق، ودع عنك الكفر والظلم، وكثرة الجدال بالباطل،

    وإن كنت قد شككت فيها أو رأيتها غير مستقيمة،

    فالطريق مفتوح وباب البحث غير مغلق،

    فرد الدليل بالدليل، والبرهان بالبرهان،

    ولن تجد لذلك سبيلا، ما دام الملوان.


    كيف وقد أخبر الله عنه، أنه جحدها مع استيقانها،

    كما قال تعالى:

    { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا }

    وقال موسى:

    { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ

    إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ }


    فعلم أنه ظالم في جداله، قصده العلو في الأرض.

    الحمد لله رب العالمين

  7. #307

    افتراضي

    ( 220 )


    من سورة طه


    { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى *

    قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي

    وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى *


    قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ *

    فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا

    قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا

    أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ

    أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ

    فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي }


    { 83 - 86 }



    كان الله تعالى، قد واعد موسى أن يأتيه

    لينزل عليه التوراة ثلاثين ليلة، فأتمها بعشر،

    فلما تم الميقات،

    بادر موسى عليه السلام إلى الحضور للموعد شوقا لربه،

    وحرصا على موعوده،

    فقال الله له:

    { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى }

    أي: ما الذي قدمك عليهم؟ ولم لم تصبر حتى تقدم أنت وهم؟

    قال: { هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي }

    أي: قريبا مني، وسيصلون في أثري

    والذي عجلني إليك يا رب طلبا لقربك

    ومسارعة في رضاك، وشوقا إليك،


    فقال الله له:

    { فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ }

    أي: بعبادتهم للعجل،

    ابتليناهم، واختبرناهم، فلم يصبروا،

    وحين وصلت إليهم المحنة، كفروا

    { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ }

    { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا }

    وصاغه فصار { لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا } لهم

    { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى } فنسيه موسى،

    فافتتن به بنو إسرائيل، فعبدوه،

    ونهاهم هارون فلم ينتهوا.



    فلما رجع موسى إلى قومه وهو غضبان أسف،

    أي: ممتلئ غيظا وحنقا وغما،

    قال لهم موبخا ومقبحا لفعلهم:

    { يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا } وذلك بإنزال التوراة،

    { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } أي: المدة،

    فتطاولتم غيبتي وهي مدة قصيرة؟

    هذا قول كثير من المفسرين،


    ويحتمل أن معناه:

    أفطال عليكم عهد النبوة والرسالة،

    فلم يكن لكم بالنبوة علم ولا أثر، واندرست آثارها،

    فلم تقفوا منها على خبر، فانمحت آثارها لبعد العهد بها،

    فعبدتم غير الله، لغلبة الجهل،

    وعدم العلم بآثار الرسالة؟


    أي: ليس الأمر كذلك، بل النبوة بين أظهركم،

    والعلم قائم، والعذر غير مقبول؟


    أم أردتم بفعلكم، أن يحل عليكم غضب من ربكم؟

    أي: فتعرضتم لأسبابه واقتحمتم موجب عذابه،

    وهذا هو الواقع،


    { فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي }

    حين أمرتكم بالاستقامة، ووصيت بكم هارون،

    فلم ترقبوا غائبا، ولم تحترموا حاضرا.


    الحمد لله رب العالمين

  8. #308

    افتراضي

    ( 221 )


    من سورة طه


    { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا

    وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا

    فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ *

    فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ

    فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ *

    أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا

    وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا }
    { 87 - 89 }


    أي: قالوا له:

    ما فعلنا الذي فعلنا عن تعمد منا، وملك منا لأنفسنا،

    ولكن السبب الداعي لذلك،

    أننا تأثمنا من زينة القوم التي عندنا،

    وكانوا فيما يذكرون استعاروا حليا كثيرا من القبط،

    فخرجوا وهو معهم وألقوه،

    وجمعوه حين ذهب موسى ليراجعوه فيه إذا رجع.


    وكان السامري قد بصر يوم الغرق بأثر الرسول،

    فسولت له نفسه أن يأخذ قبضة من أثره،

    وأنه إذا ألقاها على شيء حيي، فتنة وامتحانا،

    فألقاها على ذلك العجل الذي صاغه بصورة عجل،

    فتحرك العجل، وصار له خوار وصوت،

    وقالوا: إن موسى ذهب يطلب ربه، وهو هاهنا فنسيه،


    وهذا من بلادتهم، وسخافة عقولهم،

    حيث رأوا هذا الغريب الذي صار له خوار،

    بعد أن كان جمادا،

    فظنوه إله الأرض والسماوات.



    { أَفَلَا يَرَوْنَ }أن العجل

    { لَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا }

    أي: لا يتكلم ويراجعهم ويراجعونه،

    ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا،

    فالعادم للكمال والكلام والفعال

    لا يستحق أن يعبد

    وهو أنقص من عابديه،

    فإنهم يتكلمون ويقدرون على بعض الأشياء،

    من النفع والدفع، بإقدار الله لهم.


    الحمد لله رب العالمين

  9. #309

    افتراضي

    ( 222 )


    من سورة طه



    { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ

    وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ

    فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي *

    قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى }

    { 90 - 91 }


    أي: إن اتخاذهم العجل، ليسوا معذورين فيه،

    فإنه وإن كانت عرضت لهم الشبهة في أصل عبادته،

    فإن هارون قد نهاهم عنه، وأخبرهم أنه فتنة،

    وأن ربهم الرحمن، الذي منه النعم الظاهرة والباطنة،

    الدافع للنقم

    وأنه أمرهم أن يتبعوه، ويعتزلوا العجل،

    فأبوا وقالوا:

    { لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى }


    الحمد لله رب العالمين

  10. #310

    افتراضي


    ( 223 )


    من سورة طه



    { ... وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا

    لَنُحَرِّقَنَّه ُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا *

    إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

    وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }
    { 97 – 98 }



    { وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا } أي: العجل

    { لَنُحَرِّقَنَّه ُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } ففعل موسى ذلك،

    فلو كان إلها،

    لامتنع ممن يريده بأذى ويسعى له بالإتلاف،


    وكان قد أشرب العجل في قلوب بني إسرائيل،

    فأراد موسى عليه السلام إتلافه وهم ينظرون،

    على وجه لا تمكن إعادته

    بالإحراق والسحق وذريه في اليم ونسفه،

    ليزول ما في قلوبهم من حبه، كما زال شخصه،

    ولأن في إبقائه محنة،

    لأن في النفوس أقوى داع إلى الباطل،



    فلما تبين لهم بطلانه،

    أخبرهم بمن يستحق العبادة وحده لا شريك له،

    فقال:



    { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

    وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا }




    أي: لا معبود إلا وجهه الكريم،

    فلا يؤله، ولا يحب،

    ولا يرجى ولا يخاف،

    ولا يدعى إلا هو،

    لأنه الكامل الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى،

    المحيط علمه بجميع الأشياء،

    الذي ما من نعمة بالعباد إلا منه،

    ولا يدفع السوء إلا هو،

    فلا إله إلا هو، ولا معبود سواه.
    الحمد لله رب العالمين

  11. #311

    افتراضي

    ( 224 )

    من سورة طه


    { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *

    فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا *

    يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ

    وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ

    فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا }

    { 105 - 108 }


    يخبر تعالى عن أهوال القيامة، وما فيها من الزلازل والقلاقل،

    فقال: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ }

    أي: ماذا يصنع بها يوم القيامة، وهل تبقى بحالها أم لا؟

    { فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا }

    أي: يزيلها ويقلعها من أماكنها فتكون كالعهن وكالرمل،

    ثم يدكها فيجعلها هباء منبثا، فتضمحل وتتلاشى،

    ويسويها بالأرض، ويجعل الأرض قاعا صفصفا،

    مستويا لا يرى فيه أيها الناظر عِوَجًا،

    هذا من تمام استوائها

    { وَلَا أَمْتًا } أي: أودية وأماكن منخفضة، أو مرتفعة

    فتبرز الأرض، وتتسع للخلائق، ويمدها الله مد الأديم،

    فيكونون في موقف واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر،


    ولهذا قال:

    { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ }

    وذلك حين يبعثون من قبورهم ويقومون منها،

    يدعوهم الداعي إلى الحضور والاجتماع للموقف،

    فيتبعونه مهطعين إليه، لا يلتفتون عنه،

    ولا يعرجون يمنة ولا يسرة،

    وقوله: { لَا عِوَجَ لَهُ } أي: لا عوج لدعوة الداعي،

    بل تكون دعوته حقا وصدقا، لجميع الخلق،

    يسمعهم جميعهم، ويصيح بهم أجمعين،

    فيحضرون لموقف القيامة، خاشعة أصواتهم للرحمن،


    { فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا }

    أي: إلا وطء الأقدام، أو المخافتة سرا بتحريك الشفتين فقط،

    يملكهم الخشوع والسكون والإنصات،

    انتظارا لحكم الرحمن فيهم،

    وتعنو وجوههم، أي: تذل وتخضع،


    فترى في ذلك الموقف العظيم، الأغنياء والفقراء،

    والرجال والنساء، والأحرار والأرقاء، والملوك والسوقة،

    ساكتين منصتين، خاشعة أبصارهم، خاضعة رقابهم،

    جاثين على ركبهم، عانية وجوههم،

    لا يدرون ماذا ينفصل كل منهم به، ولا ماذا يفعل به،

    قد اشتغل كل بنفسه وشأنه، عن أبيه وأخيه، وصديقه وحبيبه

    { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }


    فحينئذ يحكم فيهم الحاكم العدل الديان،

    ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بالحرمان.

    الحمد لله رب العالمين

  12. #312

    افتراضي

    والأمل بالرب الكريم، الرحمن الرحيم،

    أن يرى الخلائق منه، من الفضل والإحسان،

    والعفو والصفح والغفران،

    ما لا تعبر عنه الألسنة، ولا تتصوره الأفكار،

    ويتطلع لرحمته إذ ذاك جميع الخلق لما يشاهدونه

    [فيختص المؤمنون به وبرسله بالرحمة]


    فإن قيل:

    من أين لكم هذا الأمل؟

    وإن شئت قلت: من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟


    قلنا:

    لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه،

    ومن سعة جوده، الذي عم جميع البرايا،

    ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا،

    من النعم المتواترة في هذه الدار،

    وخصوصا في فصل القيامة،


    فإن قوله: { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ }

    { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ }

    مع قوله { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ }



    مع قوله صلى الله عليه وسلم:

    " إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة، بها يتراحمون ويتعاطفون،

    حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها خشية أن تطأه

    -أي:- من الرحمة المودعة في قلبها،

    فإذا كان يوم القيامة،

    ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، فرحم بها العباد "


    مع قوله صلى الله عليه وسلم:

    " لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها "


    فقل ما شئت عن رحمته، فإنها فوق ما تقول،

    وتصور ما شئت، فإنها فوق ذلك،

    فسبحان من رحم في عدله وعقوبته،

    كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته،

    وتعالى من وسعت رحمته كل شيء،

    وعم كرمه كل حي،

    وجلَّ من غني عن عباده، رحيم بهم،

    وهم مفتقرون إليه على الدوام، في جميع أحوالهم،

    فلا غنى لهم عنه طرفة عين.
    الحمد لله رب العالمين

  13. #313

    افتراضي

    ( 225 )


    من سورة طه


    { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ

    إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا *

    يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا *

    وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ

    وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا }

    { 109 – 111 }


    { يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ

    إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا }

    أي: لا يشفع أحد عنده من الخلق،

    إلا إذا أذن في الشفاعة ولا يأذن إلا لمن رضي قوله،

    أي: شفاعته، من الأنبياء والمرسلين، وعباده المقربين،

    فيمن ارتضى قوله وعمله، وهو المؤمن المخلص،

    فإذا اختل واحد من هذه الأمور،

    فلا سبيل لأحد إلى شفاعة من أحد.



    وينقسم الناس في ذلك الموقف قسمين:


    ظالمين بكفرهم وشرهم،

    فهؤلاء لا ينالهم إلا الخيبة والحرمان،

    والعذاب الأليم في جهنم، وسخط الديان.


    والقسم الثاني:

    من آمن الإيمان المأمور به،

    وعمل صالحا من واجب ومسنون

    { فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا } أي: زيادة في سيئاته

    { وَلَا هَضْمًا } أي: نقصا من حسناته،

    بل تغفر ذنوبه، وتطهر عيوبه، وتضاعف حسناته،


    { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا

    وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا }




    الحمد لله رب العالمين

  14. #314

    افتراضي

    ( 226 )



    من سورة الأنبياء


    { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ

    فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ *

    مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا

    أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ }

    { 5 - 6 }


    يذكر تعالى ائتفاك المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم،

    وبما جاء به من القرآن العظيم،

    وأنهم سفهوه وقالوا فيه الأقاويل الباطلة المختلفة،

    فتارة يقولون: { أضغاث أحلام } بمنزلة كلام النائم الهاذي،

    الذي لا يحس بما يقول،

    وتارة يقولون: { افتراه } واختلقه وتقوله من عند نفسه،

    وتارة يقولون: إنه شاعر وما جاء به شعر.




    وكل من له أدنى معرفة بالواقع، من حالة الرسول،

    ونظر في هذا الذي جاء به، جزم جزما لا يقبل الشك،

    أنه أجل الكلام وأعلاه، وأنه من عند الله،

    وأن أحدا من البشر لا يقدر على الإتيان بمثل بعضه،

    كما تحدى الله أعداءه بذلك،

    ليعارضوا مع توفر دواعيهم لمعارضته وعداوته،

    فلم يقدروا على شيء من معارضته،


    وهم يعلمون ذلك

    وإلا فما الذي أقامهم وأقعدهم وأقض مضاجعهم وبلبل ألسنتهم

    إلا الحق الذي لا يقوم له شيء،

    وإنما يقولون هذه الأقوال فيه - حيث لم يؤمنوا به -

    تنفيرا عنه لمن لم يعرفه،

    وهو أكبر الآيات المستمرة،

    الدالة على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وصدقه،


    وهو كاف شاف،

    فمن طلب دليلا غيره، أو اقترح آية من الآيات سواه،

    فهو جاهل ظالم مشبه لهؤلاء المعاندين

    الذين كذبوه وطلبوا من الآيات الاقتراح ما هو أضر شيء عليهم،

    وليس لهم فيها مصلحة،

    لأنهم إن كان قصدهم معرفة الحق إذا تبين دليله،

    فقد تبين دليله بدونها،

    وإن كان قصدهم التعجيز وإقامة العذر لأنفسهم،

    إن لم يأت بما طلبوا فإنهم بهذه الحالة

    - على فرض إتيان ما طلبوا من الآيات - لا يؤمنون قطعا،

    فلو جاءتهم كل آية، لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.




    ولهذا قال الله عنهم:

    { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ }

    أي: كناقة صالح، وعصا موسى، ونحو ذلك.



    قال الله:

    { مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا }

    أي: بهذه الآيات المقترحة،

    وإنما سنته تقتضي أن من طلبها، ثم حصلت له،

    فلم يؤمن أن يعاجله بالعقوبة.

    فالأولون ما آمنوا بها، أفيؤمن هؤلاء بها؟

    ما الذي فضلهم على أولئك،

    وما الخير الذي فيهم، يقتضي الإيمان عند وجودها؟

    وهذا الاستفهام بمعنى النفي،

    أي: لا يكون ذلك منهم أبدا.


    الحمد لله رب العالمين

  15. #315

    افتراضي

    ( 227 )


    من سورة الأنبياء


    { لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ
    أَفَلَا تَعْقِلُونَ }


    { 10 }

    لقد أنزلنا إليكم - أيها المرسل إليهم، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب -

    كتابا جليلا، وقرآنا مبينا { فِيهِ ذِكْرُكُمْ }

    أي: شرفكم وفخركم وارتفاعكم،

    إن تذكرتم به ما فيه من الأخبار الصادقة فاعتقدتموها،

    وامتثلتم ما فيه من الأوامر، واجتنبتم ما فيه من النواهي،

    ارتفع قدركم، وعظم أمركم،


    { أَفَلَا تَعْقِلُونَ }

    ما ينفعكم وما يضركم؟

    كيف لا ترضون ولا تعملون على ما فيه ذكركم وشرفكم

    في الدنيا والآخرة،

    فلو كان لكم عقل، لسلكتم هذا السبيل،

    فلما لم تسلكوه، وسلكتم غيره من الطرق،

    التي فيها ضعتكم وخستكم في الدنيا والآخرة وشقاوتكم فيهما،

    علم أنه ليس لكم معقول صحيح، ولا رأي رجيح.


    وهذه الآية، مصداقها ما وقع،

    فإن المؤمنين بالرسول، الذين تذكروا بالقرآن،

    من الصحابة، فمن بعدهم،

    حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر،

    والصيت العظيم، والشرف على الملوك،

    ما هو أمر معلوم لكل أحد، كما أنه معلوم ما حصل،

    لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا،

    ولم يهتد به ويتزك به،

    من المقت والضعة، والتدسية، والشقاوة،


    فلا سبيل إلى سعادة الدنيا والآخرة

    إلا بالتذكر بهذا الكتاب.


    الحمد لله رب العالمين

  16. #316

    افتراضي

    ( 228 )


    من سورة الأنبياء


    { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ

    وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ *

    وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

    وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ *

    يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ }

    { 18 - 20 ْ}


    يخبر تعالى أنه تكفل بإحقاق الحق وإبطال الباطل،

    وإن كل باطل قيل وجودل به،

    فإن الله ينزل من الحق والعلم والبيان، ما يدمغه، فيضمحل،

    ويتبين لكل أحد بطلانه

    { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } أي: مضمحل، فانٍ،

    وهذا عام في جميع المسائل الدينية،

    لا يورد مبطل، شبهة، عقلية ولا نقلية،

    في إحقاق باطل، أو رد حق،

    إلا وفي أدلة الله، من القواطع العقلية والنقلية،

    ما يذهب ذلك القول الباطل ويقمعه

    فإذا هو متبين بطلانه لكل أحد.



    وهذا يتبين باستقراء المسائل، مسألة مسألة،

    فإنك تجدها كذلك،


    ثم قال: { وَلَكُمْ } أيها الواصفون الله، بما لا يليق به،

    من اتخاذ الولد والصاحبة، ومن الأنداد والشركاء،

    حظكم من ذلك، ونصيبكم الذي تدركون به

    { الْوَيْلُ } والندامة والخسران.


    ليس لكم مما قلتم فائدة، ولا يرجع عليكم بعائدة تؤملونها،

    وتعملون لأجلها، وتسعون في الوصول إليها،

    إلا عكس مقصودكم، وهو الخيبة والحرمان،


    ثم أخبر أنه له ملك السماوات والأرض وما بينهما،

    فالكل عبيده ومماليكه،

    فليس لأحد منهم ملك ولا قسط من الملك،

    ولا معاونة عليه، ولا يشفع إلا بإذن الله،

    فكيف يتخذ من هؤلاء آلهة
    وكيف يجعل لله منها ولد؟!

    فتعالى وتقدس، المالك العظيم،

    الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الصعاب،

    وخشعت له الملائكة المقربون،

    وأذعنوا له بالعبادة الدائمة المستمرة أجمعون،



    ولهذا قال: { وَمَنْ عِنْدَهُ } أي من الملائكة

    { لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ }

    أي: لا يملون ولا يسأمونها، لشدة رغبتهم،

    وكمال محبتهم، وقوة أبدانهم.


    { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ }

    أي: مستغرقين في العبادة والتسبيح في جميع أوقاتهم

    فليس في أوقاتهم وقت فارغ ولا خال منها

    وهم على كثرتهم بهذه الصفة،


    وفي هذا من بيان عظمته وجلالة سلطانه

    وكمال علمه وحكمته،

    ما يوجب أن لا يعبد إلا هو،

    ولا تصرف العبادة لغيره.
    الحمد لله رب العالمين

  17. #317

    افتراضي

    ( 229 )


    من سورة الأنبياء



    { أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ *

    لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا

    فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ *

    لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ *

    أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ

    هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي

    بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ *

    وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ

    أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }
    { 21 - 25 ْ}


    لما بيَّن تعالى كمال اقتداره وعظمته، وخضوع كل شيء له،

    أنكر على المشركين الذين اتخذوا من دون الله آلهة من الأرض،

    في غاية العجز وعدم القدرة

    { هُمْ يُنْشِرُونَ } استفهام بمعنى النفي،

    أي: لا يقدرون على نشرهم وحشرهم،


    يفسرها قوله تعالى:

    { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ *

    وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا

    وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا }


    { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ*

    لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ }


    فالمشرك يعبد المخلوق، الذي لا ينفع ولا يضر،

    ويدع الإخلاص لله،

    الذي له الكمال كله وبيده الأمر والنفع والضر،

    وهذا من عدم توفيقه، وسوء حظه،

    وتوفر جهله، وشدة ظلمه،

    فإنه لا يصلح الوجود، إلا على إله واحد،

    كما أنه لم يوجد، إلا برب واحد.


    ولهذا قال: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا } أي: في السماوات والأرض

    { آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } في ذاتهما، وفسد من فيهما من المخلوقات.


    وبيان ذلك:

    أن العالم العلوي والسفلي على ما يرى،

    في أكمل ما يكون من الصلاح والانتظام،

    الذي ما فيه خلل ولا عيب، ولا ممانعة، ولا معارضة،

    فدل ذلك،

    على أن مدبره واحد، وربه واحد، وإلهه واحد،

    فلو كان له مدبران وربان أو أكثر من ذلك،

    لاختل نظامه، وتقوضت أركانه فإنهما يتمانعان ويتعارضان،

    وإذا أراد أحدهما تدبير شيء، وأراد الآخر عدمه،

    فإنه محال وجود مرادهما معا،

    ووجود مراد أحدهما دون الآخر،

    يدل على عجز الآخر، وعدم اقتداره


    واتفاقهما على مراد واحد في جميع الأمور، غير ممكن،


    فإذًا يتعين أن القاهر الذي يوجد مراده وحده،

    من غير ممانع ولا مدافع،

    هو الله الواحد القهار،


    ولهذا ذكر الله دليل التمانع في قوله:

    { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ

    إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ

    سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ }


    ومنه - على أحد التأويلين - قوله تعالى:

    { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ

    إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا

    سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا }

    الحمد لله رب العالمين

  18. #318

    افتراضي

    ولهذا قال هنا:

    { فَسُبْحَانَ اللَّهِ } أي: تنـزه وتقدس عن كل نقص لكماله وحده،

    { رَبُّ الْعَرْشِ } الذي هو سقف المخلوقات وأوسعها، وأعظمها،

    فربوبية ما دونه من باب أولى،

    { عَمَّا يَصِفُونَ } أي: الجاحدون الكافرون، من اتخاذ الولد والصاحبة،

    وأن يكون له شريك بوجه من الوجوه.


    { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ }

    لعظمته وعزته، وكمال قدرته،

    لا يقدر أحد أن يمانعه أو يعارضه، لا بقول، ولا بفعل،

    ولكمال حكمته ووضعه الأشياء مواضعها، وإتقانها،

    أحسن كل شيء يقدره العقل، فلا يتوجه إليه سؤال،

    لأن خلقه ليس فيه خلل ولا إخلال.


    { وَهُمْ } أي: المخلوقين كلهم

    { يُسْأَلُونَ } عن أفعالهم وأقوالهم، لعجزهم وفقرهم، ولكونهم عبيدا،

    قد استحقت أفعالهم وحركاتهم

    فليس لهم من التصرف والتدبير في أنفسهم، ولا في غيرهم، مثقال ذرة.



    ثم رجع إلى تهجين حال المشركين،

    وأنهم اتخذوا من دونه آلهة فقل لهم موبخا ومقرعا:


    { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ }

    أي: حجتكم ودليلكم على صحة ما ذهبتم إليه،

    ولن يجدوا لذلك سبيلا،

    بل قد قامت الأدلة القطعية على بطلانه،


    ولهذا قال: { هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي }

    أي: قد اتفقت الكتب والشرائع على صحة ما قلت لكم، من إبطال الشرك،

    فهذا كتاب الله الذي فيه ذكر كل شيء، بأدلته العقلية والنقلية،

    وهذه الكتب السابقة كلها، براهين وأدلة لما قلت.


    ولما علم أنهم قامت عليهم الحجة والبرهان على بطلان ما ذهبوا إليه،

    علم أنه لا برهان لهم،

    لأن البرهان القاطع، يجزم أنه لا معارض له، وإلا لم يكن قطعيا،

    وإن وجد في معارضات، فإنها شبه لا تغني من الحق شيئا.


    وقوله: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ }

    أي: وإنما أقاموا على ما هم عليه، تقليدا لأسلافهم يجادلون بغير علم ولا هدى،

    وليس عدم علمهم بالحق لخفائه وغموضه، وإنما ذلك، لإعراضهم عنه،

    وإلا فلو التفتوا إليه أدنى التفات،

    لتبين لهم الحق من الباطل تبينا واضحا جليا

    ولهذا قال: { فَهُمْ مُعْرِضُونَ }


    ولما حول تعالى على ذكر المتقدمين، وأمر بالرجوع إليهم في بيان هذه المسألة،

    بيَّنها أتم تبيين في قوله:


    { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ

    أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }

    فكل الرسل الذين من قبلك مع كتبهم،

    زبدة رسالتهم وأصلها،

    الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له،

    وبيان أنه الإله الحق المعبود،

    وأن عبادة ما سواه باطلة.

    الحمد لله رب العالمين

  19. #319

    افتراضي

    ( 230 )

    من سورة الأنبياء

    { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا

    سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *

    لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ *

    يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ

    وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ *

    وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ

    فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }


    { 26 - 29 ْ}


    يخبر تعالى عن سفاهة المشركين المكذبين للرسول،

    وأنهم زعموا - قبحهم الله - أن الله اتخذ ولدا فقالوا:

    الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم،


    وأخبر عن وصف الملائكة، بأنهم عبيد مربوبون مدبرون،

    ليس لهم من الأمر شيء، وإنما هم مكرمون عند الله،

    قد أكرمهم الله، وصيرهم من عبيد كرامته ورحمته،

    وذلك لما خصهم به من الفضائل والتطهير عن الرذائل،

    وأنهم في غاية الأدب مع الله، والامتثال لأوامره.


    فـ { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ }

    أي: لا يقولون قولا مما يتعلق بتدبير المملكة، حتى يقول الله،

    لكمال أدبهم، وعلمهم بكمال حكمته وعلمه.


    { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }

    أي: مهما أمرهم، امتثلوا لأمره،

    ومهما دبرهم عليه، فعلوه،

    فلا يعصونه طرفة عين،

    ولا يكون لهم عمل بأهواء أنفسهم من دون أمر الله،

    ومع هذا، فالله قد أحاط بهم علمه،


    فعلم { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }

    أي: أمورهم الماضية والمستقبلة، فلا خروج لهم عن علمه،

    كما لا خروج لهم عن أمره وتدبيره.

    ومن جزئيات وصفهم، بأنهم لا يسبقونه بالقول،

    أنهم لا يشفعون لأحد بدون إذنه ورضاه،

    فإذا أذن لهم، وارتضى من يشفعون فيه، شفعوا فيه،

    ولكنه تعالى لا يرضى من القول والعمل،

    إلا ما كان خالصا لوجهه، متبعا فيه الرسول،


    وهذه الآية من أدلة إثبات الشفاعة،

    وأن الملائكة يشفعون.


    { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ }

    أي: خائفون وجلون، قد خضعوا لجلاله،

    وعنت وجوههم لعزه وجماله.


    فلما بين أنه لا حق لهم في الألوهية،

    ولا يستحقون شيئا من العبودية

    بما وصفهم به من الصفات المقتضية لذلك،

    ذكر أيضا أنه لا حظ لهم، ولا بمجرد الدعوى،

    وأن من قال منهم:

    { إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ } على سبيل الفرض والتنزل

    { فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }


    وأي ظلم أعظم من ادعاء المخلوق الناقص،

    الفقير إلى الله من جميع الوجوه

    مشاركة الله في خصائص الإلهية والربوبية؟"

    الحمد لله رب العالمين

  20. #320

    افتراضي

    ( 231 )


    من سورة الأنبياء


    { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا

    أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ

    وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ْ}

    { 36 }


    وهذا من شدة كفرهم،

    فإن المشركين إذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،

    استهزأوا به وقالوا:

    { أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ْ}

    أي: هذا المحتقر بزعمهم، الذي يسب آلهتكم ويذمها، ويقع فيها،

    أي: فلا تبالوا به، ولا تحتفلوا به.


    هذا استهزاؤهم واحتقارهم له، بما هو من كماله،

    فإنه الأكمل الأفضل الذي من فضائله ومكارمه،

    إخلاص العبادة لله،

    وذم كل ما يعبد من دونه وتنقصه، وذكر محله ومكانته،


    ولكن محل الازدراء والاستهزاء، هؤلاء الكفار،

    الذين جمعوا كل خلق ذميم،

    ولو لم يكن إلا كفرهم بالرب وجحدهم لرسله

    فصاروا بذلك من أخس الخلق وأرذلهم،

    ومع هذا فذكرهم للرحمن، الذي هو أعلى حالاتهم، كافرون بها،

    لأنهم لا يذكرونه ولا يؤمنون به إلا وهم مشركون

    فذكرهم كفر وشرك، فكيف بأحوالهم بعد ذلك؟


    ولهذا قال: { وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ْ}


    وفي ذكر اسمه { الرَّحْمَنِ ْ} هنا،

    بيان لقباحة حالهم،

    وأنهم كيف قابلوا الرحمن

    - مسدي النعم كلها، ودافع النقم

    الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه،

    ولا يدفع السوء إلا إياه -

    بالكفر والشرك.
    الحمد لله رب العالمين

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •