بسم الله وبعد :
فقد كثر الطعن في أحاديث الصحيحين أو أحدهما من طرف المتطاولين من المتعالمين ، في المجالس والمدونات ، والنوادي والمنتديات ، حتى تلك التي تدعي أنها على مذهب السنة وطريقة السلف .
ولست الآن في مقام تبيين جلالة هذين الكتابين الذيْن اتفقت الأمة على قبولهما وتصحيح أحاديثهما، وجلالة إماميهما البخاري ومسلم رحمة الله عليهما ، فقد كتب السلف والخلف من ذلك الكثير والكثير ، مما يروى الغليل ويشفي العليل ، ونقلوا من ذلك الكثير من الإجماعات .
ويكفي أن نشير إلى ما قاله بن الصلاح : " وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز"، قال النووي :" باتفاق العلماء "، وقال ابن حجر :" اقتضى كلام ابن الصلاح أن العلماء متفقون على القول بأفضلية البخاري في الصحة على كتاب مسلم ، إلا ما حكاه عن أبي على النيسابوري : ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم .."
وإني والله لأستحي أن وصلنا إلى زمان حتى يأتي فيه أمثالي للذب عن أحاديث هذيْن الكتابين الجليليْن العظيميْن الذيْن هما عمدة الإسلام وسنن رسول أهل الإسلام .
لكن من باب الاضطرار أولا ، ثم لكثرة المتعالمين المتنطعين ، الطعانين في سنن رسول رب العالمين ، بالدعاوي الباردة العارية عن التبيين .
فمرة يردون الأحاديث بدعوى الاضطراب في مخارجها، أو وجود علل في إسناديها أو في متونها، وتارة بعدم اتصالها أو شذوذها ، ومرة بتفرد رواتها ...
وقد بلغ بهم التنطع مبلغا خطيرا وشرا مستطيرا، فاق تنطع سلفهم من أهل البدع والإلحاد، الرادين لأخبار الآحاد، ومفاريد الثقات والأفراد، حيث وصل بهم الغلو إلى رد ما تفردت به الصحابة رضي الله عنها ، بل إلى الطعن فيهم أو في حفظهم .
وحسبوا ألا يكون فتح هذا البابِ فتنةً عليهم فكتبوا وأخبروا ، وفرحوا بما اكتشفوا ونشروا ، وظنوا أن لا يبين ضلالهم أحد ، ولا يرد عن عَوَارهم عبْدٌ لِله الصمد ، واستحسنوا أن يطعنوا هُمْ في صحاح الأحاديث والأخبار ، لكن من غير أن يأتيهم ردّ أو إنكار ، بينما هم يَصُولُون طعنا، ويجُولون شتما ، مرة في الأحاديث ومتونها ، وأخرى في الأسانيد ورواتها ,..
ألا فكما فتحوا على أنفسهم باب الطعن والنقد في صحيح السنن، فلينتظروا هم سهام النقد دفاعا عن السنن ، أو ليتقوا الله في ما صح من السنن .
وليس فتح باب الطعن في الصحيحين، ورد أخبار الثقات من المؤمنين، من مسائل الاجتهاد اليسيرة ، بل هو من مسائل الإجماع الخطيرة ، التي مآلها إلى إنكار الأصول الكثيرة، في هذه الشريعة المحفوظة اليسيرة .
وقد كنت كتبت في المنتديات طائفة من الردود المتفرقة في الطعن على أحاديث الصحيحين ،
وإني بعون الله تعالى سأجمعها في مباحث مستقلة أبتدئها بهذ الحديث :
قال كاتبه وقد عنون عنوانا كبيرا على هذا الرابط http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=339435
[تضعيف الحديث ( 770 ) في (( صحيح مسلم )) ؟!]
روى مسلم في (( صحيحه )) ( 770 ) من حديث عكرمة بن عمار قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف قال: سألت عائشة أم المؤمنين بأي شيء كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت: كان إذا قام من الليل افتتح صلاته: (( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )).

علَّق الحافظ ابن عمّار الشهيد ( ت 323 هـ ) على هذا الحديث في كتابه عن (( علل الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم )) قائلاً: هو حديث تفرد به عكرمة بن عمار عن يحيى، وهو مضطرب في حديث يحيى بن أبي كثير؛ يقال: أنه ليس عنده كتاب .
وحدثني أحمد بن أبي الفضل المكي: حدثنا صالح بن أحمد: حدثنا علي؛ قال: سألت يحيى ( يعني : القطان ) عن أحاديث عكرمة بن عمار ( يعني يحيى بن كثير )؟ فضعفها، وقال: (( ليست بصحاح )).
وأخبرنا أحمد بن حمود؛ قال: سمعت أبا زرعة الدمشقي يقول: سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - يقول : (( رواية عكرمة بن عمار وأيوب بن عتبة عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة )). اهـ.
وأشار ابن رجب إلى تضعيف الإمام أحمد لهذه الرواية في (( شرح علل ابن رجب )).

ونقل الحافظ ابن عَدِيّ ( ت 365 هـ ) في (( الكامل في الضعفاء وعِلَل الحديث )) عن البخاري قال: عكرمة مضطرب في حديث يحيى بن أبي كثير، ولم يكن عنده كتاب. اهـ.
قال أبو معاوية البيروتي: والحديث بحثتُ عنه منذ سنين ولم أجد له طريقاً آخر إلا من رواية عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير! ولم أجد كلاماً لمحدِّث العصر الألباني في نقده إلا قوله في (( صحيح أبي داود )) ( 3 / 354 / ط. غراس ): هذا إسناد حسن إن شاء الله تعالى؛ وهو على شرط مسلم؛ وقد
أخرجه كما يأتي؛ وفي عكرمة- وهو: ابن عمار- كلام من قبل حفظه. اهـ.
وبفضل الله أعطاني أحد المشايخ – جزاه الله خيراً - اليوم في ( 6 شوال 1435 هـ ) رسالة وصلته من الشيخ عصام هادي يجيبه فيها عن هذا الحديث، قال: قد سألت شيخنا الألباني رحمه الله، فقلت له بأني رأيتُ بحثاً لحسان عبد المنان أعلَّ هذا الحديث بتفرّد عكرمة عن يحيى، والأئمة على تضعيف روايته عنه، فقال شيخنا الألباني رحمه الله: (( إنْ كان حقًّا قد تفرّد به فكلامه صحيح )). اهـ. وأجاز الشيخ عصام نشر كلامه جزاه الله خيراً " اهـ
أقول : في هذا مسائل:
1/ ذكر من صححه من الأئمة مع الإمام مسلم :
هذا الحديث صححه مسلم وقد كان ينتقي من أحاديث الشيوخ صحيح حديثهم، وكذلك صححه الحافظ أبو عوانة في مستخرجه الصحيح على مسلم (2/41)، والحافظ أبو نعيم في مستخرجه الصحيح على مسلم .
وكذلك حسنه الترمذي ، وصححه ابن خزيمة في صحيحه (1153) ، وصححه ابن حبان (2600)، وسكت عنه ابو داود محسنا له .
وقال البغوي في شرح السنة : هذا حديث صحيح أخرجه مسلم، عن محمد بن المثنى، وغيره ".
وصححه ابن كثير في تفسيره .
وخرجه ابن ماجه 1357 - حدثنا عبد الرحمن بن عمر نا عمر اليمامي به ، ثم قال:
قال عبد الرحمن بن عمر: احفظوه: جبرئيل مهموزة، فإنه كذا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا رواي الحديث احتج به وهو اعلم بما روى .
وصححه الألباني في كتبه، وما نقله المذكور عن الشيخ فهو نقل ضعيف منكر، فكيف نترك تصحيحات الألباني في كتبه ثم نسارع لرواية مجهول عن مجهول من أجل الطعن في حديث صحيح متفق عليه .
م2/ ما قيل عن انقطاعه : فهو ادعاء باطل ، فقد قال عكرمة بن عمار في كثير من الطرق : ثنا يحيى ثنا أبو سلمة رضي الله عنه قال: سألت عائشة رضي الله عنه
3/ تسارعهم للتعليل بدعوى تفرد عكرمة بن عمار وهو لين : ويجاب عنه بأوجه :
. أن الإمام مسلم أعلم بحاله منهم ، وقد كان ينتقي من أحاديث الشيوخ هذا أولا.
وثانيا : أن عكرمة بن عمار ليس لينا مطلقا ، بل تكلم بعضهم لا كلهم في بعض رواياته عن يحيى ،
وقد وثقه مطلقا كل من ابن معين وقال : ثقة تبت ، وكذلك الساجي وقال :" صدوق وثقه احمد ويحيى إلا أن يحيى بن سعيد ضعفه في احاديثه عن يحيى بن أبي كثير وقدم ملازما عليه ، وقال: عكرمة بن عمار ثقة عندهم وروى عنه ابن مهدي ما سمعت فيه إلا خيرا"‘ فكأنه لم يلتفت إلى قول من لينه في شيخه يحيى .
وقال الساجي في موضع آخر: هو اثبت من ملازم وهو شيخ أهل اليمامة .
وقال علي بن محمد الطنافسي ثنا وكيع عن عكرمة بن عمار وكان ثقة ".
وقال الدارقطني" ثقة،
وقال عاصم بن علي كان مستجاب الدعوة ..،
وقال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتا,
وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن صالح: أنا اقول إنه ثقة واحتج به وبقوله ".
وليس بقول من لينه في يحية بأولى من قول من وثقه من هؤلاء.
. أن من لينه فإنما نسبيا : وهذا يعني أنه يغلط في بعض الأحاديث عن يحيى واياس ، لا كلها ، وقد روى عنه هذا الحديث جماعة من الجلة والثقات لم يختلفوا فيه مما يدل على ضبطه هنا ، وهو ما علمه الإمام مسلم ومن معه من الأئمة ، وخفي على المتطاولين على الصحاح .
. فقد قال الإمام أبو حاتم : كان صدوقا وربما وهم في حديثه وربما دلس وفي حديثه عن يحيى بن أبي كثير بعض الاغاليط "،
وهذا يعني أنه لم يغلط في كل الأحاديث عن يحيى بل في بعضها ، ومسلم أعلم به من غيره وقد انتقى عنه .
4/ أن ما نسبوه إلى الإمام أحمد فهو جهل محض، فقد كان الإمام احمد قبل الإمامين البخاري ومسلم ، وأما منذ زمنهما وما بعده فقد اتفقت الأمة على تلقي الكتابين بالقبول ، وكل متونهما صحاح، وإنما علل من علل في الأسانيد والاختلاف في الوصل والإرسال، وأما المتون فصحاح ،
فما بال اقوال يعنونون عناوين عريضة " حديث ضعيف في صحيح ... " فليتقوا الله ، وليفتشوا في تحريف الكتب السماوية ، لا في كتب المسلمين الصحاح .
5/ أن ما نسبوه إلى ابن عدي فهو كذب عليه، فإنه بعد أن تتبع - ابن عدي- أحاديثه، ثم قال :" ولعكرمة بن عمار غير ما ذكرت من الحديث، وهو مستقيم الحديث إذا روى عنه ثقة".
فليتق الله الصغار، في صحيح مسلم .
6/ وأما ما كان من شأن بعضهم إنكار مفاريد الثقات واخبار الآحاد: وهذا حديث تفرد به عكرمة عن يحيى ويحيى تفرد عن ...
فهذا شان أهل البدع والضلال الراجين لأخبار الآحاد ومفاريد الثقات ، وليتحملوا سوء مذهبهم وخبث طويتهم عبئا ثقيلا أمام الله تعالى .