الحمد لله وحده وبعد: فهذه وجهة نظر عجلى في مسألة الأخبار بليلة القدر سواء قبل ورودها –كرؤيا أو علامتها المقارنة- أو بعد ذهاب الليلة -كشعاع الشمس-.
من حيث الأصل يشرع للمرء الأخبار بما يغلب على ظنه أنه ليلة القدر بالعلامة أو برؤيا وهذا ما تسنده ظواهر النصوص.


1-ومن ذلك حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال : "اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر الأول من رمضان واعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا صبيحة عشرين من رمضان فقال: "من كان اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فليرجع، فإني أريت ليلة القدر، وإني نسيتها، وإنها في العشر الأواخر، في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء" وكان سقف المسجد جريد النخل، وما نرى في السماء شيئا، فجاءت قزعة، فأمطرنا، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته تصديق رؤياه" وفي لفظ: "فوكف المسجد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة إحدى وعشرين" هذه ألفاظ البخاري والحديث متفق عليه.

ففي الخبر أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم "إن الذي تطلب أمامك" فأخبره بأنه لم يصب ليلة القدر بعد، ثم في آخر الخبر ذكر الرؤيا وأنه يسجد في صبيحتها في طين وماء، وكان هذا الإخبار للرؤيا في خطبة كما في سياق الحديث " فقام خطيباً" والمجامع العامة كالخطبة يحضرها عادة متفاوتوا الهمم ، والصحابة رضي الله عنهم فيهم المقتصد وفيهم المسابق بالخيرات وإن كان الغالب عليهم المسابقة "ثلة من الأولين وقليل من الآخرين" "ثلة من الأولين وثلة من الآخرين" وخبر " والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا" ولم يخبره إلا بالفرائض، بل حديث أبي سعيد نفسه يتضمن دلالة على هذا "من كان اعتكف مع النبي فليرجع" فلم يعتكف الجميع لتطلب ليلة القدر !
الحاصل أن الإخبار بشأن الرؤيا كان في مجمع عام وهذا هو المقصود ولم يراعِ النبي صلى الله عليه وسلم ما يورده البعض من أن الإخبار بذلك يبعث على ضعف الهمم وتثبيط الناس.

2-ومن ذلك تطلب الصحابة رضي الله عنهم لتعيينها ففي مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : (تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنة") وتذاكرهم كما يوحيه جواب النبي صلى الله عليه وسلم هو تباحث في تعيينها.
ومن تطلب الصحابة أيضاً: ما أخرجه أبو داود عن عبد الله بن أنيس،قال: كنت في مجلس بني سلمة وأنا أصغرهم، فقالوا:: من يسأل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، وذلك صبيحة إحدى وعشرين من رمضان؟ فخرجت فوافيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب، ثم قمت بباب بيته، فمر بي فقال: "ادخل" ، فدخلت فأتي بعشائه، فرآني أكف عنه من قلته، فلما فرغ، قال: "ناولني نعلي" فقام وقمت معه، فقال: "كأن لك حاجة" ، قلت: أجل، أرسلني إليك رهط من بني سلمة، يسألونك عن ليلة القدر، فقال: "كم الليلة؟" فقلت: اثنتان وعشرون، قال: "هي الليلة" ، ثم رجع، فقال: "أو القابلة" ، يريد ليلة ثلاث وعشرين. قال الألباني: حسن صحيح.

3-ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم "خرج مرة يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان فرفعت" متفق عليه، الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم همّ بالإخبار بها وهو لا يهم إلا بمشروع.

4-ولو كان الشارع لا يريد هذا المعنى لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها في آخر العشر وفي الأوتار منها؛ إذ في تحديدها في العشر تثبيط عن النشاط في أول رمضان ووسطه وكل رمضان فاضل وموسم تجارة وإن كان بعضه أفضل من بعض، كما أن ليالي العشر بعضها أفضل من بعض، بل وليل رمضان أفضل من نهاره كما قرره غير واحد ، وابن رجب في اللطائف – فيما أذكر- نص على أن قراءة القرآن في الليل أفضل من النهار.
الحاصل أن علة التثبيط موجودة في العشر الأولى والثانية ومع هذا لم تراعها الشريعة وكل ما يقال من مصالح في عدم الإخبار بليلة القدر لقصد بعث الهمم طوال ليالي العشر هي مصالح موجودة أيضاً في العشر الأولى والوسطى من رمضان ومع ذلك لم تلفت إليها الشريعة.

5-كما أن علة التثبيط متحققة بالأمارة التي أرشدنا إليها صلى الله عليه وسلم "تطلع الشمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها" رواه مسلم. فمن تابع هذه العلامة اللاحقة لليلة القدر وتحقق منها، لن يكون نشاطه فيما يستقبل من الليالي كمثل نشاطه فيما مضى إلا من وفقه الله لا حرمنا الله توفيقه وفضله.

6-ومن مصالح الإخبار بها أن من الناس من لا تنشط همته لكل العشر بتاتاً وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا راجع إما لعذرٍ كَكِبر أو عجزٍ "فمنهم مقتصد"، وفي الإخبار بها حث لجنس هؤلاء على شد العزم في الليلة المظنونة، وهذا الأمر تسنده جملة من النصوص، فمن ذلك ما جاء في الصحيح "فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي" رواه مسلم.
ومن ذلك ما أخرجه أبو داود عن عبدالله بن أنيس قال: قلت: يا رسول الله، إن لي بادية أكون فيها، وأنا أصلي فيها بحمد الله، فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد، فقال: "انزل ليلة ثلاث وعشرين" قال الألباني: حسن صحيح.
ومنه أيضاً: ما أخرجه أحمد في مسنده عن عبد الله بن عباس، أن رجلا، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله إني شيخ كبير عليل، يشق علي القيام، فأمرني بليلة لعل الله يوفقني فيها لليلة القدر. قال: " عليك بالسابعة " قال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط البخاري.
فأن يجتهد المعذور أو المقتصد في بعض ليالي العشر خير من أن يترك الجميع. ومراعاة هذا الجنس من الناس مقصد شرعي تسنده النصوص المذكورة آنفاً.

ومع هذا فينبغي ألا يقع خلاف في صورتين:
الصورة الأولى: مُسابق بالخيرات، لن يزيده الإخبار إلا مزيد عبادة في الليلة المظنونة، بحيث لا تُؤثر زيادته في الليلة المظنونة على مسابقته في الليالي الأخرى.
الصورة الثاني: مقتصد في الطاعة لعذر أو عجز، إذا أُخبر بالليلة المظنونة كان ذلك عاملاً على بعث نشاطه وهمته.
هاتان الصورتان ينبغي ألا يقع خلاف في مشروعية إخبارهم.
بقي صورة ثالثة، وهي برزخ بين الأولى والثانية، بحيث لو لم يخبر لنشط في الليالي كلها، أما إذا أخبر فيلحقه كسل وعجز فيما بقي، فهل يخبر أو لا؟
ظواهر النصوص السابقة لم تفرق، وهي أحبّ إليَّ من حيث الأصل.
ولمن يذهب إلى إعمال الاستحسان هنا وجه اتكاءً على "فخلهم يعملون" "لا تبشر الناس فيتكلوا"، وهذا هو دافع الصحابي ابن مسعود فيما نقل عنه أبي كعب رضي الله عنهم ، فعن زر بن حبيش، أنه قال: سألت أبي بن كعب رضي الله عنه، فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر؟ فقال رحمه الله: أراد أن لا يتكل الناس، أما إنه قد علم أنها في رمضان، وأنها في العشر الأواخر، وأنها ليلة سبع وعشرين، ثم حلف لا يستثني، أنها ليلة سبع وعشرين، فقلت: بأي شيء تقول ذلك؟ يا أبا المنذر، قال: بالعلامة، أو بالآية التي "أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ، لا شعاع لها" رواه مسلم.
وهذه الصورة هي في ظني محل ما نقله النووي وابن حجر.
ونص عبارة النووي : (قال صحاب الحاوي: يستحب لمن رأى ليلة القدر أن يكتمها).
ونص عبارة ابن حجر: (واستنبط السبكي الكبير في الحلبيات من هذه القصة استحباب كتمان ليلة القدر لمن رآها قال ووجه الدلالة أن الله قدر لنبيه أنه لم يخبر بها والخير كله فيما قدر له فيستحب اتباعه في ذلك وذكر في شرح المنهاج ذلك عن الحاوي قال والحكمة فيه أنها كرامة والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلاف بين أهل الطريق من جهة رؤية النفس فلا يأمن السلب ومن جهة أن لا يأمن الرياء ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر لله بالنظر إليها وذكرها للناس ومن جهة أنه لا يأمن الحسد فيوقع غيره في المحذور). على أن الحِكَم التي سِيقت هنا تبين أنَّ المنزع في استحباب الكتمان غير الذي نحن فيه !

وهل يفرق في الإخبار بين العلامات السابقة والمقارنة من جهة وبين العلامات اللاحقة من جهة أخرى؟
أما من يذهب إلى إعمال الاستحسان، فعلى أصله ينبغي أنْ يتأكد الكتمان في العلامات اللاحقة، لأنه لا يتحقق من الإخبار بها تحفيز، فقد مضت الليلة وجفت الأقلام، ولم يبق إلا "فخلهم يعملون" ليدركوا فضل ما بقي من الليالي.
وأما ظواهر النصوص فهي لا تفرق بين السابقة والمقارنة من جهة وبين اللاحقة، فالنبي صلى الله عليه وسلم خطب يخبر الناس بعلامة لاحقة وهو أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين.
كما أنه صلى الله عليه وسلم في خبر الشمس وشعاعها أرشدهم لعلامة لاحقة.

لا حرمنا الله فضله ورضوانه، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



وكتبه: نايف بن علي القفاري
صبيحة الخميس 28/9/1433
مكة شرفها الله