الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.


مما انتشر بين كثير من الناس، أن ليلة القدر هذا العام هي ليلة إحدى وعشرين؛ بحجة أن القمر كان في تلك الليلة على هيئة شِقِّ جفنة (نصف دائرة كما فسره أكثرهم).


والحديث الوارد في ذلك حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ وَابْنُ أَبِى عُمَرَ قَالاَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ - وَهُوَ الْفَزَارِىُّ - عَنْ يَزِيدَ - وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ - عَنْ أَبِى حَازِمٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ تَذَاكَرْنَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ ».
قوله : ( شق جفنة ) الشق هو النصف ، والجفنة القصعة ، قال القاضي عياض : فيه إشارة إلى أنها إنما تكون في أواخر الشهر لأن القمر لا يكون كذلك عند طلوعه إلا في أواخر الشهر .


والراجح من أقوال أهل العلم جمعاً بين الأدلة أن ليلة القدر ليست ثابتة في ليلة بعينها بل تتنقل بين الليالي كل عام، فقد تكون في أول العشر أو آخرها، وإن كانت أرجى في الليالي الوترية، وأرجى تلك الليالي ليلة سبع وعشرين.


ومعلوم أن القمر في آخر الشهر لن يكون على هيئة نصف القصعة أبداً إذ يكون محاق أو قد يختفي تماماً كما في ليلة تسع وعشرين. وإذا أخذنا بظاهر مدلول هذا الحديث أن القمر في ليلة القدر يكون على هيئة نصف دائرة، فيلزم أن ليلة القدر لا تكون إلى عند رأس الربع الأخير من الشهر أي ليلة إحدى وعشرين.


وبناء على هذا، الذي يظهر لي أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: « أَيُّكُمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ الْقَمَرُ وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَةٍ »، إنما هو تذكير وعلامة للصحابة لليلة التي كانت ليلة القدر في تلك السنة، وليست علامة دائمة لليلة القدر في كل عام، والله أعلم.


ومثل ذلك علامةُ السجود على ماء وطين في صبيحة ليلة القدر الواردة في هذا الحديث:
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوْسَطِ مِنْ رَمَضَانَ . فَاعْتَكَفَ عَامًا , حَتَّى إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ - وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيحَتِهَا مِنْ اعْتِكَافِهِ - قَالَ : مَنْ اعْتَكَفَ مَعِي فَلْيَعْتَكِفْ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ فَقَدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ . ثُمَّ أُنْسِيتُهَا , وَقَدْ رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا . فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ . وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ .
فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ . وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلَى عَرِيشٍ . فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ , فَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الْمَاءِ وَالطِّينِ مِنْ صُبْحِ إحْدَى وَعِشْرِينَ .


إذ أن نزول المطر وسجوده ﷺ على ماء وطين علامة خاصة بليلة القدر في ذلك العام بعينه، وليس في كل الأعوام، والله أعلم.


ولليلة القدر علامات أخرى يستدل بها عليها، منها ما يثبت، ومنها ما لا يثبت، فمن العلامات الثابتة:
1- كثرة عدد الملائكة فيها, وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله قال في ليلة القدر: "وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى.
2- صبيحة ليلة القدر تطلع الشمس لا شعاع لها كأنها طست حتى ترتفع.
3- ليلة القدر ليلة بلجة لا حارة ولا باردة ولا يرمى فيها بنجم، ومن علامة يومها تطلع الشمس لا شعاع لها.
4- ليلة القدر ليلة سمحة طلقة لا حارة ولا باردة تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء.
5- الطمأنينة: أي طمأنينة القلب, وانشراح الصدر من المؤمن, فإنه يجد راحة وطمأنينة وانشراح صدر في تلك الليلة أكثر من مما يجده في بقية اللياليز
6- أن الإنسان يجد في القيام لذة أكثر مما في غيرها من الليالي.


وهذه العلامات لا يدركها كل أحد، ولا يشترط للإنسان أن يعرف أي ليلة هي ليلة القدر حتى ينال ثوابها، بل قد يكون من الذين قاموا ليلة القدر إيماناً واحتساباً وهو لا يعرف أي ليلة هي، وهذه هي الحكمة من إخفاء ليلة القدر حتى يجتهد الإنسان في الطاعات ويسابق في الخيرات في كل ليالي العشر.


أسأل الله لنا ولكم الإخلاص والقبول والعفو والرضى والرضوان والفوز بالفردوس الأعلى من الجنان والتوفيق لما يحبه ربنا ويرضاه.


وكتبه
أبو عبدالرحمن
د. عمرو بن أحمد جمال