ليلة القدر ليلةٌ مباركة لها فضل عظيم، إذ أنزل الله فيها كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ .وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ .لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ .سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).
وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن ويتدارسه مع جبريل عليه السلام في رمضان، وتدارسه مع جبريل مرتين في آخر رمضان من حياته صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الليلة يفرق كل أمر حكيم كما قال تعالى:
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ.فِي َا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدخان :3 ، 4]
فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ:كثي ة الخير والبركة، وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فأنزل أفضل الكلام بأفضل الليالي والأيام على أفضل الأنام، بلغة العرب الكرام، لينذر به قوما عمتهم الجهالة، وغلبت عليهم الشقاوة، فيستضيئوا بنوره، ويقتبسوا من هداه، ويسيروا وراءه، فيحصل لهم الخير الدنيوي والخير الأخروي.
ولهذا قال: { إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا } أي: في تلك الليل الفاضلة التي نزل فيها القرآن.
{ يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أي: يفصل ويميز ويكتب كل أمر قدري وشرعي حكم الله به، وهذه الكتابة والفرقان الذي يكون في ليلة القدر أحد الكتابات التي تكتب وتميز فتطابق الكتاب الأول الذي كتب الله به مقادير الخلائق وآجالهم وأرزاقهم وأعمالهم وأحوالهم، ثم إن الله تعالى قد وكل ملائكة تكتب ما سيجري على العبد وهو في بطن أمه، ثم وكلهم بعد وجوده إلى الدنيا وكل به كراما كاتبين يكتبون ويحفظون عليه أعماله، ثم إنه تعالى يقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة، وكل هذا من تمام علمه وكمال حكمته وإتقان حفظه واعتنائه تعالى بخلقه.
انتهى من تفسير الشيخ ابن سعدي رحمه الله.
وهي: " لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ"، كما ثبت عند النسائي وغيره.
ولذا حث الشرع على قيام هذه الليلة إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه".
كما رغب أمته صلى الله عليه وسلم بتحريها في ألفاظ متعددة مثل:
تحينوا، تحروا، التمسوها، اطلبوها.
ولهذا كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، كما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها.
ولقد كان من اعتناء أئمتنا في أمر هذه الله أن صنف الحافظ العراقي رحمه الله رسالة مستقلة باسم "شرح الصدر بذكر ليلة القدر" كما اعتنى الحافظ البيهقي رحمه الله بها في كتابه "فضائل الأوقات".
وأما تحديدها فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رآها في المنام، ثم أيقظه بعض أهله فنسيها، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال:
اعتكف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له فلما انقضين أمر بالبناء فقوض ثم أبينت له أنها فى العشر الأواخر فأمر بالبناء فأعيد ثم خرج على الناس فقال:
"يا أيها الناس إنها كانت أبينت لى ليلة القدر، وإنى خرجت لأخبركم بها فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فنسيتها، فالتمسوها فى العشر الأواخر من رمضان، التمسوها فى التاسعة والسابعة والخامسة".
ولذلك كان يحث رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسها في العشر الأواخر فقال:
" الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى" رواه البخاري.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْمَنَامِ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ فِي السَّبْعِ الأَوَاخِرِ فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيَهَا فَلْيَتَحَرَّهَ ا فِي السَّبْعِ الأَوَاخِر.رواه البخاري ـ
. وأما أقوال أهل العلم في تحديدها فهي على سبعة وأربعين قولاً ذكرها الحفظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري.
أما هل تكون الليالي باعتبار القادم أو باعتبار ما مضى من الليالي فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان هكذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"هي في العشر الأواخر من رمضان".
وتكون في الوتر منها.
لكن الوتر يكون باعتبار الماضي، فتطلب ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين.
ويكون باعتبار ما بقي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لتاسعة تبقى، لسابعة تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى".
فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الأشفاع.
وتكون الاثنين وعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى.
وهكذا فسره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح.
وهكذا أقام النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر.
وإن كان الشهر تسعا وعشرين، كان التاريخ بالباقي.
كالتاريخ الماضي.
وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"تحروها في العشر الأواخر"وتكون في السبع الأواخر أكثر، وأكثر ما تكون ليلة سبع وعشرين كما كان أبي بن كعب يحلف أنها ليلة سبع وعشرين، فقيل له: بأي شيء علمت ذلك؟ فقال بالآية التي أخبرنا رسول الله، أخبرنا أن الشمس تطلع صبحة صبيحتها كالطشت، لا شعاع لها".
فهذه العلامة التي رواها أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم من أشهر العلامات في الحديث، وقد روي في علاماتها: "أنها ليلة بلجة منيرة"وهي ساكنة لا قوية الحر، ولا قوية البرد، وقد يكشفها الله لبعض الناس في المنام، أو اليقظة، فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له هذه ليلة القدر، وقد يفتح على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر.
انتهى من الفتاوى الكبرى (2 / 475-476) وانظر الاختيارات الفقهية (1 / 462).
وما سيق يترجح أنها كما تدل عليه الأدلة كونها في رمضان وفي العشر الأواخر منه ولله تعالى أعلم.
وأما إخفاؤها فالحكمة من ذلك والله أعلم أن في ذلك خيرًا للأمة، إذ هذا أدعى للاعتناء بقيام كل الشهر، والاعتناء أكثر بالعشر الأواخر، وبالوتر منها، بخلاف ما لو عرفت بعينها، إذ يحصل الاتكال بقيام هذه الليلة بعينها فقط.
وهذا ما يشعرنا به قوله صلى الله عليه وسلم عندما أراد إخبار الصحابة عنها فرفعت بسبب الصحابة، حيث جاء في البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال:
" إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم التمسوها في السبع والتسع والخمس"
فقوله صلى الله عليه وسلم:" وعسى أن يكون خيرًا لك: معناه عسى أن يكون إخفاؤها خير لكم للحث على الاجتهادـ، والجد في القيام والعبادة.
ولقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أم المؤمنين إلى الدعاء في هذه الليلة المباركة بأن تقول: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
جعلني الله وإياكم من الذين لا يحرمون خير هذه الليلة، وأجر قيامها، وجمع الله قلوب المسلمين في أنحاء المعمورة على كلمة التوحيد، وعلى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابتنا من القول والعمل والاعتقاد.
والله أسأل أن ينصر من نصر دينه، وأن يخذل كل من عاداه، وأن يرد كيدهم في نحورهم.
والحمد لله رب العالمين.
http://www.sunnah.org.sa/ar/sunnah-sciences/variety-scientific-articles/107-2010-08-29-20-11-09/3504-2013-08-03-12-41-36