ما شاء الله ، موفق بإذن بالله .
ما شاء الله ، موفق بإذن بالله .
وفي آياتٍ أُخر
ذكر تقييد الانتفاع برضى الله،
واتخاذ الشافع والمشفوع له عهداً عند الله،
قال تعالى:
{ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى
وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ *
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ
فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ
كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }
[ الانبياء: 28،29 ]،
وقال:
{ لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ
إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً }
[ مريم: 87 ].
وقال:
{ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ
إِلَّا
مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ
وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً }
[ طه: 109 ]،
وآيات أخر
لا تخفى على من تتبع ما في الباب من آيات،
فإذا تبين أن الله –تبارك وتعالى-
قد نفى في كتابه شفاعة،
وأثبت شفاعة،
وجب على طالب الحق
أن ينظر في هذه الشفاعة المنفية،
والشفاعة المثبتة،
ومعنى هذه وهذه،
حتى لا يضل في هذا الأمر
الذي ضل فيه فئام من أمة محمد،
وإنما كان سبب ضلالهم
أن كل فرقة أخذت بآية،
وبنت عليها أحكاماً
ولم تتتبَّع آيات الشفاعة في القرآن،
فضربوا كتاب الله بعضه ببعض،
والقرآن حق كله،
والحق لا يناقض حقاً أبداً.
فالآيات الأولى
دلت على أن هناك شفاعةً منفية
ليست لأحدٍ من الخلق،
وهذه الشفاعة
هي ذاك النوع الذي يظنه المشركون
في الجاهليات،
وأولئك المشركون ظنوا
أن الشفاعة عند الله ،
كالشفاعة عند غيره،
وهذا أصل ضلال النصارى أيضاً.
فمن ظن أن الشفاعة المعهودة
من الخلق للخلق
تنفع عند الله،
مثل:
أن يشفع الإنسان
عند من يرجوه المشفوع إليه
أو يخافه،
كما يشفع عند الملك ابنه،
أو أخوه، أو أعوانه،
أو نظراؤه الذين يخافهم ويرجوهم،
فيُجيب سؤالهم،
لأجل رجائه أو خوفه منهم،
أو أن لهم حقاً عنده
يوجب عليه الإجابة
فيمن يشفعون فيه عنده،
وإن كان يكره شفاعتهم،
ويشفعون بغير إذنه.
فهذه الشفاعة
هي التي نفاها الله
- جل وعلا-
في الآيات الأولى،
وهي أن يكون للشافع حق عند الله
كما للشفعاء حق عند الملوك ونحوهم.
وهذا النوع هو الشركي
الذي أشرك به من أشرك بالله،
واتخذ وسائط يسألهم الشفاعة،
كما كان يفعله النصارى،
وأشباههم في ذلك من هذه الأمة،
ويعتقدون أن لهم أن يسألوا المقبورين
من الأنبياء والصالحين شفاعتهم،
وهم يعتقدون أن لهم حقاً عند الله
به يجيب شفاعتهم
ولا يرد شفاعتهم.
وهذا غلط:
فإن دعاء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- قد يُرَد،
وليس كل ما دعوا به أُجيب،
بل ربما امتنعت إجابتهم
لحكمة يعلمها الله
- عز وجل-،
إما أنه قد سبق في القضاء ما يخالف ما دعوا به،
أو لأنهم دعوا وشفعوا فيمن لم يرض الله قوله،
أو نحو ذلك من الموانع.
ومن المتقرر في الكتاب والسنة
أن الأنبياء ليس لهم حق
في أن يجاب جميع ما دعوا به،
ودعاؤهم حري بالإجابة
وهم أرفع من غيرهم من أممهم،
فإجابة سؤالهم إما إعطاؤهم عين ما سألوا،
أو تأخير ذلك بالأجر الجزيل لهم.
وقد يستنكر بعض الناس هذا
لكونه لم يرتوِ من علوم الكتاب والسنة،
ولم يتفقه فيها،
ولذا سأسوق بعض الدلائل
لعلّها تكُفُّ بعض الناس،
وتبصِّر أقواماً:
فرسول الله صلى الله عليه وسلم
قد قال الله له:
{ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً
فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ }
[ التوبة: 80 ]،
فرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم
- وهو خير الخلق
وأعظمهم قدراً عند الله–
لو استغفر لأولئك المنافقين
لم يغفر لهم،
وذلك لوجود مانع يمنع الإجابة،
وهو أن المُسْتَغْفَر له غير مرضي عنه،
فشرط الرضى غير متحقق في المشفوع له؛
فلم يُجب الداعي فيما سأل،
وفي الآية بيان لهذا
بقوله:
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ }،
وقد تمتنع إجابة الله للرسول
صلى الله عليه وسلم
لحكمة يعلمها الله
- جل وعلا-
كما في الحديث الذي أخرجه مسلم
في "صحيحه"
(8/171-172)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( سألت ربي ثلاثاً فأعطاني ثنتين،
ومنعني واحدة:
سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها،
وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها،
وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم
فمنعنيها ).
وأورد الحافظ ابن حجر
في "فتح الباري"
قول بعض شراح المصابيح:
(اعلم أن جميع دعوات الأنبياء مستجابة)
فتعقبه بقوله
(11/97):
(وأما جزمه بأن جميع أدعيتهم مستجابة
فيه غفلة عن الحديث الصحيح:
سألت الله ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعنى واحدة..الحديث)
انتهى كلام الحافظ(1).
<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<
(1):لعل شارح المصابيح اعتمد في قوله
على ما روي عن عائشة في حديثٍ: (وكل نبي مجاب)
وهو حديث ضعيف؛
ولذا لم يعرج الحافظ عليه بالاستدلال، فتنبه.
وأخرج البخاري (11/96)
ومسلم (1/130-132)
عن أبي هريرة وأنس بن مالك
ومسلم نحوه عن جابر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها،
وأريد أن أختبىء دعوتي
شفاعة لأمتي في الآخرة )،
هذا لفظ نسخة الأعرج عن أبي هريرة.
قال الحافظ في "الفتح":
(وقد استشكل ظاهر الحديث
بما وقع لكثير من الأنبياء من الدعوات المجابة
ولا سيما نبينا صلى الله عليه وسلم،
وظاهره أن لكل نبي دعوة مستجابة فقط،
والجواب:
أن المراد بالإجابة
في الدعوة المذكورة القطع بها،
وما عدا ذلك من دعواتهم
فهو على رجاء الإجابة ) اهـ.
وعلى هذا جرى أهل العلم وشراح الحديث،
وقال الكَرْماني
في"شرح البخاري"(22/122)
عند شرح الحديث:
( معناه لكل نبي دعوة مجابة البتة،
وهو على يقين من إجابتها،
وأما باقي دعواتهم
فهو على رجاء إجابتها،
وبعضها يجاب
وبعضها لا يجاب )
انتهى.
وكذلك غيره من الأنبياء
لهم دعوة مستجابة،
وما كل ما دعوا به أجيب،
فهذا نوح قال:
{ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي
وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ *
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ
فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
[ هود: 45،46 ]
فسأل نوح ربه الشفاعة في ابنه
فلم يعطها؛
لأنه فقد شرط الرضى على الابن،
ولذا قال:
{ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }.
وهذا إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم
لم تنفع شفاعته في أبيه،
وأمثال هذا معلوم
لمن تدبر القرآن والسنة،
مقرر فيهما أوضح تقرير وأبلغه،
فإذا انتفى هذا عن الأنبياء،
فالصالحون أولى وأولى.
وبعض الخُلوف الجُهال
يظنون أن للأنبياء حقاً عند ربهم لا يرد،
ولا يعلمون بهذه الآيات والأحاديث،
وذلك من تسويل الشيطان
وتلاعبه بهم.
قال ابن جرير في تفسير آية البقرة:
{ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ }
[ البقرة: 123 ]:
(فتأويل الآية إذاً:
واتقوا يوماً لا تقضي نفس عن نفس حقاً
لزمها لله –جل ثناؤه- ولا لغيره،
ولا يقبل الله منها شفاعة شافع،
فيترك لها ما لزمها من حق.
وقيل:
إن الله - عز وجل- خاطب أهل هذه الآية
بما خاطبهم بها فيها؛
لأنهم كانوا من يهود بني إسرائيل،
وكانوا يقولون:
نحن أبناء الله وأحباؤه وأولاد أنبيائه،
وسيشفع لنا عنده آباؤنا،
فأخبرهم الله - عز وجل -
أن نفساً لا تجزي عن نفس شيئاً في القيامة،
ولا يقبل منها شفاعةُ أحدٍ فيها،
حتى يستوفي لكل ذي حق منها حقه )(1) انتهى.
<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<<
(1) : (2/32) ط. الأستاذ محمود شاكر.
والطائفة الثانية من الآيات
أفادت إثبات الشفاعة،
وهي الشفاعة الشرعية
المخالفة لما عليه المشركون.
وأخبر الله - تعالى - أنها لا تنفع
إلا بشرطين:
الأول:
إذنه سبحانه للشافع أن يشفع.
الثاني:
رضاه سبحانه عن المشفوع له.
وهذان الشرطان لازمان
لكل شفاعة ترجى منفعتها،
فأما الإذن:
فهو إذن الله – تعالى– للشافع،
ونكتة هذا القيد وسره
صرف الوجوه إلى الله
وإسلامها له
وتعلقها به ،
وترك تعلقها بغيره
لأجل الشفاعة ؛
لذلك يساق هذا بعد ذكر التوحيد
وذكر ما يدل على
وجوب عبادة الله وحده ،
وهذا الشرط لم يفهمه فئام من الناس،
ظنوا أن الاستثناء يفيد إثبات الشفاعة مطلقاً،
وطلبها من غير الله
فعادوا لما ظنه المشركون وقصدوه.