ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان :
أحدهما : أن يقولوا :
إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح ;
فالقبيح ما نهانا عنه الشرع ،
أما ما سكت عنه من البدع فليس بقبيح ،
بل قد يكون حسناً .
فهذا مما قد يقوله بعضهم .
ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان :
أحدهما : أن يقولوا :
إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح ;
فالقبيح ما نهانا عنه الشرع ،
أما ما سكت عنه من البدع فليس بقبيح ،
بل قد يكون حسناً .
فهذا مما قد يقوله بعضهم .
المقام الثاني :
أن يُقال عن بدعة سيئة ;
هذه بدعة حسنة ،
لأن فيها من المصلحة كيت وكيت ،
وهؤلاء المعارضون يقولون :
ليست كل بدعة ضلالة .
والجواب :
إما أن القول ( أن
شر الأمور محدثاتها ،
وأن كل محدثة بدعة ضلالة ،
وكل ضلالة في النار )
والتحذير من الأمور المحدثة ;
فهذا نص رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فلا يحل لأحد
أن يدفع دلالته
على ذم البدع ،
ومن نازع في دلالته فهو مراغم .
وأما المعارضات ،
فالجواب عنها بأحد قولين :
إما بأن يُقال :
ما ثبت حُسنه فليس من البدع ،
فيبقى العموم محفوظاً لا خصوص فيه .
وإما أن يُقال :
ما ثبت حُسنه فهو مخصوص من هذا العموم ،
فيبقى العموم محفوظاً لا خصوص فيه ،
وإما أن يقال :
ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم ;
والعام المخصوص دليل
فيما عدا صورة التخصيص ،
فمن اعتقد أن بعض البدع
مخصوص من هذا العموم
احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص ،
وإلا كان ذلك العموم اللفظي
موجباً للنهي .
ثم المخصص هو الأدلة الشرعية
من الكتاب والسنة والإجماع
نصاً واستنباطاً .
وأما عادة بعض البلاد أو أكثرها ،
وقول كثير من العلماء أو العباد
أو أكثرهم ونحو ذلك ;
فليس مما يصلح أن يكون معارضاً
لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم
حتى يُعارَض به .
ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن
مجمع عليها ،
بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها ;
فهو مخطئ في هذا الاعتقاد .
فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت
من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة.
ولا يجوز دعوى إجماع بعمل بلد
أو بلاد من بلدان المسلمين ،
فكيف بعمل طوائف منهم ؟ .
وإذا كان أكثر أهل العلم
لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة
وإجماعهم في عصر مالك ،
بل رأوا السنة حُجة عليهم ،
كما هي حجة على غيرهم ،
مع ما أوتوه من العلم والإيمان ;
فكيف يعتمد المؤمن العالم
على عادات أكثر من اعتادها عامة ،
أو مَن قيدته العامة ،
أو قوم مترئسون بالجهالة ،
لم يرسخوا في العلم ،
ولا يعدون من أولي الأمر ،
ولا يصلحون للشورى ،
ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله ،
أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة
قوم من أهل الفضل عن غير رويّة
أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها
أن يكونوا فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين ؟ .
والاحتجاج بمثل هذه الحجج ،
والجواب عنها معلوم أنه ليس طريقة أهل العلم ،
لكن لكثرة الجهالة
قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس ،
حتى من المنتسبين إلى العلم والدين ،
وقد يبدو لذوي العلم والدين فيها مستند آخر
من الأدلة الشرعية،
والله يعلم أن قوله بها وعلمه لها
ليس مستنداً آخر من الأدلة الشرعية ;
وإن كان شبهة،
وإنما هو مستند إلى أمور
ليست مأخوذة
عن الله ولا عن رسوله ،
من أنواع المستندات التي يستند إليها
غير أولي العلم والإيمان ،
وإنما يذكر الحجة الشرعية حجة على غيره ،
ودفعاً لما يناظره .
والمجادلة المحمودة :
إنما هي بإبداء المدارك ، وإظهار الحجج ،
التي هي مستند الأقوال والأعمال ،
وأما إظهار الاعتماد
على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل ،
فنوع من النفاق
في العلم والجدل والكلام والعمل .
وأيضاً :
لا يجوز حمل قوله صلى الله عليه وسلم
( كل بدعة ضلالة )
على البدعة التي نهى عنها بخصوصها ،
لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث ،
فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي ;
قد علم بذلك النهي أنه قد أبيح محرم ،
وسواء كان بدعة أو لم يكن بدعة ،
فإذا كان لا منكر في الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه ،
سواء كان مفعولاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أو لم يكن وما نهى عنه ;
فهو منكر ، سواء كان بدعة أو لم يكن ،
صار وصف البدعة عديم التأثير
لا يدل وجوده على القبح ،
ولا عدمه على الحسن ،
بل يكون قوله ( كل بدعة ضلالة ) ،
بمنزلة قوله ( كل عادة ضلالة ) ،
أو ( كل ما عليه العرب والعجم فهو ضلالة ) ،
ويراد بذلك أن ما نهي عنه من ذلك فهو الضلالة ،
وهذا تعطيل للنصوص
من نوع التحريف والإلحاد ;
ليس من نوع التأويل السائغ ،
وفيه من المفاسد أشياء .
أحدها :
سقوط الاعتماد على هذا الحديث ،
فإن ما علم أنه منهي عنه بخصوصه
فقد علم حكمه بذلك النهي ،
وما لم يعلم فلا يندرج في هذا الحديث ،
فلا يبقى في هذا الحديث فائدة ،
مع كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،
كان يخطب به في الجمع ،
ويعده من جوامع الكلم .
الثاني :
أن لفظ البدعة يكون اسماً عديم التأثير ،
فتعليق الحكم بهذا اللفظ أو المعنى
تعليق له بما لا تأثير له ;
كسائر الصفات العديمة التأثير .
الثالث :
أن الخطاب بمثل هذا
إذا لم يقصد إلا الوصف الآخر
– وهو كونه منهياً عنه –
كتمان لما يجب بيانه ،
وبيان لما لم يقصد ظاهره ،
فإن البدعة والنهي الخاص
بينهما عموم وخصوص ،
إذ ليس كل بدعة جاء عنها نهي خاص ،
وليس كل ما جاء فيه نهي خاص بدعة ،
فالتكلم بأحد الاسمين وإرادة الآخر ;
تلبيس محض ،
لا يسوغ للمتكلم إلا أن يكون مدلساً ،
كما لو قال ( الأسود ) وعني به الفرس
أو ( الفرس ) وعني به الأسود .
الرابع :
أن قوله ( كل بدعة ضلالة ،
وإياكم ومحدثات الأمور ) ،
إذا أراد بهذا ما فيه نهي خاص
كان قد أحالهم في معرفة المراد بهذا الحديث
على ما لا يكاد يحيط به أحد ،
ولا يحيط بأكثره إلا خواص الأمة ،
ومثل هذا
لا يجوز بحال .
الخامس :
أنه إذا أريد به ما فيه من النهي الخاص
كان ذلك أقل
مما ليس فيه نهي خاص من البدع ،
فإنك لو تأملت البدع التي نهي عنها بأعيانها ،
وما لم ينه عنها بأعيانها ;
وجدت هذا الضرب هو الأكثر ،
واللفظ العام
لا يجوز أن يُراد به
الصور القليلة أو النادرة .
فهذه الوجوه وغيرها ;
توجب القطع بأن
هذا التأويل فاسد ،
لا يجوز حمل الحديث عليه ،
سواء أراد المتأول أن يعضد التأويل بدليل صارف
أو لم يعضده ،
فإن على المتأول بيان جواز إرادة المعنى
الذي حمل الحديث عليه من ذلك الحديث ،
ثم بيان الدليل الصارف إلى ذلك .
وهذه الوجوه
تمنع جواز إرادة هذا المعنى بالحديث ،
فهذا الجواب
عن مقامهم الأول .
وأما مقامهم الثاني
فيقال :
هب أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح ،
فهذا القدر لا يمنع أن يكون هذا الحديث
دالاً على قبح الجميع ،
لكن أكثر ما يقال :
أنه إذا ثبت هذا حسن ;
يكون مستثنى من العموم ،
وإلا فالأصل
أن كل بدعة ضلالة .
فقد تبين أن الجواب عن كل ما يعارض به
من إنه حسن وهو بدعة ;
إما بأنه ليس بدعة ،
وإما بأنه مخصوص ،
فقد سلمت دلالة الحديث ،
وهذا الجواب
إنما هو عما ثبت حُسنه .
فأما أمور أخرى قد يُظن أنها حسنة
وليست بحسنة ،
أو أمور يجوز أن تكون حسنة ،
ويجوز أن لا تكون حسنة ;
فلا تصلح المعارضة بها ،
بل يجاب عنها بالجواب المركب ،
وهو :
إن ثبت أن هذا حسن فلا يكون بدعة ،
أو يكون مخصوصاً ،
وإن لم يثبت أنه حسن
فهو داخل في العموم .
وإذا عرفت أن الجواب عن هذه المعارضة
بأحد الجوابين فعلى التقديرين :
الدلالة من الحديث باقية ،
لا تُرَد بما ذكروا ،
ولا يحل لأحد
أن يقابل هذه الكلمة الجامعة
من رسول الله صلى الله وسلم الكلية ،
وهي قوله ( كل بدعة ضلالة )
بسلب عمومها ،
وهو أن يقال :
ليست كل بدعة ضلالة ،
فإن هذا إلى مشاقة الرسول
أقرب منه إلى التأويل .
بل الذي يقال فيما يثبت به حسن الأعمال ،
التي قد يقال هي بدعة ،
إن هذا العمل المعين مثلاً ليس ببدعة ،
فلا يندرج في الحديث ،
أو إن اندرج ;
لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا ،
الذي هو أقوى من العموم ،
مع أن الجواب الأول أجود .