حكم طبية في آيات الرضاع
بقلم الأستاذ الدكتور أمل بن إدريس بن الحسن العلمي
نشر بمجلة دعوة الحق العدد 347 رجب-شعبان 1420/ أكتوبر-نونبر 1999
* تمهيد : الإسلام دين الفطرة، أي دين النهج الرباني والدستور السماوي الذي ودعه الله في الكون والكائنات، ودل عليه بأنبيائه ورسله وكتبه، فجعله دين الإسلام والاستسلام للحق سبحانه وتعالى، وقوانينه ومشيئته من آدم إلى نبي الله ورسوله المصطفى الأمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بشر بالإسلام ، ملة إبراهيم حنيفا، والأنبياء من قبله، عليه وعليهم السلام...، فجاءت الرسالة المحمدية مكملة ومهيمنة على سائر الرسالات السماوية، وبموجب ذلك نسختها...، ومن ثم فالدينعند الله الإسلام...، « ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه». لذا أخذت على عاتقي البحث في الكتاب والسنة والشريعة عن قواعد لإرساء«طب إسلامي» (كما وضحت كل ذلك في كتابي «نحو طب الإسلامي»، مستمدا أصوله وروحه من الشريعة الإسلامية، فبينت على الخصوص مفهوم الطب الإسلامي وخصائصه ومقوماته، واستخلصت حتمية الحل الإسلامي في المجال الصحي...،وذكرت من بين خصائص ومقومات الطب الإسلامي خاصية أساسية أطلقت عليها «الطب الفطري» الذي ينبغي أن يساير به الطب فطرة الإنسان، كما خلقه الله عليها...، لا تبديل لخلق الله...، ومن الأمثلة الكثيرة في هذا الشأن نخص منها بالذكر الرضاع الطبيعي الذي يستجيب لسنة الله في خلقه، وندرسه ضمن الطب الفطري وفوائده الصحية، ويستأثر باهتمامنا في هذا البحث.
• فطريات الرضاع الطبيعي : يعد الرضاع عند بني الإنسان والحيوان جزءا لا يتجزأ من ظاهرة تناسل جميع الثدييات، وكل نوع من أصناف الحيوان له احتياجات خاصة به، فنلاحظ أن لكل صنف نوعا خاصا من الرضاع يناسب خاصيات وحاجات نسله، فحليب الأم يلبي وحده كل احتياجات الرضيع أثناء الأربع أو الستة الأشهر الأولى. وبعد ذلك يفتقر الرضيع إلى مواد غذائية إضافية، لكن حليب الأم يشكل في كل الحالات قاعدة ضرورية لنمو وتكوين متوازنين أثناء السنتين الأولى في حياة الطفل. وجاء في مقال تحت عنوان : «الرضاع (الطبيعي) عند المرأة : اختيار طبيعي» لكاتبه (م. كاربالو) بمجلة المنظمة العالمية للصحة («الصحة والعالم» في عددها لشهري غشت- شتنبر 1979 ص : 29-31) ما مفاده : «... رغم أن الرضاع الطبيعي يخضع لحدس الفطرة، يجب أن نلقنه ونشجع عليه، فالرضاع الطبيعي عند الأم المرضع يعد أولوية للأطفال الرضع في البلدان التي تشق طريق النمو، غير أن كل الأطفال الرضع يفتقرون لذلك مهما كانت بيئتهم الاجتماعية، لذا فإن الرضاع الطبيعي عند المرأة لا يخص مجموعة بشرية دون أخرى، لكنه يكون جزءا من آلية الحياة». وبين الباحث ما يخلفه عدم الرضاع الطبيعي من ارتفاع في نسبة موت الأطفال وحالة الأمراض لاسيما الجرثومية منها. ومن البديهي أن عدم الاستجابة للفطرة بالرضاع الطبيعي والمباشر بالثدي (أو الحيلولة دون الزواج المبكر أو الدعوى لعدم الحمل ) كل هذا وذاك يتنافى مع صحة المرأة وطبيعتها الأنثوية، ومن ثم تترتب عليها أضرار بصفة عامة، وفي حق المرأة المرضع والطفل على الخصوص. علاوة على ارتكاب ظلم في حق الطفل الرضيع؛ ففي الحالة الأولى التي تهمنا في هذا البحث؛ تعرضالأم نفسها لخطر سرطان الثدي، كما تعرض طفلها لأمراض بحرمانه من الحصانة الطبيعية الناشئة عن الرضاع الفطري، وهناك فوائد طبية كثيرة للرضاع الطبيعي، سنحاول استعراض بعض منها بإيجاز ضمن هذا البحث.
هذا، وإن الاسلام دين الفطرة، أولى الرضاع الفطري الطبيعي أهمية كبرى، وحث عليه في القرآن الكريم، وجعله حقا للطفل وواجبا على الآباء. وميل الأنثى لإرضاع الطفل شيء طبيعي إذ جبلت فطرتها على ذلك بوحي من الله. والقرآن الكريم يشير إلى ذلك في سورة القصص : (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإن خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني، إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين... ) آية: 7. وتنبهنا الآية الكريمة لأهمية الرضاع من ثدي الأم في حق سيدنا موسى...، فموسى الرضيع يرفض ثدي أي مرضع ولا يطيب له الرضاع حتى يلقى حضن أمه : (وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون، فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون... ) آية 12 من سورة القصص. فكان ذلك لإدخال الغبطة والسرور على نفس أم موسى كي تقر عينها بولدها لما يتيحه الرضاع من توثيقأواصل العطف والمحبة والحنان بين الرضيع ومرضعه...
• القرآن والرضاع الطبيعي :ومن المعلوم أن العرب لم تكن تسميالرضاع إلا ما كان من الثدي، أما ما عدا ذلك فهو رشف من زجاجة أطلق عليها في عصرنا رضاعة، خلافا للدلالة اللغوية العربية الأصيلة، لذا فإن كل الآيات القرآنية التي تتعرض للرضاع تدل على الرضاع الطبيعي، فجاء لفظ الرضاع ومشتقاته في القرآن الكريم في عدة سور وآيات، فنجد الألفاظ الآتية أرضعت، أرضعن، أرضعنكم، فسترضع، يرضعن، أرضعيه، تسترضعوا، الرضاعة، مرضعة، المراضع؛ وكلها تشير إلى الرضاع الطبيعي، وللمتأمل في تلك الآيات أن يلاحظ أن القرآن يحث على الرضاع، ويشجعه ويلفت النظر لفطريته وضرورته للطفل، ويعطيه أهمية قصوىإلى درجة يجعله في معرض الحديث عن هول يوم القيامة، وما يترتب عنه من ذهول...، ذهول حتى المرضع؛ بل كل مرضع عما أرضعت كما سنوضح كل ذلك.
• أفضلية حليب المرأة :أثبتت الدراسات العلمية أن حليب المرأة أفضل من الحليب الاصطناع، غير أن عناصره ودورها ومصيرها، كل ذلك يكاد يكون مجهولا بقدر كبير( 15- 13) ويشكل في عصرنا الحليب الاصطناعي بأنواعه المختلفة تقدما لما يتيحه من توفير وسائل تغذية الأطفال، ولقد استعملت عدة تقنيات في محاولة تقليد حليب المرضع الطبيعي، لكنها باءت كلها بالفشل، ويجزم الخبراء أنه يستحيل بتاتا صناعة حليب مطابق لحليب المرأة، انطلاقا من حليب البقر أو غيره. ويلاحظ هؤلاء الخبراء أن حليب المرأة على سبيل المثال، يحتوي خمسين نوعا من أنواع السكر المختلفة التركيب، من بينها ما لم يكشف بعد شكله الكيميائي، ويضيف هؤلاء أن تواجد هذا الكم الهائل من أنواع السكر في حليب المرضع ليس عبثاأو من قبيل الصدف، بل إن كل يلبي حاجات معينة ومضبوطة من حاجات جسم الطفل. وبين أحد العلماء الباحثين «ليستراديت» Lestradet كيف أن اختلاف مكونات الحليب البشري وحليب البقر يناسب بالضبط اختلاف تكوين ونمو الرضيع بالمقارنة معها عند العجل، إذ يضاعف العجل وزنه بعد الولادة في شهرين، أما الطفل فيضاعفه في خمسة أو ستة أشهر، وبذلك فإن حاجات العجل للمواد المشكلة (Plastiques للجسم، والمواد البروتينية، والأملاح المعدنية هي ثلاث أضعاف ما يحتاجه الطفل، فيطغى عند العجل نمو الجسد على نمو الرأس والدماغ، أما دماغ الطفل- خلافا لدماغ العجل- فينمو بسرعة مضاعفة بالمقارنة مع نمو وزنه، ويتطلب ذلك الحصول على بعض المواد المغذية، من بينها كلاكتوزات وأحماض دهنية من نوع خاص بمقادير مضاعفة عند الطفل لما عليه عند العجل، ولا يتوفر ذلك على أتمه إلا بالرضاع الطبيعي فكيف ذلك ؟
• لكل صنف حليبه :ويقرر كذلك العلم أن خصائص اللبن تختلف من حيوان لآخر، وبالنسبة للبن البشري، وكل لبن يناسب حاجات النوع الحيواني أو البشري الذي ينتمي إليه. إذ أن لبن كل نوع يناسب نمو صغار هذا النوع، بحيث لا توجد نفايات أيضية، أو بمعنى آخر، يمكن بمعرفة تركيب الحليب التعرف على نوع الحيوان الذي ينتمي إليه، ولنسق بعض الأمثلة لتوضيح هذا المفهوم : الفأر والأرنب يضاعفان وزنيهما الولادي في ستة أيام، ويضاعف العجل الرضيع الوزن في شهرين. أما الطفل الرضيع فيتطلب منه ذلك ستة أشهر، فيمكن أن نستخلص من هذا أن حاجات نمو القامة والوزن عند الفأر والأرنب والعجل أكبر بكثير منها عند الطفل، ولا سيما من البروتينات والأملاح المعدنية. وبالعكس من ذلك فإن دماغ العجل الصغير ينمو بسرعة أقل من سرعة نمو دماغ الطفل. إذا تكون حاجات العجل للمواد الضرورية لنمو الجهاز العصبي أقل بكثير منها عند الطفل: كلاكتوز- لاكتوز والأحماض الدسمة غير المشبعة الضرورية لتلفيف مادة المييلين حول محور الخلية العصبية. ومادة المييلين تعد مكونا أساسيا للجهاز العصبي. أما التحليل الكيميائي للألبان فيؤكد الافتراض السابق حول حاجات نمو القامة والوزن عند مختلف أنواع الحيوانات والنوع البشري. وعندما نراقب مختلف الحيوانات، نتبين أن فحوى الألبان من بروتينات وأملاح معدنية هي مناسبة لسرعة مضاعفة وزن الولادة. فإن ما في لبن البقر من بروتينات وأملاح معدنية يبلغثلاث مرات منها ما يوجد في لبن المرأة، إذ العجول تضاعف وزنها ثلاث مرات أسرع من الأطفال، وعلى عكس ذلك، فإن لبن المرأة الغني باللاكتوز والأحماض الدسمة غير المشبعة يناسب نمو دماغ الرضيع.