المسلم بين طول الأمل وبغتة الأجل

بسم الله الرحمن الرحيم

" الأمل يلهي ، والمطامع تغر ، والعمر يمضي ، والفرصة تضيع والأمل البراق ما يزال يخايل لهذا الإنسان وهو يجري وراءه ، وينشغل به ن و يستغرق فيه حتى يجاوز المنطقة الآمنة ، وحتى يغفل عن الله ، وعن القدر ، وعن الأجل وحتى ينسى أن هنالك واجبا ، وأن هنالك محظورا ، بل حتى لينسى أن هنالك إلها ، وأن هنالك موتا ، وأن هنالك نشورا ، وهذا هو الأمل القاتل " (1(
وإلا فهو مطبوع في جميع بني آدم ، ولولاه ما تهنى أحد بعيش ، ولا طابت نفسه أن يشرع في عمل من أعمال الدنيا . وإنما المذموم منه الاسترسال فيه ، وعدم الاستعداد لأمر الآخرة ، فمن سلم من ذلك لك يكلف بإزالته.
في صحيح البخاري(2) من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال :" خط النبي صلى الله عليه وسلم خطا مربعا ، وخط خطا في الوسط خارجا منه ، وخط خططا صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: هذا الإنسان وهذا أجله محيط به -أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله ، وهذه الخطط الصغار الأعراض ، فإن أخطأه هذا نهشه هذا ، وإن أخطأه هذا نهشه هذا "
" والمراد بالأعراض : الآفات العارضة له ، فإن سلم من هذا لم يسلم من هذا ، وإن سلم من الجميع ولم يصبه آفة من مرض ، أو فقد مال ، أو غير ذلك بغته الأجل . والحاصل أن من لم يمت بالسبب مات بالأجل "(3) تعددت الأسباب والموت واحد .
وفي الحديث إشارة إلى الحض على قصر الأمل ، والاستعداد لبغتة الأجل ، وعبر بالنهش وهو لدغ ذات السم مبالغة في الإصابة والإهلاك
والشاهد أن الإنسان تتجاوز آماله حدود أجله ، و يخترمه أجله دون أمله ، وقد أوضح النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى ، فعن جابر بن زيد -رضي الله عنه- قال: أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أعواد ، فغرس إلى جنبه واحدا ثم مشى قليلا ، فغرس آخر ثم مشى قليلا ، فغرس آخر ثم قال : هل تدرون ما هذا ؟ هذا مثل ابن آدم ، وأجله ، وأمله ، فنفسه تتوق إلى أمله ، ويخترمه أجله دون أمله "(4)
والحق سبحانه وتعالى نعى على بني إسرائيل حرصهم على الحياة -أي حياة- وطول الأمل فيها ، فقال :" ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون " البقرة 96
ود هؤلاء أن لو يعمر أحدهم ألف سنة - والمعنى طول المكث في الحياة - وذلك غير نافعه ، كما أن إبليس لم ينفعه طول عمره إذ كان كافرا.
وقال تعالى :" الر تلك ءايات الكتاب وقرءان المبين (1) ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (2) ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون (3) " الحجر 1_3
أي ذرهم يأكلوا و يتمتعوا و يلههم الأمل عن التوبة و الإنابة ، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم .
وطول الأمل له سببان (5): أحدهما حب الدنيا ، والآخر : الجهل
أما حب الدنيا : فهو أن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها و علائقها ، ثقل على قلبه مفارقتها ، فامتنع قلبه من الفكر
في الموت الذي هو سبب مفارقتها ، وكل من كره شيئا دفعه عن نفسه ، والإنسان مشغول بالأماني الباطلة ، فيمني نفسه أبدا بما يوافق مراده ، وإنما يوافق مراده البقاء في الدنيا، فلا يزال يتوهمه ويقدره في نفسه ، و يقدر توابع البقاء ، وما يحتاج إليه من مال ، وأهل ، ودار ، وأصدقاء ، ودواب ..... و سائر أسباب الدنيا .
فيصير قلبه عاكفا على هذا الفكر موقوفا عليه ، فيلهو عن ذكر الموت ، فلا يقدر قربه ، فإن خطر له في بعض الأحوال أمر الموت ، والحاجة إلى الاستعداد له سوف ، ووعد نفسه ، وقال : الأيام بين يديك إلى أن تكبر ، ثم تتوب ، وإذا كبر فيقول : إلى أن تصير شيخا ، فإذا صار شيخا قال : إلى أن تفرغ من بناء هذه الدار ، وعمارة هذه الضيعة ، أو ترجع من هذه السفرة ، أو تفرغ من تدبير هذا الولد ، وجهازه ، وتدبير مسكن له ..... إلخ -أغلب الناس لو سألتهم عن سبب انهماكهم في الحياة الدنيا لقالوا : نؤمن مستقبل أولادنا . ومن يؤمن مستقبلهم هم ؟! الإنسان تنتظره مخاوف عدة : من سكرات الموت ، وضمة قبر ، وسؤال ملكين ، و عرض مقعد ، وطول انتظار في أرض محشر ، ودنو شمس ، وإلجام عرق ، وزفرة نار ، وغضب جبار ، وتطاير صحف ، وميزان ، وصراط.....
وآخر ذلك إما إلى الجنة ، وإما إلى النار .
فمن يؤمن مستقبلك أيها الإنسان في هذه المواطن كلها غيرك !! - فلا يزال يسوف و يؤخر ، ولا يخوض في شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال ، إلى أن تخطفه المنية في وقت لم يحسبه فتطول عند ذلك حسرته، وأكثر أهل النار وصياحهم من (سوف) ، والمسكين لا يدري أن الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غدا ، وإنما يزاد بطول المدة قوة و رسوخا ، ويظن أنه يتصور أن يكون للخائض في الدنيا والحافظ لها فراغ قط ، و هيهات ، فما يفرغ منها إلا من طرحها .
وأما الجهل : فهو أن الإنسان قد يعول على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشباب ، و ليس يتفكر المسكين أن مشايخ بلده لو عدوا لكانوا أقل من عشر رجال البلد ، وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر .
وقد يستبعد الموت لصحته ، و يستبعد الموت فجأة ، و لا يدري أن ذلك غير بعيد ، فالموت ليس له وقت مخصوص من شباب ، و كهولة ، و صيف و شتاء ، و خريف و ربيع ، وليل ونهار ، ولكن الجهل بهذه الأمور ، وحب الدنيا ، و غواه إلى طول الأمل ، و إلى الغفلة عن تقدير الموت القريب فهو أبدا يظن أن الموت يكون بين يديه ، و لا يقدر نزوله به ، و وقوعه فيه ، وهو أبدا يظن أن يشيع الجنائز و لا يقدر أن يشيع جنازته ، لأن هذا قد تكرر عليه وألفه ، وهو مشاهدة موت غيره ، فأما موت نفسه فلم يألفه ، ولم يتصور أن يألفه فإنه لم يقع .
وإن عرفت أن سببه حب الدنيا ، و الجهل ، فعلاجه دفع سببه .
أما حب الدنيا فعلاجه إخراجه من القلب ، وهو الداء العضال الذي أعيا الأولين والآخرين ، ولا علاج له إلا بالإيمان باليوم الآخر ، و بما فيه من عظيم العقاب ، و جزيل الثواب ، فإذا حصل اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا ، فإن حب الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير .
وأما الجهل فيدفع بالفكر الصافي ، والحكمة البالغة .
وأعظم من هذا وذاك أن يعلم الإنسان أن لو متع من السنين ، ثم انقضى ذلك المتاع ، وجاءه العذاب ، أن ذلك المتاع الفائت لا ينفعه ، و لا يغني عنه شيئا بعد انقضائه وحلول العذاب محله ، وقد أوضح الله جل جلاله هذا المعنى في كتابه العزيز فقال :" أفبعذابنا يستعجلون(204 ( أفرايت إن متعناهم سنين (205) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون (206) ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون (207)" الشعراء 204-207
فقصر العمر لا يمنع من دخول الجنة ، كما أن طول العمر لا يمنع من دخول النار ، وإنما المحك في الأعمال من خير و شر ، و لذا كان الصالحون يقللون من الدنيا ، و يبادرون الموت لمعرفتهم ذلك .
عندما جاء ملك الموت إلى موسى -عليه السلام - فقال له : أجب ربك ، فلطم موسى -عليه السلام- عين ملك الموت ففقأها
فرجع الملك إلى الله فقال : إنك أرسلتني عبد لك لا يريد الموت ، وقد فقأ عيني فرد الله إليه عينه وقال : ارجع إلى عبدي فقل ك الحياة تريد ؟ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور ، فما توارت يدك من شعره فإنك تعيش بها سنة . قال موسى : ثم مه ؟ قال : ثم تموت . قال فالآن من قريب (6(
و نبينا -صلى الله عليه وسلم - لما خير بين الخلود في الدنيا ولقاء ربه ، آثر لقاء ربه ، وقال : " اللهم الرفيق الأعلى " (7(
و يتولد من طول الأمل خمسة أشياء : الكسل عن الطاعة والتسويف بالتوبة ، والرغبة في الدنيا ، والنسيان للآخرة ، والقسوة في القلب . لأن رقة القلب وصفاءه إنما تقع بتذكير الموت والقبر والثواب والعقاب و أهوال القيامة .
قال علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه- : إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى ، وطول الأمل . فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق ، وأما طول الأمل فينسى الآخرة ، ألا وإن الدنيا ارتحلت مدبرة ، وارتحلت الآخرة مقبلة ، ولكل واحد منهما بنون ، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، و غدا حساب ولا عمل .
ولكن الناس يلهثون وراء الدنيا ، ويمنون أنفسهم بالأماني الكاذبة ، ويكبرون وتكبر معهم أمانيهم ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "لا يزال قلب الكبير شابا في اثنين : في حب الدنيا ، وطول الأمل " (8(
وقال أيضا :" يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان : : حب الدنيا ، وطول العمر "(9(
مع أن الإنسان لو عمر عمر نوح ، وأعطي قوة عاد وثمود ن فلن يأخذ بهما فوق ما قدره الله له ، ولن يمنعاه من الموت ، فكان من تمام العقل البدار إلى الله ولقاءه ، والاستعداد لذلك باغتنام الحياة ، إذ هي وقت البدار ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- :" اغتنم خمسا قبل خمس ، شبابك قبل هرمك ، و صحتك قبل سقمك ، و غناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك "(10(
و لانعني بهذا أن يتبرهن الناس أو أن يجلسوا في البيوت ، و يدعوا الحياة ، فذلك غير مراد ، وإنما السير في الحياة ، والقيام بواجب الاستخلاف من غير تلج الحياة قلوب العباد ، والصحابة -جيل القدوة -جمعوا بين الاثنين ، العمل للدنيا والآخرة - في منظومة غير متنافرة لسان حالهم :" اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا " فصحت لهم الدنيا وكانوا فيها سادة ، وصحت لهم الآخرة ، وأثنى عليهم رب العباد سبحانه ، ورسوله- صلى الله عليه وسلم -
فحال المرء في الدنيا كعبد أرسله سيده في حاجة إلى غير بلده ، فشأنه أن يبادر بفعل ما أرسل فيه ثم يعود إلى وطنه ، ولا يتعلق بشيء غير ما هو فيه ، قال النبي-صلى الله عليه وسلم-
" كن في الدنيا كانك غريب أو عابر سبيل " (11(
دخل رجل على أبي ذر -رضي الله عنه - فجعل يقلب بصره في بيته فقال :" يا أب ذر أين متاعك ؟ فقال : إن لنا بيتا نتوجه إليه ، فقال: إنه لابد لك من متاع ما دمت هنا ، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا ههنا .
وقال سلمان الفارسي -رضي الله عنه - :" ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني : مؤمل الدنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس يغفل عنه ، وضاحك ملء فيه ولا يدري أساخط رب العالمين عليه أم راضي"
و كان الحسن يقول في موعظته : المبادرة المبادرة ، فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تترقبون بها إلى الله ، رحم الله امرأ نظر إلى نفسه ، وبكى على عدد ذنوبه .
وعوتب بعض الصالحين على كثرة العبادة ، فقال: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها ، وستكون ولا أكون فيها ، ولا أريد أن أغبن أيامي .
الحياة لا تتوقف لموت أحد مهما بلغ في عز السلطان والجاه ، وما هي إلا أيام ويطيه النسيان كما طواه التراب قبل ، وذلك في الأقربين فكيف في الأبعدين ، فاغتنم حياتك أيها المسكين ، واعمل ليوم تشيب فيه الولدان .
قال ابن القيم رحمه الله : "ما مضى من الدنيا أحلام ، وما بقي منها أماني ، والوقت ضائع بينهما "
أرى الدنيا لمن هي في يديه عذابا كلما كثرت لديه
تهين المكرمين لها بصغر وتكرم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه وخذ ما أنت محتاج إليه

طوبى لعبد بادر ساعته ، واستعد للقاء ربه ، وكان لسان حاله " وعجلت إليك رب لترضى " طه84
اللهم إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور ، ومن الضلالة بعد الهدى ، ومن المعصية بعد الطاعة ، فسددنا ، واهدنا ، واغفر لنا وتب علينا واجعلنا من الراشدين


بقلم : أبي صابر عاطف بن صابر شاهين
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية



نقلها لكم أخوكم
رضوان بن أحمد تولايت الجزائري الأزهري


----------------------------------------
(2)برقم (6417)
(3)الفتح (11/242)
(4) أخرجه وكيع في الزهد (2/437)،وأحمد في المسند(3/18) والرامهرمزي في الأمثال ص 170 من حديث ابي سعيد الخدري مرفوعا ، وحسن إسناده العراقي في "المغني" بهامش الإحياء (4/438)
(5) انظر إحياء علوم الدين (4/441)
(6) أخرجه البخاري (1339) ومسلم (2372) من حديث أبي هريرة
(7) أخرجه البخاري (6348) من حديث أم المؤمنين عائشة
(8) أخرجه البخاري (6420)
(9) أخرجه البخاري (6421)
(10) أخرجه الحاكم (4/306) وصححه ، ووافقه الذهبي ، وهو كما قالا
(11) أخرجه البخاري ((6416

http://www.merathdz.com/play.php?catsmktba=1552