حدُّ واقعة العين لغة واصطلاحًا:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بدعوته واستنّ بسنته إلى يوم الدين.
وبعدُ:
يقع كثيراً في إطلاقات الفقهاء والأصوليين، وبحثهم في دلائل الشرع وما يدخل فيها من المنع والمعارضة، اصطلاح واقعة عين، ومنهم من يقول: قضية عين أو قضية في عين، وبعضهم يطلق مصطلح: حكاية عين أو حكاية حال، ثم يتبعون هذا الإطلاق أو الاصطلاح بنفي العموم عنه.
ويقع هذا في الكلام على الأحاديث والآثار التي يحتج بها الخصم لمذهبه، فيدفع المعارض احتجاجه بالحديث والأثر، بعلة كونه واقعة عين أو حكاية حال لا عموم لها، وبالتالي: رد نفس الحديث الذى احتج به، من جهة نفي العموم عنه؛ أي: إن هذا الحديث في مدلوله لا يتناول مطلوب الخصم ومذهبه.
فلننظر قبل البحث في وقائع الأعيان وحكايات الأحوال، وهل يحكم عليها بسلب العموم عنها مطلقًا أو لا؟ في حد هذا الاصطلاح وتعريف هذا الإطلاق، لغة واصطلاحًا.
فالواقعة لغة: الحادثة النازلة، ومنه سميت القيامة بها في قوله تعالى: ﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ ﴾ [الواقعة 1][1].
والواقعة اصطلاحًا: الحادثة التي تحتاج إلى استنباط حكم شرعي لها، والواقعات: الفتاوى المستنبطة للحوادث المستجدة[2].
والحكاية: أن تفعل مثل ما يفعل الغير، أو تقول كقوله سواء، على صفته دون أن تجاوزه.
أصله: حكي، تقول: حاكيت فلانًا أو حكيته، وتطلق الحكاية ويراد بها: الواقعة، تقول: احتكى الشيء في صدري، أي وقع فيه.
وفى الحديث: (ألا أحكي لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟)؛ أي: أفعله كما فعله [3].
والعين في اللغة: لها معان كثيرة، والمراد منها هنا: نفس الشيء وشخصه وأصله، والجمع أعيان، وعين كل شيء: نفسه وحاضره وأصله[4].
والعين: الإنسان، ومنه: ما بها عين، أي أحد، ويقال: لأشراف الناس وأفاضلهم كالعلماء والأمراء ونحوهم: أعيان[5].
والحال: كذلك له معان منتشرة في اللغة، ولكن: المراد منه هنا: حال الدهر؛ أي: صروفه وحوادثه، والحال أيضا: الوقت الذى أنت فيه، وحال الإنسان: ما كان عليه من خير أو شر، والحال: الساعة والوقت الذى أنت فيه، ومنه قول الشاعر:
لو كنت أعقل حالي عقل ذى نظر
لكنت مشتغلاً بالوقت والحال
وقوله: لكنني بلذيذ العيش مغتبط
كأنما هو شهد شيب بالحال[6]
والقضية: جمع قضايا، أصله: قضي: وهو الحكم، والقضية: الحكومة، بمعنى: إحكامها وإمضائها[7].
فإذا قالوا: قضية عين أو في عين؛ أي: حكومة متعلقة في شخص بعينه، فلا تعم غيره.
وإذا قالوا: قضية حال، فالمراد: حكومة متعلقة في حالة أو حادثة أو ظرف ما، يتعلق بمعين أو معينين.
وحكاية الحال: أن تحكي واقعة أو حادثة نزلت في حال مختصة بمعين أو بمعينين، وقضي فيها بحكم ما، وواقعة العين نحوها، لكن: حكاية الحال أعم من وجه؛ لأنها قد لاتختص بمعين، بل تشمل أعيانًا آخرين اشتركوا في نفس الحال.
أي: إنها من قبيل عموم الخاص أو عموم الخصوص، ويسميه بعض الأصوليين: الخاص الإضافي.
فتحصل عندنا مصطلحان:
الأول: واقعة العين أي: الحادثة والنازلة المختصة بمعين، أو قضية العين؛ أي: الحكومة في تلك الواقعة المختصة بمعين، فهذه لا تعم.
الثاني: واقعة الحال؛ أي: الحادثة والنازلة المختصة بحال يختص بمعين أو بأشخاص معينين، وقضية الحال: الحكم أو الحكومة في تلك الواقعة، وحكاية الحال: أعم؛ أي: توصيف الناقل لتلك الواقعة والحادثة، ونقلها كما حدثت من غير زيادة ولا نقصان، سواء قضي فيها بحكم أم لا.
وهذه الثانية لا يتصور انتفاء العموم عنها مطلقًا، وإنما هى من الخاص الإضافي؛ أي: عموم الخاص.
وبيانه: أن واقعة أو قضية العين، تطرق انتفاء العموم إليها أقوى من واقعة أو حكاية الحال، بمعنى: أن واقعة العين في الأصل تختص بالشخص المعين الذى وقعت لأجله، فلا تعم في حكمها غيره، وهذا لابد فيه من ضوابط تضبطه، بحيث يقصر الحكم عليه، فإن الأصل في أحكام الشارع ونصوصه العموم، فإذا قام الدليل على عدم اختصاص الحكم في تلك الواقعة بهذا الشخص، فهو خاص بالنوع، فيعم والحالة هذه كل من كان نوعه وحاله، كنوع وحال من وردت لأجله الواقعة، وإلا فهو خاص بالشخص فلا يعم غيره.
أما حكاية الحال أو واقعة أو قضية الحال، فهي في الأصل تعم كل من كان نوع حاله كنوع حال ذلك المعين أو المعينين الذى وردت لأجلهم حكومة تلك الواقعة، إلا إن قام الدليل على اختصاص الحكم بهم دون غيرهم.
فيتحصل من ذلك أن الفرق بين واقعة الحال وواقعة العين من وجوه:
الأول: واقعة الحال أعم.
الثاني: واقعة الحال: الأصل فيها العموم في الأحوال والأنواع إلا بدليل، وواقعة العين على العكس؛ أي: إن الأصل فيها الاختصاص في الحكم بذلك المعين إلا بدليل.
الثالث: أن وقائع الأعيان نادرة، وحكايات الأحوال أكثر ورودًا.
ففى خبر تضحية البراء رضي الله عنه بالجذع من المعز، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (ضح بها ولا تصلح لغيرك)[8]، فهذا نص صريح يفيد أن هذه واقعة عين لا عموم لها، ونحوه خبر شهادة خزيمة وأنها تعدل شهادة رجلين[9]، فإن الأصل فيه أنه واقعة عين لا عموم لها، فيختص بشخصه إلا بدليل ولا دليل.
ونظيره حديث ابن أم مكتوم الأعمى السابق في العذر عن حضور الجماعة، وهو خاص به؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما لم يرخص له لعلمه بجلده، وقدرته على شهودها، فلم يرد حرمانه من الأجر، فإنه كان يستعمله على المدينة، وشهد القادسية وهي أشد، والعذر في ترك شهودها الثابت بنص الكتاب أظهر منه في شهود الجماعة، ألاترى أنه عليه السلام رخص لعتبان بن مالك الأعمى في الصلاة بمسجد داره، وترك الجماعة، مع أن ما ذكره من العذر من جنس عذر ابن أم مكتوم ولا فرق[10].
فى حين إن قصة هند في سؤالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جواز أخذها من مال أبي سفيان لشحته وكونه لا يعطيها من النفقة ما يكفيها وولدها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك)[11].
فهذا ليس واقعة عين، وإنما هو حكاية حال أو واقعة وقضية حال فلا تعم مطلقًا، ولا تختص بالشخص كواقعة العين، بل هى من الخاص النوعي، بمعنى أنه يعم في حكمه كل من كان نوع حاله كنوع حال هند.
ونظيره حديث جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر، فرأى زحاماً، ورجلاً قد ظلل عليه فقال: (ما هذا)؟ فقالوا: صائم، فقال: (ليس من البر الصوم في السفر)[12].
فهذا لا يختص بالشخص، ولا يعم مطلقًا كل صائم في السفر، إنما يختص بالنوع والحال، فيعم النهي كل من كان نوع حاله كنوع حال هذا الصائم الذى ورد بسببه الحديث؛ أي: إذا كان لا يطيق الصوم في السفر والحر[13]، وهذا مرجعه إلى قاعدة العام الوارد على سبب، هل يختص بسببه أم لا؟ وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية أن أحدًا من علماء المسلمين لم يقل أن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: أنها تختص بنوع ذلك الشخص فيعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ، قال: (والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا أو نهيا، فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت خبرا بمدح أو ذم، فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته أيضا)[14].
وهذا التعريف الذى هو نتيجة مدلول اللفظ لا يظهر أنه معتبر في استعمالات الفقهاء والأصوليين، وإطلاقاتهم واصطلاحًاتهم، ولا أظن أنهم يراعونه.
ومما سبق يمكن أن نصوغ حدًّا، يتعرف به على ماهية قضية العين أو واقعة العين، فهي:(الحكومة المتعلقة بحادثة تنزل في قضية تختص بشخص معين)، وحكاية أو واقعة الحال: (الحكومة التي تتعلق بحادثة تنزل في حال شخص معين أو أشخاص معينين).
وضوابط الحكم على خبر بكونه واقعة عين لا عموم لها:
الأول: التنصيص على الخصوصية والتصريح بها، كحديث البراء السابق في الأضحية بالحذع من المعز.
الثاني: التصريح باسم من يختص به الحكم، كخبر شهادة خزيمة السابق.[15]
الثالث: التصريح بنفي الحكم عما سوى المعين.
وأما ضوابط الحكم على الخبر بكونه واقعة حال، فلا تعم إلا في تلك الحال:
الأول: مجيء النص جوابا عن سؤال خاص بحالة خاصة، كحديث قصة هند السابق.
الثاني: التخصيص للحكم بزمان أو مكان معينين، فلا يعم إلا في تلك الأزمنة والأمكنة، كصيام البيض وعاشوراء ونحوها[16].
ومن الضوابط ما يكون مشتركا بين واقعة العين وحكاية الحال، وهو مخالفة الحكم في الواقعة والحكاية للأحكام المستقرة الثابتة في الشرع أو وروده في واقعة ولم يستمر العمل عليه[17].
وهذا بحسب ورود النص، فإن ورد في واقعة مختصة بمعين، حكم بكونه من وقائع الأعيان التي لا عموم لها؛ أي: إنه خاص بالشخص، كما سبق في حديث حذيفة في الأكل للصائم بعد الفجر، وإن ورد في واقعة أو حكاية حال، حكم بأنه من حكايات وقضايا الأحوال، فيعم في تلك الحال، أي إنه خاص بالنوع، وسيأتي له شواهد كثيرة، فإن غالب ما يدعى فيه من النصوص أنه واقعة عين، يكون في حقيقته من قضايا وحكايات الأحوال، وقد تبين الفرق بينهما واتضح أثره في قبول النصوص أو ردها.
ولابد من التأني في قبول دعوى من يدعى في خبر ثابت أنه واقعة عين لا عموم لها، فإنه إن لم تصح هذه الدعوى، كان ذلك ذريعة إلى رد الأخبار وتعطيل العمل بالآثار،[18] وفيه من الفساد ما سبق بيانه، كما أنه لابد من التأني في العمل بالنصوص التي يحتمل فيها دعوى واقعة العين، فلا تقبل إلا بعد فحص ومحص، ولا سيما الأحاديث التي يخالف ظاهرها العمل المستمر والنصوص أو الأحكام المستقرة الثابتة المشهورة عند العلماء، وقد تقرر في الأصول أنه إذا ثبتت قاعدة شرعية عامة أو مطلقة، فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال، قاله أبو إسحاق الشاطبي، وعلله بأن القواعد التي هذا شأنها، قطعية كلية وغير محتملة، وقضايا الأعيان مظنونة جزئية ومحتملة، ومحال أن يتعارض هذا وهذا، فضلاً عن أن يؤثر فيه، وأيضا: فلا يخلو الحال من العمل بهما معا في محل المعارضة أو إهمالهما معا، وكلاهما باطل، فلم يبق إلا العمل بالكلي القطعي وترك الظني الجزئي، ولا يتصور العكس لأنه خلاف الأصل والقاعدة[19].
وذكر أبو إسحاق رحمه الله عن أهل الأصول أن قضايا الأعيان لا تكون بمجردها حجة، ما لم يعضدها دليل آخر، لاحتمالها في أنفسها، وإمكان أن لا تكون مخالفة لما عليه العمل المستمر[20].
والعجب أن الأصوليين لم يفرقوا في اصطلاحهم وإطلاقهم بين قضايا الأعيان وقضايا الأحوال، فيطلقون الاصطلاحين، ويستعملونهما في موضع واحد، ومعنى واحد، ولكنهم فى (باب التخصيص) فرقوا بينهما، واتفقوا على أن الاستثناء مخصص للأحوال والأعيان، واختلفوا في الشرط: هل يخصص الأعيان، كما يخصص الأحوال أم لا؟ فحكى محمود الحمصي[21] في (المصادر) المنع عن الشريف المرتضى[22] واختاره هو وابن العارض[23] المعتزلي في (النكت) والجمهور على أنه يخصص الأعيان كما يخصص الأحوال، فإذا قلت: أكرم بني فلان إن كانوا علماء، فهو كقولك: أكرمهم إلا أن يكونوا جهالا[24]، فكان يلزم التفريق في الوقائع والقضايا كما فرقوا هنا، والوجه فيه ما سبق.
وأكثر الأصوليين على جواز تخصيص العموم بقضايا الأعيان، إلا في قول لبعض الحنابلة كما في إذنه صلى الله عليه وآله وسلم للزبير وعبدالرحمن بن عوف في لبس الحرير للحكة[25]، فهو مخصص لعموم الأخبار القاضية بتحريم الحرير على الرجال.
قلت: وعندي أن هذه واقعة حال لا قضية عين، بدليل أن التخصيص بها متناول لمورد الحال، فهو خاص بالنوع وليس خاصا بالشخص، أعنى أن الإذن بلبس الحرير للحكة ليس عاما بإطلاق، ولا خاصا بشخص الزبير وابن عوف رضي الله عنهما، أي إن كل من احتاج إلى لبسه للحكة جاز له لبسه وإلاَّ فلا، فهو من عموم الصلاحة البدلي، وليس من عموم الشمول.
وقرر القرافي في كتابه الذى صنفه في (الخصوص والعموم)، جواز تخصيص العموم بقرائن الأحوال كما تقول: رأيت إخوتك، وقرينة حاله دالة على أنه ما رأى بعضهم، قال: وهذا أمر يدرك بالعقل، ولا تفي به العبارات،[26] قلت: مثاله مسألة القرآن وقد سبقت.
وتخصيص العموم بقرائن الحال، دليل على أن حكايات الأحوال لا ينتفي عنها العموم مطلقًا، كواقعة العين، ولا تعم مطلقًا، بل تعم في تلك الحال، فهي من الخاص النوعي.
واشتهر عن الإمام الشافعي رضي الله عنه قوله: (حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال وسقط بها الاستدلال)، وعنه عبارة أخرى: (ترك الاستفصال في حكايات الأحوال، مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، ويحسن بها الاستدلال)[27].
واستشكل هذا منه، لأن ظاهره التعارض، حتى إن القرافي حكى أنه سأل بعض فضلاًء الشافعية عنه، فقال: يحتمل أن يكون عنه قولان في المسألة[28].
وبعض الشافعية كالأصفهاني في (شرح المحصول) منع صحة النقل عن الشافعي في هذا، ثم أجاب بتقدير الصحة بنفي التناقض بين العبارتين؛ لأن العبارة الثانية المراد منها: ترك استفصال الشارع، والأولى: كون الواقعة في نفسها لم تنقل بتفصيل، بل نقلا مجملا لوجوه يختلف الحكم باختلافها، فلا استدلال بتلك الواقعة، كذا قال، ونحوه توجيه ابن دقيق العيد في (شرح الإلمام)، وصوبه الزركشي[29].
وذكر القرافي أن مراده بالاحتمال المانع من الاستدلال بالحكاية: الاحتمال المساوي أو القريب منه، والاحتمال الذى يمنع من الاستدلال هو المرجوح فلا عبرة به، وهذا معنى قول الشيخ تقي الدين المقترح[30]، أن الشافعي لم يرد مطلق الاحتمالات، إنما أراد احتمالا واقعا، فلا عبرة بالتجويز العقلي حينئذ، لأنه يفضي إلى رد معظم الوقائع[31].
وأجاب القرافي بنفي التعارض، ووجهه بأن الاحتمال تارة يكون في دليل الحكم، وتارة يكون في محل الحكم، فالأول هو الذى يسقط به الاستدلال دون الثاني كذا قال، ورده الزركشي بأن هذا لا يتبين به الفرق بين المقامين، لأن غالب وقائع الأعيان، الشك واقع فيها في محل الحكم، وذكر أن ما قاله القرافي من الفرق يخالف طريقة الشافعي، فإنه يقول بالعموم في مثل هذه الحالة بالقياس[32].
وحكى الزركشي في تنزيل الواقعة على العموم في حال ترك الاستفصال، أربعة مذاهب:
الأول: أنه على العموم في جميع محامل الواقعة، وعليه نص الشافعي.
الثاني: الوقف، لأنه مجمل.
الثالث: قول إلكيا الهراسي، أنه ليس من العموم، بل يكفى الحكم فيه من حاله عليه السلام، لا من دلالة الكلام.
الرابع: يعم إذا علم صلى الله عليه وآله وسلم تفاصيل الواقعة، ولا يعم إذا لم يعلم، وهو قول إمام الحرمين وأبي نصر بن القشيري[33]، وهو كالتقييد للمذهب الأول[34]، قلت: وحكى نحوه الإمام ابن دقيق العيد في (شرح الإلمام) عن بعض المتأخرين، وزاد أنه إن التبس، هل علم أم لا؟ فالوقف، ثم دفعه بأن الأصل عدم العلم فيصار إليه، حتى يظهر الراجح، وقريب منه تقسيم أبي الحسن بن الإبياري[35].
وقد نبه الزركشي على أن المراد بسقوط الاستدلال في وقائع الأعيان، إنما هو بالنسبة إلى العموم في أفراد الواقعة، لا سقوطه مطلقًا، فإن التمسك بها في صورة ما، مما يحتمل وقوعها عليه، غير ممتنع، كحديث الجمع في الحضر، فإنه يحتمل كونه في مطر أو مرض، ولا عموم له في جميع الأحوال، فلهذا حملوه على البعض وهو المطر[36]، قلت: وأحسن منه ما سبق من حمله على حالة الحاجة والحرج، ومما مضى يتبين أن حكايات الأحول إذا تطرق إليها الاحتمال، فإن كان راجحًا لم يتم الاستدلال بعمومها، وهو معنى قوله (حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال)، والأولى أن يقال: لا يتم أو يضعف بها الاستدلال.
وإن كان الاحتمال مرجوحا، فإن استفصل الشارع فلا يعم مدلولها بل يقصر على مورد الاستفصال، وإن ترك الاستفصال فتعم عموما مخصوصا بنوع الحال أو الواقعة، وهو معنى قوله (ترك الاستفصال في قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال)، فالمراد عموم البدل المقصور على نوع حكاية الحال لا العموم الشمولي.
وليعلم أن إعلال الحديث بكونه واقعة عين أو حال من منهج نقاد الحديث وحفاظه، ولاسيما الأئمة الكبار منهم الذين عرف عنهم البصر بدقائق علل الأسانيد والمتون، فهذا الترمذي يروي من طريق جرير بن حازم عن ثابت - هو البناني - عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكلم بالحاجة إذا نزل عن المنبر)[37]، ثم نقل عن البخاري أنه أعله بقوله: (وهم جرير بن حازم في هذا الحديث، والصحيح ما روي عن ثابت عن أنس قال: أقيمت الصلاة، فأخذ رجل بيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما زال يكلمه حتى نعس بعض القوم... قال: والحديث هو هذا، وجرير بن حازم ربما يهم في الشيء، وهو صدوق) [38].
وبين وجه إعلال البخاري لهذا الحديث، الكشميري في (شرح الترمذي) فقال: (ومتن الحديث أعله البخاري، ووجه الإعلال أنه كان واقعة عين وعبره الراوي بلفظ يدل على أنه عادة) [39].
آخره.
والحمد لله رب العالمين
[1] لسان العرب 15/260 (وقع).
[2] معجم لغة الفقهاء ص 497.
[3] لسان العرب 4/188 (حكى)، المصباح المنير 1/226، المطبعة الأميرية، مجمع البحرين للطريحي 1/105، مكتبة الهلال 1985م.
[4] لسان العرب 10/359 (عين).
[5] تاج العروس للزبيدي 9/288-289 (عين)، دار ليبيا بنغازي.
[6] لسان العرب 4/277، 278 (حول)، والبيتان بلا نسبة. المعجم المفصل 6/388.
[7] اللسان 12/131 (قضى)، تاج العروس 10/296-297.
[8] أخرجه البخاري فى الأيمان باب إذا حنث ناسيًا 6673، ومسلم فى الأضاحي باب وقتها رقم 1961.
[9] أخرجه الحاكم 2/18، والبيهقي 10/146، وابن أبي حاتم فى "الآحاد والمثاني" 2084، والطبراني 3730 وصححه الحاكم والذهبي.
[10] رواه البخاري في الصلاة باب المساجد في البيوت 425، ومسلم في المساجد باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر 263.
[11] أخرجه البخاري فى البيوع باب من أجرى أمر الأنصار... رقم 2211، ومسلم فى الأقضية باب قضية هند رقم 1714.
[12] أخرجه البخاري فى الصوم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم... رقم 1946، ومسلم فى الصيام باب جواز الصوم والفطر رقم 1115.
[13] وقد سلك هذا المسلك فى توجيه الحديث بحمله على هذا المعنى الإمام أبو جعفر بن جرير فى "تهذيب الآثار" 1/159 من مسند ابن عباس رضي الله عنهما.
[14] مقدمة فى أصول التفسير لابن تيمية ص 59-60، مكتبة التراث الإسلامي.
[15] انظر بحث الدكتور محمود عبدالرحمن: وقائع الأعيان والأحوال ص 844.
[16] وقائع الأعيان للدكتور محمود عبدالرحمن ص 847-886-889.
[17] وقائع الأعيان 852-863.
[18] وقائع الأعيان للدكتور محمود عبدالرحمن 772.
[19] الموافقات 3/751.
[20] الموافقات 3/631.
[21] محمود بن علي بن الحسن الحمصي فاضل من فقهاء الإمامية ومتكلميهم بالشام صنف "التعليق العراقي" و"المصادر فى الأصول" وعليه يعول الزركشي فى "بحره" فى نقل مذاهب الإمامية كما نص عليه فى "مقدمته". لم أقف على وفاته وكان فى القرن السادس الهجري. أعيان الشيعة 10/105، دار التعاون.
[22] أبو القاسم علي بن الحسين العلوي الحسيني الموسوي جامع كتاب "نهج البلاغة" على الأشهر وقيل جمعه أخوه الرضي، كان من الأذكياء الأولياء المتبحرين فى الكلام والاعتزال والأدب والشعر، جلداً فى مذهب الإمامية له كتب منها "الشافي فى الإمامة" و"إبطال القياس"، وكان يكفر من يقول بتحريف القرآن توفى 436ه. أعيان الشيعة 8/213، الدرجات الرفيعة للشيرازي 458، مؤسسة الوفاء، روضات الجنات 4/294، دار المعرفة.
[23] لم أجده فى طبقات المعتزلة ولا فى غيرها، وفى الشافعية أبو سعيد العارض عبدالرحمن بن محمد الواعظ توفى 448 ه. انظر السياق من تاريخ نيسابور للفارسي 3/484 رقم 1025، طبقات ابن السبكي 5/116، وذكر الزركشي فى مقدمة البحر أن كتابه فى أصول المعتزلة.
[24] البحر المحيط 3/333-334
[25] البحر المحيط 3/405، إرشاد الفحول 1/578، المسودة 117، والحديث أخرجه البخاري فى اللباس باب ما يرخص للرجال من الحرير للحكمة رقم 5839، ومسلم فى اللباس باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكمة رقم 2076 ،ولابن القيم رسالة مفردة في هذا الحديث بعنوان (التحرير فيما يحل ويحرم من لبس الحرير).
[26] العقد المنظوم فى الخصوص والعموم للقرافي 2/295، دار الكتبي 1420ه.
[27] القواعد والفوائد الأصولية 235، دار الكتب العلمية 1403ه.
[28] العقد المنظوم 1/533-534، نقائس الأصول 4/1970، وقاله الزركشي فى البحر 3/154
[29] الكاشف شرح المحصول للأصفهاني 4/371، دار الكتب العلمية، البحر المحيط 3/153، شرح الإلمام 1/211 ، دار أطلس.
[30] المقترح هو مظفر بن عبدالله بن علي المصري الشافعي، جد الإمام ابن دقيق العيد لأمه، والمقترح لقب له لأنه حفظ مقترح البروي فى الجدل وشرحه، كان فقيها أصوليا صنف "النكت على البرهان" ودرس بمدرسة السلفي بالإسكندرية توفى 612ه. طبقات ابن السبكي 8/372، حسن المحاضرة 1/345 رقم 64
[31] البحر المحيط 3/152-153، القواعد والفوائد الأصولية 235.
[32] العقد المنظوم 1/534 وبعدها، البحر المحيط 3/153.
[33] عبدالرحيم بن عبدالكريم بن هوازن الفقيه الأصولي الواعظ، كان شافعيا متكلما صنف تفسيرا مشهورا، تخرج بوالده وإمام الحرمين. توفى 514ه. طبقات ابن السبكي 7/159.
[34] البحر المحيط 3/148-149.
[35] شرح الإلمام 1/213، البحر المحيط 3/150.
[36] البحر المحيط 3/154.
[37] الترمذي في الجمعة باب ما جاء في الكلام بعد نزول الإمام عن المنبر، رقم 517.
[38] سنن الترمذي 2/394.
[39] العرف الشذي شرح جامع الترمذي للكشميري 2/72، مؤسسة الضحى.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/69591/#ixzz34k8i0xk3