قوله: «ويجافي عضديه عن جنبيه» . الفاعل المُصلِّي السَّاجد، يجافي عضديه عن جنبيه، يعني: يبعدهما؛ لأنه ثَبَتَ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه كان يفعل ذلك، حتى إنَّ الصحابة يرِقُّون له من شدَّة مجافاته صلوات الله وسلامه عليه، وحتى إنه ليُرى بياضُ إبطه من شدَّة مجافاته، وحتى إنه لو شاءت أن تمرَّ البَهْمَةُ ـ وهي صغار الغنم ـ من تحته لمرَّت من شدَّة مجافاته.
ويُسْتثنى من ذلك: ما إذا كان في الجماعة؛ وخشي أن يؤذي جاره، فإنه لا يُستحبُّ له؛ لأذيَّة جاره، وذلك لأن هذه المجافاة سُنَّةٌ، والإيذاء أقلُّ أحواله الكراهة، ولا يمكن أن يفعل شيء مكروه مؤذٍ لجاره مشوِّش عليه من أجل سُنَّة، ولهذا استثنى العلماء رحمهم الله ذلك، فقالوا: ما لم يؤذِ جاره، فإن آذى جاره فلا يفعل. ولكن اعلمْ أنك متى تركت السُّنَّةَ لدرء المفسدة ـ والله يعلم أنه لولا ذلك لفعلت ـ فإنه يكتب لك أجرها، فإن الرَّجُلَ إذا تَرَكَ العملَ لله عوَّضه الله عزَّ وجلَّ، بل حتى إذا تركه بغير اختياره، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا مَرِضَ العبدُ، أو سافرَ، كُتِبَ له مثلُ ما كان يعملُ مقيماً صحيحاً».
قوله: «وبطنَه عن فَخِذَيهِ» . أي: يرفعه عن فخذيه، وكذلك أيضاً يرفع الفخذين عن الساقين، فهذه ثلاثة أشياء:
1 ـ التَّجافي بالعَضُدين عن الجنبين.
2 ـ وبالبطن عن الفخذين.
3 ـ وبالفخذين عن السَّاقين.
ولهذا قال النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «اعتدلوا في السُّجود» أي: اجعلوه سجوداً معتدلاً، لا تهصرون فينزل البطنُ على الفخذ، والفخذ على السَّاق، ولا تمتدُّون أيضاً؛ كما يفعل بعضُ الناس إذا سجد يمتدُّ حتى يَقْرُبَ من الانبطاح، فهذا لا شَكَّ أنه من البدع، وليس بسُنَّة، فما ثَبَتَ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولا عن الصَّحابةِ ـ فيما نعلم ـ أن الإنسان يمدُّ ظهره في السُّجود، إنما مدُّ الظهر في حال الرُّكوع. أما السجود فإنه يرتفع ببطنه ولا يمدُّه.
قوله: «ويفرق ركبتيه» . أي: لا يضمُّ ركبتيه بعضهما إلى بعض، بل يفرِّقُهما، وأما القدمان فقد اختلف العلماءُ في ذلك:
فمِن العلماء من يقول: إنه يفرِّق قدميه أيضاً، لأن القدمين تابعان للساقين والرُّكبتين، فإذا كانت السُّنَّة تفريق الرُّكبتين، فلتكن السُّنَّة أيضاً تفريق القدمين، حتى إن بعض الفقهاء ـ رحمهم الله ـ قدَّروا ذلك بأن يكون بينهما مقدار شبر بالتفريق.
ولكن الذي يظهر مِن السُّنَّة: أن القدمين تكونان مرصوصتين، يعني: يرصُّ القدمين بعضهما ببعض، كما في «الصحيح» من حديث عائشة حين فَقَدَتِ النَّبيَّ صلّى الله عليه وسلّم فوقعت يدُها على بطن قدميه ، وهما منصوبتان، وهو ساجد. واليد الواحدة لا تقع على القدمين إلا في حال التَّراصِّ، وقد جاء ذلك أيضاً في «صحيح ابن خزيمة» في حديث عائشة المتقدِّم: «أنَّ الرسولَ صلّى الله عليه وسلّم كان رَاصًّا عقبيه». وعلى هذا؛ فالسُّنَّةُ في القدمين هو التَّراصُّ بخلاف الرُّكبتين واليدين.
ولم يذكرِ المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ هنا محلَّ اليدين، ولكنه ذَكَرَه في أول باب صفة الصلاة حين قال: «يرفع يديه حَذوَ منكبيه كالسُّجود».
وعلى هذا؛ يكون موضع اليدين على حذاء المنكبين، وإن شاء قدَّمهما وجعلهما على حذاء الجبهة، أو فُروع الأذنين؛ لأن كلَّ هذا مما جاءت به السُّنَّةُ...
قوله: «ويقول: سبحان ربي الأعلى» . أي: حال السُّجودِ يقول: «سبحان ربي الأعلى» وقد سَبَقَ معنى التسبيح، وما الذي يُسبَّح الله عنه، أي: يُنَزَّه عنه.
وأما قوله: «رَبِّي الأعلى» دون أن يقولَ رَبِّيَ العظيم؛ لأن ذِكْرَ علوِ الله هنا أنسب من ذكر العظمة، لأن الإنسان الآن أنزل ما يكون، لذا كان من المناسب أن يُثني على الله بالعلو، وانظر إلى الحكمة والمناسبة في هذه الأمور، كيف كان الصَّحابةُ في السفر إذا علوا شيئاً كَبَّروا، وإذا هبطوا وادياً سَبَّحوا ؛ لأن الإنسان إذا علا وارتفع قد يتعاظم في نفسه ويتكبَّر ويعلو، فمناسبٌ أن يقول: «الله أكبر» لِيُذكِّرَ نفسَه بكبرياء الله عزَّ وجلَّ، أما إذا نزل فإن النزول نقص، فكان ذِكْرُ التسبيح أَولى؛ لتنزيه الله عزَّ وجلَّ عن النقص الذي كان فيه الآن، فكان من المناسب أن يُذَكِّرَ الإنسانُ نفسَه بِمَنْ هو أعلى منها...
... قوله: «ثم يرفع رأسه مكبِّراً» . أي: يرفعُ رأسَه وما يتبعه من اليدين «مكبِّراً» حال من فاعل «يرفع». وعلى هذا؛ فيكون التَّكبيرُ في حال الرَّفْعِ؛ لأن هذا التكبير تكبيرُ انتقال، وتكبيرات الانتقال كلُّها تكون ما بين الرُّكنين، لا يبدأ بها قبلُ، ولا يؤخِّرها إلى ما بعدُ؛ لأنه إنْ بدأها قبلُ أدخلها على أذكار الرُّكن الذي انتقلَ منه، وإن أخَّرها أدخلها على أذكار الرُّكن الذي انتقلَ إليه، فالسُّنَّةُ أن يكون التَّكبيرُ في حال الانتقال.
قوله: «ويجلس مفترشاً يسراه» . «يجلس»: أي: بعد السَّجدة الأُولى «مفترشاً يسراه» أي: يُسرى رِجليه، أي: جاعلاً إيَّاها كالفراش، والفراش يكون تحت الإنسان، أي: يضعها تحته مفترشاً لها لا جالساً على عقبيه، بل يفترشها، وعليه؛ فيكون ظهرُها إلى الأرض وبطنُها إلى أعلى.
قوله: «ناصباً يُمناه» . أي: جاعلها منتصبة، والمراد: القدم، وحينئذٍ لا بُدَّ أن يخرجها من يمينه، فتكون الرِّجلُ اليُمنى مخرجة من اليمين، واليسرى مُفتَرشةً، أي: أنه يجلس بين السَّجدتين هكذا، لا يجلس متورِّكاً وهذه الصفة متفق عليها...
... قوله: «ويقول: رَبِّ اغفرْ لي» أي: يقول حال جلوسه: رَبِّ اغفرْ لي، أي: يا رَبِّ، اغفرْ لي. واقتصر ـ رحمه الله ـ على الواجب.
ولكن الصحيح أنه يقول كلَّ ما ذُكر عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «ربِّ اغفرْ لي، وارحمني، (وعافني)، واهدني، وارزقني» أو «اجبرني» بدل «ارزقني» وإن شاء جمع بينهما؛ لأن المقام مقام دعاء...
... فهذه المعاني التي تُذكر في الأدعية ينبغي للإنسان أن يستحضرها. فإن قال قائل: أليس يغني عن ذلك كله أن يقول: «اللَّهُمَّ ارحمني»؟ لأنَّ الرحمة عند الإطلاق: بها حصولُ المحبوب وزوال المكروه؟
فالجواب: بلى، لكن مقام الدُّعاء ينبغي فيه البسط، لكن على حسب ما جاءت به السُّنَّة، وليس البسط بالأدعية المسجوعة التي ليس لها معنى، أو يكون لها معنى غير صحيح.
وإنما كان البسط مشروعاً في الدُّعاء لأسباب:
1 ـ لأنّ الدُّعاء عبادة، وكلما ازددتَ من العبادة ازددتَ خيراً.
2 ـ أنَّ الدُّعاء مناجاة لله عزّ وجل، وأحبُّ شيء للمؤمن هو الله عزّ وجل، ولا شكَّ أنَّ كثرةَ المناجاة مع الحبيب مما تزيد الحُبَّ.
3 ـ أن يستحضر الإنسانُ ذنوبَه على وجه التفصيل، لأن للذُّنوب أنواعاً، فإذا زِيدَ في الدُّعاء استحضرت، ولهذا كان من دُعاء الرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «اللَّهُمَّ اغْفِر لي ذنبي كُلَّهُ، دِقَّهُ وجِلَّهُ، وأوَّلَهُ وآخرهُ، وعلانيتَهُ وسِرَّهُ».
الشرح الممتع ملخصا ( 3 / 120 - 132 )