ضوابط الإفتاء عند الأصوليين والفقهاء
----------------------------------
الجزء الأول :
الحمد لله ذ ى العلم المكين القائل فى كتابه المبين ( َمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُو اْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) [التوبة : 122]فأبان عن عظيم مكانة الفقيه فى الدين الموقع عن رب العالمــين وأشـهد أن محمـداًعبده ورسـوله الذى وضـــح المنهاج للسالكين فقال ( من يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين)([1]) وصلى الله عليه وسلم وعلى آله وعترته أجمعين .
أما بــعـد:ـ
فإن الفتوى منصب له خطره لما فيه من تحليل وتحريم وإباحة ومنع وذلك مما تفرد الله سبحانه وتعالى به فقال تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) [القصص : 70]
وتولاه بنفسه فقال سبحانه وتعالى:(وَيَسْتَفْتُونَ كَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ)[النساء : 127]واختار خيرة خلقه ليبلغوا الناس بأحكامه وجعلهم مبشرين ومنذرين فقال تعالى:
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ )[البقرة : 213].
ثم ورث العلماء الأنبياء فى الحكم بين الناس بما أنزل إليهم من ربهم فهم كماقال النبى صلى الله عليه وسلم:( إن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر) .[2]
ثم قلّ العلماء وتواروا فتصدر قوم لاهم فى العيرولا النفير ونطق الرويبضة فى هذه السنين الخداعة كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: [ إن بين يدي الساعة سنين خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة . قيل : وما الرويبضة . قال : المرء التافه يتكلم في أمر العامة ] .([3])
لذلك وجب وضع ضوابط للفتوى لئلا تصبح الفتوى هملاً يطمع فيها كل رويبضة وجاهل.ولما لها من خطر فى حياة الفرد والمجتمع .
وهذه الضوابط لابد أن تكون واضحة محددة , واجبة التنفيذ والاحترام , ليتحقق لها التأثيرفى حياة المسلمين ، وهذا الوضوح والتحديد والاحترام إنما يتحقق ببنائها على أدلة شرعية متفق عليها .
وهذا بحث مختصرسميته ضوابط الإفتاء عند الأصوليين والفقهاء بنيته على أدلة شرعية و قسمته إلى أربعة مباحث هى:
1ـ بيان خطر الفتوى والتشديد فيها.
2ـ شروط المفتى وصفاته وأحكامه.
3ـ آداب المفتى .
4ـ ضوابط الفتوى فى القضايا المعاصرة.
وهذا أوان الشروع فى البحث . أسأل الله الإعانة والتوفيق.
أولاً: بيان خطر الفتوى والتشديد فيها:ـ
-----------------------------------------
الفتوى توقيع عن رب العالمين وإظهار لمعالم الدين وفصل للحلال عن الحرام. ولهذا عرف النبى صلى الله عليه وسلم حرمتها وعرّف ذلك لأصحابه رضى الله عنهم أجمعين فكان النبى قدوة للصحابة فى التوقف عن الفتوى مالم ينزل عليه من الله بيان وتفصيل ومن ذلك توقفه صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الروح وعندما جاءته خولة بنت ثعلبة تشتكى زوجها فى الظهار،وغيرها من الأقضية التى توقف فيها النبى صلى الله عليه وسلم.
أما التى سبق فيها البيان فقضى فيها النبى صلى الله عليه وسلم على الفور كما قضى على اليهودى الذى قتل جارية على أوضاح لها كما ثبت فى الصحيحين: أن يهودياً رضَّ رأسَ جاريةٍ بينَ حجريْنِ على أوضاحٍ لها، أى: حُلِىٍّ، فأُخِذَ، فاعْتَرَفَ، فأمررسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أن يُرَضَّ رأسُه بين حَجَرَيْنِ.([4])وأمثالها كثير لمن أراد استقصاءً. وهذاهوالغالب على فتاوى الرسول صلى الله عليه وسلم وأحكامه ولذلك كان الصحابة يكثرون من إحالة الفتوى على غيرهم.
ولإيضاح ما سبق وجب التفصيل الآتى:
1ـ الترهيب من الفتوى بغير علم:ـ
-----------------------------------
تكاثرت الأدلة على تحريم الفتوى بغير علم .وبينت سوء عاقبة الذين يفترون على الله كذباً ، والمحلين لما حرم الله والمحرمين لما أحلّ والمضلين للناس بغير علم. ومن ذلك قوله تعالى (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ )[النحل: 116].
قال ابن كثير:ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهِّيه.([5])
وقوله تعالى:( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف : 33].يقول ابن القيم تعليقاً على الآية:وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم فى الفتيا والقضاء وجعله من أعظم المحرمات بل جعله فى المرتبة العليا منها.([6])
وجاء في الحديث: "من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثلُ آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا".([7])
وقد خوّف النبى r من الإفتاء أو القضاء بغير علم وذلك فيما رواه أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r : ( من ولي القضاء أو جعل قاضياً بين الناس فقد ذبح بغير سكين)([8]).
وللفتوى خطورتها إن كانت عن جهل أو غلبة ظن فقد تحل فرجاً محرماً أو تودى بحياة مصونة كما ورد فى حديث جابررضى الله عنه قال: (خرجنا فى سفر
فأصاب رجلاً منا حجر فشجه فى رأسه ,ثم احتلم, فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لى رخصة فى التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء،
فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبى r أخبر بذلك, فقال : قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا, فإنما شفاء العيى السؤال , إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصرأو يعصب ـ شك موسى ـ على جرحه خرقة, ثم يمسح عليها, ويغسل سائر جسده).([9])
وجعل النبى القضاة ثلاثة واحد فى الجنة واثنان فى النار فعن بريدة رضى الله عنه عن النبى r قال:(القضاة ثلاثة:واحد فى الجنة,واثنان فى النارفأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار, ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار).([10])
ولو لم تكن الفتوى عن علم وعدل كانت سبباً لهلاك صاحبها يوم القيامة.ولو كانت عن علم وعدل فصاحبها موقوف للسؤال يوم القيامة بحيث يتمنى لو أنه لم يقض ولم يفت. فعن عائشة رضى الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله r يقول ليأتين على القاضى العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لم يقض بين اثنين فى تمرة قط.([11])
وعرف الصحابة ذلك فتحرزوا فى الفتوى واحتاطوا من التسرع فيها . يقول عبد الله بن مسعود: الذى يفتى الناس فى كل ما يستفتونه فيه مجنون.([12])
وأخرج ابن عبد البرفى الجامع(2 /163) عن عبد الرحمن بن أبى ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله r أراه قال:فى المسجد ـ فما كان منهم محدث إلا ود أنّ أخاه قد كفاه الحديث ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وأخرج ابن عبد البر فى الجامع(2/166)عن أبى المنهال قال:سألت زيد بن أرقم والبراء بن عازب رضى الله عنهما عن الصرف.[13]فجعلا كلما سألت أحدهما قال: سل الآخر فإنه خير منى وأعلم .........وأخرج ابن عساكرعن أبى حصين قال:إنّ أحدهم ليفتى فى المسألة ولووردت على عمر بن الخطاب رصى الله عنه لجمع لها أهل بدر. كذا فى الكنز(5/241).([14])
2ـ وجوب نشر العلم والفتوى لمن استكمل شروطهما:ـ
------------------------------------------------
ولايفهم من الترهيب السابق كتمان العلم والفتوى , فالصحابة إنما فعلواما فعلوه من التحرزوالاحتياط لعلمهم بوفرة العلماء الراسخين .فودوا لو أنهم كفوا مئونة الفتوى لعلمهم بالتشديد فيها,أما لو علموا وجوب الفتوى عليهم لتفردهم بحمل هذا العلم.وضياعه لو كتموه,فإنهم يسارعون بالفتوى ونشر العلم. لما قد علموه من الوعيد الشديد على كتم العلم . فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة : 159] وروى عبد الله بن عمرو أن رسول الله r قال: (من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار).([15]) وممايبين حرص السلف على التثبت فى الفتوى, ما ذكرعن سعيد بن المسيب أنه كان لايفتى فتيا, ولايقول شيئاً إلاقال: اللهم سلمنى وسلم منى.([16])ويبين سحنون بن سعيد ـ صاحب المدونةـ سبب التثبت والامتناع فيقول:إنى لأسأل عن المسألة فأعرفها،وأعرف فى أى كتاب هى، وفى أى ورقة، وفى أى صفحة، وعلى كم هى من سطر. فما يمنعنى من الجواب فيها إلا كراهة الجرأة بعدى على الفتوى.([17])
ثانياًُ: شروط المفتى وصفاته وأحكامه وآدابه :ــــ
-------------------------------------------
تكلم كثير من العلماء فى شروط المفتى وصفاته وأحكامه وآدابه.ومن هؤلاء علماء الأصول إذ جعلوا الاجتهاد وشروط المجتهد باباً من أبواب كتبهم , والمجتهد عندهم مرادف للمفتى وفى شروط كلٍ اختلاف طفيف .ومن العلماء مَن خص الإفتاء بمؤلفات منفردة,ومن أبرز هؤلاء:أبوعمروعث ان بن الصلاح الشهرزورى فى كتابه أدب الفتوى وشروط المفتى وصفة المستفتى وأحكامه وكيفية الفتوى والاستفتاء. وأبوزكريا يحيى بن شرف النووى الدمشقى فى كتابه آداب الفتوى والمفتى والمستفتى. وأحمد بن حمدان الحرانى الحنبلى فى كتابه صفة الفتوى والمفتى والمستفتى.وسأحا ل من خلال آراءهم جميعاً تحديد شروط المفتى وصفاته وأحكامه وآدابه.
للمفتى مكانة عظيمة فهو منار الهدى للحائرين ، ومرشد التائبين، ومظهر شرع الله فى الأرض للطالبين، يقول ابن القيم فى بيان هذه المكانة: فقهاء الإسلام ، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام ، الذين خصوا باستنباط الأحكام ،وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام ؛ فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، بهم يهتدي الحيران في الظلماء ، وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب ، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب،قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا }(النساء:59)([18])
يقول ابن الصلاح:أما شروطه وصفاته, فهى أن يكون مكلفاً , مسلماً ,ثقة, مأموناً،متنزهاً من أسباب الفسق ومسقطات المروءة؛لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح الاعتماد، وإن كان من أهل الاجتهاد ,ويكون فقيه النفس، سليم الذهن، رصين الفكر،صحيح التصرف والاستنباط ،متيقظاً.([19])وفيما يلى تفصيل ما أجمل من شروط و صفات فى قول ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ
1ـ البلوغ والإسلام والعدل والتكليف :
ويقول أحمد بن حمدان النمرى الحرانى: ومن صفته وشروطه أن يكون مسلماً عدلاً مكلفاً فقيهاً مجتهداً يقظاً صحيح الذهن والفكر والتصرف في الفقه وما يتعلق به أما اشتراط إسلامه وتكليفه وعدالته فبالإجماع لأنه يخبر عن الله تعالى بحكمه فاعتبر إسلامه وتكليفه وعدالته لتحصل الثقة بقوله ويبنى عليه كالشهادة والرواية.([20])
ويقول الخطيب البغدادى:أول صفات المفتى الذى يلزم قبول فتواه أن يكون بالغاً؛لأن الصبى لاحكم لقوله، ثم يكون عاقلا؛لأن القلم مرفوع عن المجنون لعدم عقله, ثم يكون عدلاً ثقة, لأن علماء المسلمين لم يختلفوا فى أن الفاسق غير مقبول الفتوى فى أحكام الدين،وإن كان بصيراً بها.([21])
2ـ الأمانة والتنزه عن الفسق وخوارم المروءة:
ويقول الإمام النووى: شرط المفتي كونه مكلفا مسلما ثقة مأمونا متنزها عن الفسق وخوارم المروءة فقيه النفس سليم الذهن رصين الفكرصحيح التصرف والاستنباط
متيقظا سواء فيه الحر والعبد والمرأة والأعمى والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته. ([22])
وهذه الشروط والصفات مما اختص به أصحاب المؤلفات المستقلة فى الفتوى. وهى صفات فى مجملها خَلقية أوخُلقية وهى صفات مكملة لمن يتأهل لمنصب الإفتاء. تعين صاحبها على تحمل أمانة الإفتاء ومسئوليته العظيمة كما يظهر مما سبق ذكره من النصوص والنقولات .
3ـ أن يكون المتصدر للإفتاء مجتهداً:
أما الشروط والصفات الجوهرية المعتبرة التى لا يصح الإفتاء بدونها ,فقد ذكرت فى كتب الأصول كما ذكرت فى الكتب المؤلفة فى الإفتاء خاصة ؛ ويمكن استخلاصها من هذه الكتب والمؤلفات كما يلى :ـ
يقول ابن الصلاح:وشرطه: أن يكون مع ما ذكرناه قيماً بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس,وما التحق بهاعلى التفصيل. وقد فصلت في كتب الفقه وغيرها فتيسرت والحمد لله عالماً بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها وبكيفية اقتباس الأحكام منها وذلك يستفاد من علم أصول الفقه عارفا من علم القرآن وعلم الحديث وعلم الناسخ والمنسوخ وعلمي النحو واللغة واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن به من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك عالماً بالفقه ضابطاً لأمهات مسائله وتفاريعه المفروغ من تمهيدها .([23])
وهذا إجمال من ابن الصلاح ـ رحمه الله ـ فصلّه غيره من العلماء . مثل الخطيب البغدادى الذى يقول: ثم يكون عالماً بالأحكام الشرعية ، وعلمه بها يشتمل على معرفته بأصولها وارتياض بفروعها وأصول الأحكام في الشرع أربعة : أحدها : العلم بكتاب الله ، على الوجه الذي تصح به معرفة ما تضمنه من الأحكام : محكماً ومتشابهاً ، وعموماً وخصوصاً ، ومجملاً ومفسراً، وناسخاً ومنسوخاً والثاني : العلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله ، وطرق مجيئها في التواتر والآحاد ، والصحة والفساد ، وما كان منها على سبب أو إطلاق والثالث : العلم بأقاويل السلف فيما أجمعوا عليه ، واختلفوا فيه ، ليتبع الإجماع ، ويجتهد في الرأي مع الاختلاف والرابع : العلم بالقياس الموجب ، لرد الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها ، والمجمع عليها ، حتى يجد المفتي طريقاً إلى العلم بأحكام النوازل ، وتمييز الحق من الباطل ، فهذا ما لا مندوحة للمفتي عنه ، ولا يجوز له الإخلال بشيء منه. ثم نقل الخطيب البغدادى قولاً للشافعى ليكون فصلاً فى المسأ لة ؛فقال: قال الشافعي : « لايحل لأحد يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله : بناسخه ومنسوخه ، وبمحكمه ومتشابهه ، وتأويله وتنزيله ، ومكيه ومدنيه ، وما أريد به ، وفيما أنزل ، ثم يكون بعد ذلك بصيراً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالناسخ والمنسوخ ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن ، ويكون بصيراً باللغة ، بصيراً بالشعر ، وما يحتاج إليه للعلم والقرآن ، ويستعمل مع هذا الإنصاف ، وقلة الكلام ، ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار ، ويكون له قريحة بعد هذا ، فإذا كان هذا هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام ، وإذا لم يكن هكذا فله أن يتكلم في العلم ولا يفتي ».([24])وقد سئل الإمام أحمد رضي الله عنه عمن يفتي بالحديث هل له ذلك إذا حفظ أربعمائة ألف حديث فقال أرجو.([25])
ولهم فى المجتهد والمفتى تفصيل وتقسيم إلى مستقل وغير مستقل عن إمامه . وهذاالبحث لايحتمل التفصيل والتوسع.وأرى أن من استكمل الشروط السابقة استحقّ التصدر للإفتاء. فأين هذا ممن قرأ آيةً أوآيتين ,أوحديثاً أوحديثين, ثم اطّلع على كتيبات فى العلم لا تسمن ولاتغنى فقعد وتصدر وأفتى وتنظر.ثم لم يخش ربه فتقوّل على شرعه ,فضلّ وأضلّ, وصدق فيه ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:(أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار) .([26])
ولذلك يقول ابن الصلاح: فمن انتصب في منصب الفتيا وتصدى لها وليس على صفة واحدة من هذه الأصناف الخمسة فقد باء بأمر عظيم ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ومن أراد التصدي للفتيا ظاناً كونه من أهلها فليتهم نفسه وليتق ربه تبارك وتعالى ولا يخدعن عن الأخذ بالوثيقة لنفسه والنظر لها، ولقد قطع الإمام أبو المعالي وغيره بأن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه لا تحل له الفتوى بمجرد ذلك ولو وقعت له في نفسه واقعة لزمه أن يستفتي غيره فيها ويلتحق به المتصرف النظار البحاث في الفقه من أئمة الخلاف وفحول المناظرين وهذا لأنه ليس أهلاً لإدراك حكم الواقعة استقلالاً لقصور آلته ولا من مذهب إمام متقدم لعدم حفظه له وعدم اطلاعه عليه على الوجه المعتبر والله أعلم.([27])
1ـ أخرجه الشيخان البخارى جــ3 صــ1134 ومسلم جـ2 صــ719
2ـ صحيح الترغيب والترهيب وقال الألبانى:حسن لغيره رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي
3ـ السلسلة الصحيحة برقم( 2253) وقال الألبانى: صحيح
4ـ صحيح البخارى جـ6 صـ2522 وصحيح مسلم جـ3 صـ1299
5ـ تفسير ابن كثير جـ4 صـ609
6ـ إعلام الموقعين جـ1 صـ31
7ـ تفسير ابن كثير جـ4 صـ565 .والحديث رواه مسلم والترمذى وأبو داودوأحمد
8ـ الترغيب والترهيب جـ3 صـ181.وقال الألبانى حسن صحيح ورواه أبو داود والترمذي واللفظ له وقال حديث حسن غريب وابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد
9ـ رواه أبو داود .أنظر عون المعبود شرح سنن أبى داودجـ1 صـ354
10ـ الترغيب والترهيب جـ3 صـ181 .وقال الألبانى: صحيح لغيره و رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه
11ـ الترغيب والترهيب جـ3 صـ182 وقال: رواه أحمد وابن حبان فى صحيحه وقال المحقق:إسناده حسن .قاله الهيثمى وزاد فى عزوه للطبرانى فى الأوسط ( المجمع 4 /192)
12ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد جـ1 صـ437وقال:رواه الطبرانى فى الكبير ورجاله موثقون
13ـ الصرف : إبدال الذهب بالفضة ويسمى بيع الأثمان
14ـ حياة الصحابة للكاندهلوى جـ3 صـ190 و191
15ـ الترغيب والترهيب جـ1 ص97ـوقال المنذرى: رواه ابن حبان فى صحيحه والحاكم,وقال: صحيح لاغبار عليه.وقال الألبانى:حسن صحيح
16ـ صفة الفتوى صـ10
17ـ ترتيب المدارك جـ4 صـ75
18ـ إعلام الموقعين جـ1 صـ7
19ـ أدب الفتوى صـ41
20ـ صفة الفتوى صـ13
21ـ الفقيه والمتفقه جـ2 صـ156
22ـ آداب الفتوى صـ19
23ـ أدب الفتوى صـ42
24ـ الفقيه والمتفقه جـ2صـ156 و157
25ـ صفة الفتوى صـ20
26ـ السلسلة الضعيفة جـ4 صـ294 .وقال الألبانى ضعيف
27ـ أدب الفتوى صـ55