الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
لقد اشتد نكير السلف على من خالف الدليل لقول الرجال مهما بلغت مكانتهم، ومن ذلك أن ابن عباس رصي الله عنهما قال لمن ناظره في متعة الحج وكان ابن عباس يأمر بها فاحتج عليه المناظر بنهي أبي بكر وعمر-رضي الله عنهما- عن المتعة، فقال: "يوشك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر".
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: "هذا الكلام الصادر عن محض الإيمان وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه كائناً من كان، كما قال الشافعي: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحدٍ، فإذا كان هذا كلام ابن عباس لمن عارضه بأبي بكر وعمر وهما هما فماذا تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بإمامه وصاحب مذهبه الذي ينتسب إليه ويجعل قوله عياراً على الكتاب والسنة، فما وافقه قبله وما خالفه رده أو تأوَّله، فالله المستعان. تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص 483).
وهذا يدل على أن الحق لا بعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق، وهذا الذي سلكه السلف الصالح من الصحابة ومنهم التابعون ومن بعدهم، وفيهم الأئمة الأربعة - وكلهم متفق على وجوب التمسك بالسنة ، والرجوع إليها ، وترك كل قول يخالفها، مهما كان القائل عظيماً، وهذه طائفة من أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها(انظر للمزيد مقدمة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.)
قال أبو حنيفة رحمه الله : " لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ؛ ما لم يعلم من أين أخذناه " إيقاظ همم أولي الأبصار للإقتداء بسيد المهاجرين والأنصار (ص 53)..
وقال مالك بن أنس رحمه الله: "كل منا يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر" سير أعلام النبلاء (15 / 95).
وقال الشافعي رحمه الله : " أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لم يحل له أن يدعها لقول أحد " أعلام الموقعين(2 / 282).
وقال: "إذا صح الحديث ؛ فهو مذهبي" المجموع شرح المهذب (1 / 92).
قال أحمد بن حنبل رحمه الله: " لا تقلدني، ولا تقلد مالكا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا "([1])، وقال مرة :" الاتباع : أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، ثم هو من بعد التابعين مخير" المرجع السابق201).
ولا شك أنَّ هؤلاء الأئمة وغيرهم - رحمهم الله جميعاً - خدموا الدين خدمة عظيمة , وهم دائرون بين الأجر والأجرين فيما اجتهدوا فيه , فما أصابوا فيه فلهم أجران، وما أخطئوا فلهم أجر واحد – رحمهم الله وجزاهم عنا خيراً- لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ »،
ولقد وقع بعض الناس في الغلو بصور وأشكال غريبة عجيبة، ومن صوره ما وصل إليه بعض الغلاة أنه افترى أحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم في مدح أو ذم بعض الأئمة، ومن ذلك وضع أحدهم حديث: " أنه يأتي على الناس زمانٌ فيه رجل أضر على أمتي من إبليس اسمه محمد بن إدريس " تدريب الراوي 1/ 278.
يريد بذلك الإمام الشافعي رحمه الله، وهذا من شدة تعصب واضعه لمذهبه.
كما وضع آخر حديث: "أبو حنيفة سراج أمتي" تدريب الراوي 1/ 278.
وهذا كله من أقبح الغلو لأنه أفضى بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأن مدح الأئمة لا يتأتى إلا بهذا الطريق الباطل.
وبلغ التعصب في بعض المراحل للأسف أن يقول قائل كما هو مسطور: "كل آيةٍ تعارض المذهب فهي إما مأولةٌ أو منسوخةٌ " تاريخ التشريع الإسلامي " للشيخ محمد الخضري كما في السلسلة الصحيحة(6/320).
وانظر للمزيد من صور الاختلاف الناتج عن الغلو في التعصب كتاب (ما لا يجوز الخلاف فيه بين المسلمين).
ووصل التفرق نتيجة الغلو في التعصب للمذهب أنه كان يؤم المسلمين في المسجد الحرام قبل العهد السعودي أربعة أئمة، يمثل كل واحد منهم مذهباً من المذاهب الفقهية الأربعة: الشافعية والمالكية والحنفية والحنابلة، وكان لكل واحد من الأئمة مقام يصلي فيه، وقد وصف ابن جبير ما شاهده هناك للمصلين نتيجة تعدد الأئمة، من اضطراب صلاة بعض المصلين، بسبب السهو والغفلة لاجتماع التكبير فيها من كل جهة، فربما ركع المالكي بركوع الشافعي أو الحنفي، أو سلّم أحدهم بغير سلام إمامه. وقد استمر هذا الحال إلى سنة 1343هـ حينما أبطلها الملك عبدالعزيز– غفر الله له وجزاه خيرا– ، وأمر باجتماع الناس في صلاة الجماعة على إمام واحد. التراويح أكثر من ألف عامٍ في مسجد النبيّ عليه الصلاةُ والسَّلام"(ص:91).
وأقول أيضاً كما سمعته من شيخنا العلامة الألباني رحمه الله : وإن ذهبت العصبية المذهبية عند بعض أو كثير من الناس اليوم ، فلقد حل محلها العصبية الحزبية للجماعة ونحوها، وهذا لا يتمشى مع نهج السلف .
فعلى طالب العلم أن يحذر التعصب للرجال سواءٌ أكانوا من الأئمة السابقين، أو غيرهم من العلماء المعاصرين، لأن هذا فمذمومٌ شرعا، مهما بلغوا من العلم والفضل، ويجعل الحق بدليله رائدة، ويعذر صاحب القول من أهل العلم فيما أخطأ فيه، لأن الاجتهاد يختلف في بعض المسائل بين أهل العلم، وهو سائغٌ ودائر بين الأجر والأجرين، كما سبق، وأوجه أسباب الاختلاف عديدةٌ بسطها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام "، فليرجع إليه.
وما أبلغ قول ابن رجب رحمه الله تعالى :" الواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعرفه ؛ أن يبينه للأمة ،وينصح لهم ، ويأمرهم باتباع أمره ، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة ؛ فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ، ومن هنا ردَّ الصحابة ومن بعدهم على كل مخالفٍ سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد، لا بغضاً له؛ بل هو محبوبٌ عندهم معظَّمٌ في نفوسهم، لكن رسول الله أحب إليهم، وأمره فوق أمر كل مخلوق، فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره؛ فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع" انظر التعليق على " إيقاظ الهمم" (ص92) و" صفة صلاة النبي " (ص30).
والحمد لله رب العالمين.
[1]) إعلام الموقعين - (2 / 201).