طلب منِّي بعض المحبِّين أن أكتب ترجيحات مختصرة عن أحكام تأجير العقار مع الوعد بتمليكه .
وقد عنَّ لي أن أُحرِّر- لمن قصرت همته -أهم أحكامه ودقائقه في فوائد تجمع قواعده وترجيحاته التي لم تنضبط لمن استعجل الوقوف عليها .
ومن بديع ما قرأت للحافظ ابن حجر( ت:852هـ ) رحمه الله تعالى أنه قال: ” يجب البحث في العٍلم حتى يظهر المعنى ” .
ومن اللطائف التي أفادني بها بعض مشايخي قديماً في مصر المحروسة أن الأمور الشرعية المتعلِّقة بالفصل بين الناس في المعاملات ، تُكره الأجرة عليها ، لئلا تكون ذريعةً للتحايل على أموال الناس ، لأن الله تعالى يقول : ” قل لا أسألكم عليه أجراً ” ( الأنعام : 90 ) . وفي كتاب تبصرة الحكام لابن فرحون (ت: 799هـ ) رحمه الله تعالى ،تأصيل جيِّد لهذه المسألة التي هي فرع من بحثنا فلتراجع ، فكيف بفتح الذرائع المفضية للعقود الفاسدة في ضروريات الحياة التي لا تخلو من شبهة ؟! .
أما فيما يتعلَّق بتأجير العقار مع الوعد بتمليكه فيمكن تحريره في خمس عشرة فائدة :
1- لا يصح تسمية العقد بأنه عقد تمليك بل عقد إجارة ، لأن التمليك وعدٌ قد يقع وقد لا يقع ، على حسب التزام الطرفين أو إخلال أحدهما . وعند وقوع العكس يكون النهي واقعاً ،لحديث نهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة . أخرجه الترمذي بإسناد صحيح .وقد تقرر عند الأصوليين أن الدليل الشرعي قد يكون سمعياً وقد يكون عقلياً ، فهذه التسمية مخالفة للسمع والعقل .
2- يجب أن تكون الإجارة للعقار إجارة حقيقية لا ساترة للبيع ، فلا يصح إيهام المستفيد بأن العقد إجارة وهو في حقيقته بيع ، فيحرم المستفيد من ضمان حقوقه .
3- يجوز دفع جزء من أُجرة العقار المراد تملُّكه وهي التي تُسمَّى العِوض ، وفي حال إلغاء العقد يجب على المؤجِّر إرجاعها . ويجوز أخذ بعضها عند فسخ العقد من مستحقات المستأجر .
4- ضمان العقار وتأميته لا يصح جعله على المستأجر بل على المؤجِّر . لأنه لو كانت على المستأجر انقلب العقد إلى بيع ، فيفسد العقد المتفق عليه بلا خِلاف بين العلماء . وقد تقرر عند الأصوليين وجوب استصحاب الحكم الذي دل الشرع على ثبوته فلا يجوز تحريفه لمقصد ألغاه الشارع الحكيم .
5- الزيادة في الأقساط على المستفيد من العقد وهو المستأجر عند التأخر في السداد ربا صريح ، حتى وإن سمِّيت بالفائدة البنكية ، كأن تكون اثنين في المئة أو ثلاثة في المئة . فهم يزيدون في الأجل ويزيدون في الربح ويسمونه تورُّقاً للتحايل على البسطاء .
6- تأجير العقار المنتهي بوعد تمليكه يبطل بالكلية إذا اشترط المؤجِّر على المستأجر أن يعود العقار إليه إن عجز عن بعض الأقساط المتأخِّرة ، فيكون المؤجِّر قد ربح العوض والمعوض عنه ، وهذا حرام شرعاً وغبن للناس الضعفاء
7- الغرامات التي تفرضها الشركات على المستأجرين عند تأخرهم عن السداد محرمة بالإجماع لأنها ربا محض ولا وجه لاستحقاقها .
8- يجوز للشركات عند تعثر المستأجر في السداد أن تُمدِّد مدة الإجارة أو تشتري العين المؤجَّرة أو تردَّها إلى صاحبها أو تنهي عقد الإجارة .
9- الراجح في التكييف الشرعي لعقود الإجارة المنتهية بالتمليك أنها عقود بيع ورهن لكنها قائمة في أصلها على الإجارة . وهذا سبب اختلاف العلماء فيها في هذا العصر . وإذا كان مآل العقد الجهالة والغرر فيكون العقد غير مستقر الحكم ، والأولى اجتنابه حتى ينضبط بالضوابط الشرعية .
10- لا يصحُّ وصف العقد بالإجارة المنتهية بالتمليك، فالإيجار لا ينتهي بالتمليك،وإنَّما ينتهي بانتهاء مُدَّته، ثم يأتي حال التمليك بعد انتهاء مُدة الإجارة، فإنكان بلا ثمن فهو هِبة، وإن كان مقابل ثمن فهو بيع .
11- إذا اقترن عقد الإجارة بعقد هبةٍ للعين معلَّقاً على سداد كامل الأجرة ، أو بوعدٍبالهبة بعد سداد كامل الأجرة ، فهذا عقد جائز
12- بيع المرابحة للآمر بالشراء، يقوم على أساس أن الراغب في شراء سلعة أو عقار مايبدي رغبته للمُموِّل الذي هو البنك أو طرف ثالث – سواء كان فرداً أو شركة أو غير ذلكفي أن يشتري شيئاً معيناً بأوصاف يذكرها، ثم يقوم المموِّل بشرائه منالمالك الأصلي، وبعد حيازته يقوم ببيعه بعقد مستقل على الآمر بالشراء وهو العميل،بثمن مؤجَّل يناسب قدرته المالية، وحيث إن الثمن دين في ذمة المشتري مؤجل إلى أقساطمحددة ، فإن البائع يقوم برهن هذا العقار وفاء بهذا الدَّين، وهذه الصورة صحيحة وجائزة .
13- يمكن تصحيح صورة الإجارة الموعودة بالتمليك ، بأن يكون العقد عقد بيع وإجارة، وعقدالبيع معلق لزومه على تمام مدة الإجارة وسداد جميع الأقساط .
وجواز تعليق العقود علىالشروط هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ( ت: 728هـ) رحمه الله تعالى . ويمكن أن تكون صورة العقد عقد إجارة مقروناًبعقد بيع مشروط فيه الخيار للمؤجِّر إذا لم يلتزم المستأجر بشروط العقد، ولا مانع منذلك شرعاً .
14- طريقة البنوك في التغرير بالمستفيد أنها تُدخل عقدين في عقدٍ واحد ، أو صفقتين في صفقة واحدة ، وهذا كالبيعتين في بيعة منهي عنهلوجود الغرر في تداخل العقود ، فلا هو بيعٌ محض ولا هو إجارة محضة ، فقد يشتري السلعةبقصد البيع فيُكره على الإجارة ، وقد يريد السلعة إجارة ويكره على البيع بعدها . ولا شك أن هذا مما يقوِّي القول بالحذر من هذه العقود .
15- عقود البنوك يغلب عليها التدليس في البنود الفقهية ، وفي بعضها غبن للمستأجر المغلوب على أمره ، فلا يصح التعويل عليها إلا بعد فهمها حتى لا يقع المستفيد في الغبن والغش المتحقق وقوعه .فضابط المنع للتأجير المحرم أن يرد عقدان مختلفان في وقت واحد على عين واحدة في زمن واحد . فكل عقد إجارة ينتهي بتملك العين المؤجرة مقابل ما دفعه المستأجر من أجرة خلال المدة المحددة، دون إبرام عقد جديد، بحيث تنقلب الإجارة في نهاية المدة بيعاً تلقائياً، فهو محرم ولا يصح .
وكل إجارة عين لشخص بأجرة معلومة ولمدة معلومة مع عقد بيع له معلق على سداد جميع الأجرة المتفق عليها خلال المدة المعلومة، أو مضاف إلى وقت في المستقبل، فهي إجارة باطلة لا تصح .
وكل عقد إجارة حقيقي، واقترن به بيع بخيار الشرط لصالح المؤجِّر، ويكون مؤجَّلاً إلى أجل محدد ، فهو باطل ولا يصح
وختاماُ فهذه دعوة جادَّة للتجار المسلمين بتأمين البدائل الشرعية لتسهيل تملك الناس للعقار عن طريق المرابحة الشرعية ، ووأد حِبال الربا التي بدأت تتمدَّد في البلاد الإسلامية على مرأى المسلمين بمسمَّيات شرعية ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن بديع فقه ابن القيم( ت:751هـ ) رحمه الله تعالى قوله : ” إن على الحاكم عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزام الناس به ، والصبر على ذلك والجهاد عليه ” .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
http://ahmad-mosfer.com/?p=1063