بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله وحده،والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:أما بعد:
وقفةٌ مع الدكتور البستوي في تصحيحه لحديث (المهدي من ولد فاطمة)
فهذا حديثٌ من الأحاديث التي أخرجها الأئمة النقاد من باب( ليس بصحيح) وأدخلها المعاصرون من باب( التنقيح)، أحاديثُ لا وزن لها في ميزان الصناعة عند قدامى المحدثين إلا أنَّ بعض المعاصرين أبى إلا أن يكون لها شان وقيمة، أبى بعضهم إلا أن يعمد إلى الميزان النقدي العتيق بإحداث تغيير فيه ليغدو ميزاناً عصرياً لا يبخس الأخبارَ شيئاً ...والله يجزي المتصدقين...
لست هنا منازعا للدكتور-بارك الله فيه- في مسألةٍ حديثيةٍ يرى فيها رأياً قد سبق إليه -مع أنه في مسألتنا هذه لم يسبق إلى ما ذهب إليه-، وإنما النزاع في منهج التعامل مع تعليلات الأئمة ومنازعتهم في قواعدهم ومسالكهم في تعليل الأخبار .
وهذا أوان الشروع في المقصود...
أولاً: تخريج الخبر مرفوعاً ومن قول سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى-
**جاء هذا الخبر عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
*رواه مرفوعاً عنه عليُّ بن نفيل وعنه زيادُ بن بيان.
أخرج ذلك أبو داود (2/509) وابن ماجه (4/663) والبخاري في التاريخ الكبير-معلقاً-(3/346))، وابن أبي خيثمة في تاريخه (4/118) والطبراني في المعجم الكبير(23/267)و العقيلي في الضعفاء(2/430) والحاكم في المستدرك(10/458، 885) وابن عدي في الكامل(5/79) والجورقاني في الأباطيل والمناكير(1/172) والداني في السنن الواردة في الفتن (5/1049، 1057 ، 1061)وابن الجوزي في العلل المتناهية(2/860) والذهبي في تذكرة الحفاظ(2/39) كلهم عن أبي الْمَلِيحِ الرَّقِّيّ عَنْ زِيَادِ بْنِ بَيَانٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ نُفَيْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ:كُنَّا عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ فَتَذَاكَرْنَا الْمَهْدِيَّ فَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:( الْمَهْدِيُّ مِنْ وَلَدِ فَاطِمَةَ)
*تراجم الرواة من دون ابن المسيب:
*أبو المليح الرقي:(الحسن بن عمر أو عمرو بن يحيى الفزاري مولاهم، ثقة من الثامنة مات سنة إحدى وثمانين وقد جاوز التسعين بخ د س ق) التقريب
*زياد بن بيان:( زياد بن بيان بفتح الموحدة والتحتانية الرقي صدوق عابد من السادسة د ق) التقريب.
*علي بن نفيل:( علي بن نفيل بنون وفاء مصغر النهدي بنون الجزري لا بأس به من السادسة مات سنة خمس وعشرين د ق) التقريب.
**ورواه قتادة من قول سعيد ابن المسيب ،وعن قتادةَ معمر بن راشد وابن أبي عروبة:
**مَعْمَر بن راشد
أخرج ذلك نُعيم بن حماد في الفتن( 1/368) قال: حدثنا ابن المبارك وابن ثور وعبد الرزاق عن معمر به.
وأخرجه أيضاً الداني في السنن الواردة في الفتن(5/1056) قال: حدثنا ابن عفان حدثنا أحمد حدثنا سعيد حدثنا نصر حدثنا علي حدثنا خالد بن سلام عن رجل عن معمر به.
**سعيد بن أبي عروبة
أخرج ذلك العقيلي في الضعفاء(2/430) فقال: حدثنا معاذ بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن المنهال ، قال حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة به.
وأخرج ذلك ابن أبي خيثمة في تاريخه(4/118) -ومن طريقه الداني في سننه
( 5/1061 )- قال: حدثنا أحمد بن شبوية حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن سعيد بن أبي عروبة به.
كلاهما( معمر،وابن أبي عروبة) عن قتادة ، قال : سئل سعيد بن المسيب عن المهدي : ممن هو ؟ قال : من قريش ، قال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : يا أبا محمد ، من أي قريش هو ؟ قال من بني هاشم ، قلت : من أي بني هاشم ؟ قال : (من ولد فاطمة)
ثانياً: الحكم على الحديث:
اتفق النقاد المتقدمين ومن بعدهم بلا مثنويةٍ على خطأ رواية الرفع- عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم- وأنها محض وهمٍ ليس إلا، لكنهم اختلفوا في الراوي الذي يحمل خطأ الرواية:
فالبخاري وابن عدي وابن الجوزي والذهبي على أن المخطئ زياد بن بيان، قال الإمام البخاري كما في التاريخ الكبير(3/346)في ترجمة زياد بن بيان ( في إسناده نظر)،وأعله ابن عدي حيث أخرجه في ترجمة زياد بن بيان في الكامل(5/79) وقال بعد أن نقل قول البخاري الآنف: (البخاري إنما أنكر من حديث زياد بن بيان هذا الحديث وهو معروف به)، وأعله ابن الجوزي في العلل المتناهية( 2/862 ) وقال:( وهو كلام معروف من كلام سعيد بن المسيب والظاهر أن زياد بن بيان وهم في رفعه)، وقال الإمام الذهبي في ميزان الإعتدال:( 3/126) في ترجمة زياد بن بيان:(لم يصح حديثه).
وأما الإمام العقيلي فيرى أن المخطئ في الرواية هو علي بن نفيل ، لذا قال في ترجمته في الضعفاء(3/974):( علي بن نفيل الحراني -هو جد النفيلي- عن سعيد بن المسيب في المهدي ، لا يتابع عليه ، ولا يعرف إلا به)،وقد أعلَّ الإمام العقيلي رواية ابن نفيل المسندة برواية قتادة عن سعيد من قوله ، ورجح رحمه الله أن الصحيح في الخبر أنه من قول سعيد لا من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، لذا قال في الضعفاء (2/430) بعد إخراجه رواية ابن أبي عروبة عن قتادة :( ورواه معمر عن قتادة هكذا من قول سعيد بن المسيب ، وروايتهما أولى، وفي المهدي أحاديث صالحة الأسانيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يخرج مني رجل ، ويقال من أهل بيتي ، يواطئ اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي » فأما من ولد فاطمة ففي إسناده نظر كما قال البخاري والصحيح قول سعيد بن المسيب ، وأما مسند فلا) هكذا أعلَّ العقيلي رواية الرفع بما رواه قتادة عن سعيد، ولو كان الخبر مرفوعاً عند سعيد لرواه قتادة وهو الحجة الثبت ولم اكتفى بنقل قول سعيد بن المسيب ، أما أن يتفرد ابن نفيل بالخبر مرفوعاً ولا يروى إلا عنه ففما لا يحتمل ولا يقبل.
أمَّا الإمام الجورقاني فيرى أن المخطئ غير ابن نفيل و زياد فقال بعد إخراجه الخبر المرفوع:( هذا حديث منكر،تفرد به علي بن جميل الرقي،وهو منكر الحديث)
الخلاصة في هذا الباب أن كلمة كبار الحفاظ وهم البخاري والعقيلي وابن عدي والجورقاني وابن الجوزي والذهبي= متفقة على ضعف رواية الرفع وردِّها، فالخبر مردودٌ سواء قلنا أخطأ ابن نفيل أو أخطأ ابن بيان.
وأشير هنا أن ابن أبي خيثمة ألمح في تاريخه(4/118) إلى تعليل رفع الخبر حيث أبتدأ بإخراج المرفوع ثم أردف بإخراج الخبر من قول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى،ومسلك الإعلال بالتلميح معروف عن أئمة النقد رحمهم الله تعالى في مصنفاتهم كالإمام أحمد في مسنده والإمام النسائي في سننه وابن أبي خيثمة في مواضع من تاريخه.
ثالثاً:مناقشة الدكتور :
قال الدكتور عبد العليم بن عبد العظيم البستوي في كتاب المهدي المنتظر في ضوء الأحاديث والآثار الصحيحة-وهو كتاب مفيدٌ في بابه-(1/202)([1]) بعد أن أورد كلام البخاري والعقيلي وابن الجوزي والذهبي :((ومن هنا نرى أنهم لم يجدوا علة قادحة واضحة في هذا الحديث ولذلك اختلفوا فمنهم من يرى أن زياد بن بيان واهم في هذا استئناساً بقول البخاري، ومنهم من يرى أن النفيلي هو المتوهم تبعاً للعقيلي))
هذا الإستنتاج غير دقيقٍ، فمن أين للدكتور أن الأئمة لم يجدوا علة قادحة واضحة، وهل يعقل أن يتوارد كبار الحفاظ على تضعيف حديث دون علة واضحة في الخبر؟؟
إن منازعة الدكتور للأئمة لا تستند إلى أساس نقدي متين وما هي إلا ظواهر الأسانيد دون مراعاة لما يحتف بخبر الثقة من قرائن الرد، ومن يقرأ كلام الدكتور يتوهم أننا ما زلنا في طور تقعيد منطلقات التعليل ومسالكه لا أننا في عصر التلقي والتسليم المطلق لأئمة النقد في منطلقاتهم ومسالكهم التعليلية والنقدية، كما أن تصوير الدكتور لما ظاهره التباين بين الأئمة ليس بمسعف له إلى ما ذهب إليه من تصحيح الإسناد لأن التباين إنما هو في الراوي الذي يحمل الخطأ في الرواية مع اتفاقهم أجمعين أبتعين أبصعين على حصول الخطأ والوهم في الرواية.
((أما كلام العقيلي في علي بن نفيل بأنه (لا يتابع عليه) فلا حاجة له إلى المتابعة))
العقيلي ليس نحوياً أو لغوياً تكلَّم في غير فنه حتى يرد عليه بمثل هذا ، بل هو أحد النقَدَةِ الذين أسَّسوا صرح قواعد القبول والرد الحديثي، ومنه رحمه الله تعلم الناس أن الثقة مقبول الرواية لا يحتاج إلى متابعة إلا إذا لاحت قرينة تدلُّ على خطأه ووهمه ، ومنه تعلم الناس أن التفرد منه ما يقبل من الراوي الثقة فلا يحتاج إلى متابعة ومنه ما لا يقبل ولو كان المتفرد ثقة حافظا،ومردُّ الحكم في هذا إلى القرائن فليس هناك قاعدة مطَّردة في الباب،ومسألة التفرد في عصرنا أضحت عند بعض المشتغلين بالسنة من المسائل الهامشية وذلك لمَّا صار ظاهر الإسناد وعدالة النقلة كفيلين بالتصحيح والتحسين،وأما في عصر النقاد فقد كانت قرينةً ذات شأن ، (قال عبد الله: حدثني أبي قال:حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال حدثنا عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري عن سعيد بن المسيب أنا أبا بكر لما بعث الجنود إلى نحو الشام،يزيد بن أبي سفيان ،وعمرو بن العاص ،وشرحبيل بن حسنة مشى أبو بكر مع أمراء جنوده يودعهم فذكر الحديث بطوله.
سمعت أبي يقول:(هذا حديث منكر ،ما أظن من هذا شيئا،هذا من كلام أهل الشام أنكره أبي على يونس من حديث الزهري كأنه عنده من حديث يونس عن غير الزهري))([2])
فهذا الحديث مما أنكره الإمام أحمد وأعله بسبب تفرد يونس بن يزيد به،وهو وإن كان ثقة إلا أن تفرده بالحديث دون سائر أصحاب الزهري كمالك وشعيب بن أبي حمزة وابن عيينة وعُقيل والزبيدي وغيرهم يدل على أن الحديث غير محفوظ عنه،وإنما وهم فيه يونس بن يزيد ودخل له حديث في حديث)([3])، ولله درُّ الحافظ ابن رجب حين قال:(وأما أكثر الحفاظ المتقدمين فإنهم يقولون في الحديث - إذا تفرد به واحد - وإن لم يرو الثقات خلافه - : ( إنه لا يتابع عليه) ويجعلون ذلك علة فيه ، اللهم إلا أن يكون ممن كثر حفظه واشتهرت عدالته وحديثه كالزهري ونحوه ، وربما يستنكرون بعض تفردات الثقات الكبار أيضاً ،ولهم في كل حديث نقد خاص ، وليس عندهم لذلك ضابط يضبطه)([4])
هذا هو نَفّسُ النقاد الكبار وهذا هو مسلكهم في الأسانيد والأخبار أما الجمود على ظواهر الأسانيد فهو أشبه ما يكون بجمود مدرسة الظاهر التي اتخذت من ظواهر النصوص الشرعية منطلقاً لتصوراتهم الشرعية والفقهية دون مراعاة لروح النصوص ومقاصدها، ورحم الله الشيخ الألباني عندما حذر من مسلك التصحيح بظاهر السند عندما قال:( ابن حزم نظر إلى ظاهر السند فصححه وذلك مما يتناسب مع ظاهريته ، أما أهل العلم والنقد فلا يكتفون بذلك بل يتتبعون الطرق ويدرسون أحوال الرواة وبذلك يتمكنون من معرفة ما إذا كان في الحديث علة أو لا ولذلك كان معرفة علل الحديث من أدق علوم الحديث إن لم يكن أدقها إطلاقا، لذلك رأينا أهل العلم والنقد منهم قد حكموا على الحديث بأنه وهم وأن الصواب فيه الوقف منهم الدارقطني والبيهقي والعسقلاني وغيرهم ممن نقل كلامهم وأقرهم عليه كالزيلعى فإين يقع تصحيح إبن حزم من تضعيف هؤلاء)([5])
قال الدكتور:(وأما قول البخاري في ترجمة زياد بن بيان (في إسناده نظر) فليس جرحاً في الراوي ولكنه يرى النظر في إسناد الرواية،ولم أجد من فسر وجه النظر هذا سوى- ما -أشار إليه ابن الجوزي من أنه كلام معروف لسعيد بن المسيب وأن زياد بن بيان وهم في رفعه، وذكره المنذري أيضا دون أن يسمي قائله)
لا أدري لمَ أعرض الدكتور عن كلام ابن عدي الذي هو أعلم بمراد البخاري حيث قال:( والبخاري إنما أنكر من حديث زياد بن بيان هذا الحديث وهو معروف به )
(وسيأتي كلام ابن المسيب هذا في الآثار (برقم17) وإسناده بمجموع طرقه حسن،إذن فليس هو أحسن حالاً من هذا الإسناد حتى يكون علة لتضعيف هذا الحديث، ولا منافاة بين الروايتين فهذا القول من الأمور الغيبية التي لا يقول بها ابن المسيب رحمه الله إلا إذا كان عنده خبر صحيح .... فقول ابن المسيب جاء جواباً على استفسارٍ عن المهدي وجاءت رواية علي بن نفيل فبينت الخبر الذي اعتمد عليه ابن المسيب رحمه الله في فتواه، فكلا الخبرين عنه صحيح....وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة، وقال العزيزي في السراج المنير بشرح الجامع الصغير (إسناده حسن)،وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ((هذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات،وله شواهد كثيرة))،وكذلك في تعليقاته على مشكاة المصابيح، وقال في صحيح الجامع الصغير "صحيح" )
إن من تصدى للحديث بالتصحيح –ومنهم الشيخ الألباني- لم يأتِ عنهم أنهم استجمعوا ما جاء عن هذا الخبر ، فالظاهر أنه غاب عنهم قادح المرفوع وعلته،ولو ظهر لهم لكان لهم كلام آخر -والعلم عند الله تعالى-، فالشيخ الألباني-مثلاً- جاء عنه تصحيح الخبر في غير موطن التحقيق والتدقيق عنده كالسلسلة الصحيحة وإنما جاء عرضاً في الضعيفة،كما أني لا أنسى أن أشير إلى أن المسلك الذي اختاره الدكتور من تصحيح كلٍّ من الخبرين= مقبولٌ في الجملة لولا القرينة القاضية برد الخبر ودفعه ، كما أنَّ النقاد لم يلتفتوا لهذا المسلك وضعفوا المرفوع بقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى كما فعل العقيلي، هذا ما أردت توضيحه،والله من وراء القصد،والحمد لله رب العالمين.
وكتب/أخوكم.
[1] الطبعة الأولى،1420هـ
[2] العلل(3/170)رقم 4757
[3] بحروفه من كتاب(منهج الإمام أحمد في التعليل وأثره في الجرح والتعديل) ص465،ط.دار ابن حزم،1426هـ
[4] شرح علل الترمذي( 2/27 )
[5] إرواء الغليل(6/57)