قال ابن حزم في كتابه التقريب ص194
: « ..لا تبال أن قيل عنك انك مبطل فلك فيمن نسب إليه ذلك من المحققين أكرم اسوة من الانبياء عليهم السلام ومن دونهم. نعم حتى إن كثيرا منهم قتل دفعا لحقه ونسبا للباطل إليه. ولا تستوحش مع الحق إلى احد فمن كان معه الحق فالخالق تعالى معه.
ولا تبال بكثرة خصومك ولا بقدم أزمانهم ولا بتعظيم الناس إياهم ولا بعدتهم فالحق اكثر منهم واقدم واعز عند كل أحد واولى بالتعظيم.
واذا شئت ان تتيقن فساد مراعاة ما ذكرنا فتأمل اهل كل ملة وكل أمة فانك تجحدهم مطبقين على أسلافهم وصفتهم بكل فضيلة وبكل خير وذم أسلاف من خالفهم.
وتأمل كل قول يقال فقد كان القائلون به في أول أمره قليلا، واكثر ذلك يرجع إلى واحد ثم كثر أتباعه.
وفتش كل قول قديم تجده قد كان ابن ساعة بعد أن لم يكن، ثم مرت عليه الايام والشهور والسنون والدهور.
واعلم ان مراعاة هذه الأمور من ضعف العقل أو قلة العلم ولا تبال أيضا وان كانوا فضلاء على الحقيقة فقد يخطئ الفاضل ما لم يكن معصوما.
ولو ان ذلك الفاضل لاح له ما لاح لك لرجع اليك ولو لم يفعل لكان غير فاضل.
واخبرك بحكاية لولا رجاؤها في ان يسهل بها الانصاف عن من لعله ينافر ما ذكرناها وهي أني ناظرت رجلا من اصحابنا في مسألة فعلوته فيها لبكوء كان في لسانه وانتفض المجلس على اني ظاهر، فلما اتيت منزلي حاك في نفسي منها شيء فتطلبتها بعض الكتب فوجدت برهانا صحيحا يبين بطلان قولي وصحة قول خصمي، وكان معي احد اصحابنا ممن شهد ذلك المجلس فعرفته بذلك ثم اني قد علمت على المكان من الكتاب فقال لي ما تريد؟ حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان واعلامه بأنه المحقق واني المبطل وأني راجع إلى قوله. فهجم عليه من ذلك أمر مبهت وقال لي: وتسمح نفسك بهذا؟!
فقلت له نعم، ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا ما أخرته إلى غد.

واعلم أن هذا الفعل يكسبك اجمل الذكر مع تحليك بالانصاف الذي لا شيء يعدله.
ولا يكن غرضك ان توهم نفسك أنك غالب أو توهم من حضرك ممن يغتر بك ويثق بحكمك انك غالب وانت بالحقيقة مغلوب، فتكون، فتكون خسيسا وضيعا جدا وسخيفا البتة وساقط الهمة بمنزلة من يوهم نفسه انه ملك مطاع وهو شقي منحوس، أو في نصاب من يقال له انك ابيض مليح وهو أسود مشوه فيحصل مسخرة ومهزأة عند اهل العقول الذين قضاؤهم هو الحق.
واعلم ان من رضي بهذا فهو مغرور سبيله سبيل صاحب الأماني وإنها بضائع النوكى؛ والمغرى بها يلتذ فيها حتى إذا ثاب إليه عقله ونظر في حاله علم انه في أضاليل وانه ليس في يده شيء.
...»