تابع تعريف اللغة، وكونها ثابتة توقيفا أو اصطلاحا:
[ المتن]:
[فيجوز خلق العلم في الإنسان بدلالتها على مسمياتها(4)، وابتداءُ قوم بالوضع على حسب الحاجة، ويتبعهم الباقون(5)].
[الشرح]:
(1) (فيجوز خلق العلم في الإنسان بدلالتها على مسمياتها):
يعني يجوز أن يُقال: بالتوقيف، فالتوقيف ممكن ولا ينفيه العقل، فيجوز عقلا، إذا التوقيف ممكن، يجوز خلق العِلم؛ أن يخلق الله -عز وجل- العلم الضروري بالألفاظ بدلالاتها على مسمياتها في الإنسان، فيُلهمه حينئذ أن يقول: "الكتاب" فيريد به مسماه الذي هو هذا، ويُطلق "سماء" فيريد به العلو، ويُطلق "الأرض" ويريد به ما يُمشَى عليها.
(2) (وابتداءُ قوم بالوضع على حسب الحاجة، ويتبعهم الباقون):
(وابتداءُ قوم): أي يجوز أيضا ابتداء قوم بالوضع؛ يعني الاصطلاح ممكن كما جاز التوقيف، هذا معطوف على قوله: (فيجوز خلق العلم)، و (يجوز ابتداء قوم بالوضع)؛ أن يبتدئ قوم -واحد أو جماعة بحسب الحاجة على ما احتاجوا إليه في ذلك الزمن- يضعون بعض الألفاظ، إذا أُطلقت تلك الألفاظ انصرفت إلى معانيها، ثم بعد ذلك حدث تطور، إذا جاء أناس بعدهم واحتاجوا إلى معان -ولا بد من ألفاظ تدل عليها- يضعون بعض الألفاظ ويصطلحون عليها، فحينئذ يكون الاصطلاح متولدا، يكون قليلا، ثم يتطور شيئا فشيئا بحسب الحاجة.
لكن نقول: القواعد العامة هذه من الذي ضبطها؟
من الذي ضبط: "كتاب"، و "يكتب"، و "كتب"، و "كاتب"، و "مكتب"، و "كُتَّاب"، و "كَتَبَة"، هذه كلها صيغ وأوزان، لا بد لها من ضابط عام، وكونهم جاء بعدهم قوم يصطلحون على ما ابتدأه الأولون هذا لا ينضبط، بل العقل يمنع هذا.
إذا عرفنا المسألة الأولى؛ أن اللغة توقيفية، وقيل: اصطلاحية، وقيل: بعضها اصطلاحي وبعضها توقيفي.
الأول هو قول الجمهور، ونسبه السيوطي لهم.
توقيف اللغات عند الأكثر ومنهم ابن فورك والأشعري
والثاني: اصطلاحية.
واللـغة الــرب لها قد وضعـا وعزوها لـلاصـطلاح سُـمعا
فبالإشارة وبالتعَيُّنِ كالطفل
|
|
فهمُ ذي الخفا والبَيِّن
|
قالوا في الأول: ما وضع الواضع بالاصطلاح؟ كيف وضعوا اللفظ؟
قال: إما أن يكون بالإشارة، وإما بالتعين، نقول لهم: هذا "كتاب"، حصل بالإشارة، بالتعين يقول له: ائتني بـ "الكتاب" هناك، فيذهب فلا يجد إلا شيئا واحدا هو "الكتاب"، فيعرف أنه "كتاب".
كالطفل فَهم ذي الخفا والبَيِّن
كما أن الطفل يتعلم اللغة من والديه، "ائت بهذا يا بابا"، فيحفظ، يعرف هذا ماء، وهذا شراب، وهذا شاي، وهذا قهوة .. إلى آخره، إذا من أين تعرّف؟ بالاصطلاح.
لكن يلزم أيضا الدور، ووالداه كيف تعرفا على اللغة بالاصطلاح؟ ووالدا الوالدين، وهلم جرا إلى أن يصل إلى آدم -عليه السلام-، فحينئذ نقول: بالتوقيف. وهذا أصح.
هذه المسألة هل تتوقف عليها فائدة أصولية؟
المشهور عند الأصوليين أنه لا ثمرة لها، طويلة الذيل قليلة النيل، هكذا يُقال، وأنها من مسائل الفضول، لكن ذكر صاحب المراقي أن لها فائدة، قال:
يبنى عليه القلبُ والطلاق
|
|
كاسقني الشراب والعتاق
|
هل يجوز قلب اللغة أم لا؟ هل أسمي الإنسان حجرا؟ والحجر ماء؟ والسماء أرضا؟ والأرض سماء، والقاعد جالسا؟ والجالس قاعدا؟ هل يجوز تبديل اللغة أو لا؟
بنوه على هذه المسألة، من قال: إن اللغة توقيفية -بمعنى أن الرب هو الذي وضع هذا اللفظ للدلالة على المعنى- قالوا: يمتنع القلب، لا يجوز أن يُسمى الإنسان حجرا، ولا الحجر حية، ولا الحية عقربا، ولا العقرب ثعبانا، لا يجوز تبديل اللغة، لماذا؟
لأنها توقيفية من عند الرب -جل وعلا-.
وإذا قيل: اصطلاحية. حينئذ يجوز قلب اللغة.
يبنى عليه القلب والطلاق
|
|
كاسقني الشراب والعتاق
|
لو قال لزوجته: "اسقني الماء" ونوى الطلاق؛ كناية خفية، تَطلق أو لا؟
من قال: إن اللغة توقيفية يقول: الواضع لم يضع "اسقني الماء" مرادا به الطلاق، فحينئذ لا تطلق.
ومن قال: إن اللغة اصطلاحية؛ فحينئذ للزوج أن يصطلح، فيُكني عن الطلاق بقوله: "اسقني الشراب"، فإذا قيل اصطلاحية وقال لزوجته أو لعبده: "اسقني الشراب"؛ طلقت الزوجة مع النية؛ لأنها كناية، وكذلك أعتق العبد.