تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 1 من 6 123456 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 20 من 107

الموضوع: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

  1. #1

    افتراضي "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    أشرع -إن شاء الله تعالى- في تنقيح وتصحيح المباحث اللغوية من محاضرات الشيخ العلامة/ أحمد بن عمر الحازمي من شرحه لكتاب (قواعد الأصول ومعاقد الفصول)؛ نظرا لحاجة طلبة العلم إلى هذه المباحث على وجه الخصوص.

    وكنت قد قمت بذلك قبل مدة لنفسي، ثم رأيت أن يكون العمل فيه نفع للجميع، نسأل الله الأجر والقبول.

    بالنسبة لتفريغ هذه المحاضرات فهو من عمل موقع الشيخ حفظه الله تعالى، وجزاهم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء، لكن في الحقيقة المحاضرات المفرغة -وهي لم تراجع من قبل الشيخ- بها أخطاء كثيرة جدا، وهناك أخطاء شنيعة؛ ما بين أخطاء نحوية وإملائية وعلمية، فقمت بتصحيحها وضبطها قدر المستطاع؛ بحيث تكون جاهزة للقراءة والمذاكرة لمن أراد، وفي نظري أنها نافعة جدا إن شاء الله لطلبة العلم.

    ومع ذلك سأقوم بمراجعتها مرة أخرى قبل وضعها في هذا الملتقى المبارك.

    على أن تكون مسائل؛ كل مسألة في مشاركة، ثم أرفعها في ملفات مرفقة، والله المستعان، وعليه التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

  2. #2

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    المباحث اللفظية

    مقدمة في أهمية هذه المباحث:

    [المتن]:

    [ثم هاهنا(1) أبحاث(2) يشترك فيها الكتاب والسنّة؛ من حيث إنها لفظية(3)].


    [الشرح]:

    (1) لما ذكر لك الأصل الأول (الكتاب)، وذكر طرفا مما يختص به، ثم ذكر الأصل الثاني وهو (السنة النبوية)، وذكر طرفا مما تختص به، قال:

    (ثم ها هنا):

    يعني في هذا الموضع سيذكر لك المصنف أبحاثا، هذه الأبحاث لا يختص بها (الكتاب) دون (السنة)، ولا تختص بها (السنة) دون (الكتاب)، بل هي مشتركة بينهما؛ من حيث إنها لفظية.

    (2) (أبحاث):

    أنكر بعضهم هذا الجمع؛ لأن "فَعْل" لا يُجمع على "أفعال"، وإن أثبته كثير من المتأخرين، لكن سيبويه يرفض هذا، يقول: "بحث" يجمع على "بحوث".

    إذًا "أبحاث" هنا جمع "بحث".

    وهو في اللغة: الفحص والتفتيش.

    واصطلاحا -عند أرباب التصنيف-: إثبات النسبة الإيجابية أو السلبية بين الشيئين بطريق الاستدلال.

    إثبات نسبة سلبية أو إيجابية بين طرفين: موضوع ومحمول، أو مبتدأ وخبر.

    بطريق الاستدلال؛ يعني يبحث ويبحث، يفتش ويفحص، ثم بعد ذلك يُثبت نسبة بين طرفين، هذه النسبة نتيجة للاستدلال الذي كان مرتبًا على البحث والفحص.

    (3) (من حيث إنها لفظية):

    هذه العبارة يشير بها إلى أن المُقدِّمة عند الأصوليين -كما هو معلوم- مقدمتان، يذكرون في أوائل الكتب مقدمتين: مقدمة منطقية، ومقدمة لغوية.

    (من حيث إنها لفظية يعني باعتبار كونها لفظا، وإذا كانت لفظية ونزل القرآن بلسان عربي مبين، والنبي -صلى الله عليه وسلم - فصيح، بل "أفصح من نطق بالضاد" كما يُقال، أو إن صح الحديث، ومع ذلك نقول: اشتملت هذه اللغة على أبحاث لا بد من الوقوف عليها لمن نظر في الكتاب والسنة؛ لأن المريد لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها -الكتاب والسنة- لا بد أن يكون على درجةٍ لفهم الكتاب والسنة، لذلك قيل: من لا يعرف اللغة لا يمكنه استنباط الأحكام الشرعية؛ لأن القرآن أعلى درجات اللغة، والنبي -صلى الله عليه وسلم - من البشر أعلى من تكلم باللغة، فحينئذ هذه اللغة لا يمكن أن يستنبط منها، أو ينظر الناظر، أو يتأمل، أو يتدبر، أو يتفهم هذه العبارات إلا إذا كان على مرتبة عالية من هذه اللغة.

  3. #3

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تعريف اللغة، وكونها ثابتة توقيفا أو اصطلاحا:

    [المتن]:

    [منها(1): اللغات توقيفية(2)؛ للدور(3)].

    [الشرح]:

    (1)
    (منها):

    أي من هذه الأبحاث.

    (2)
    (اللغات توقيفية):

    يبحث الأصوليون هل اللغة توقيفية أو اصطلاحية؟ أو بعضها توقيفي وبعضها اصطلاحي؟

    فيه نزاع بينهم، والأشهر أنه لا ينبني على هذه المسألة ثمرة، وحينئذ ذكر الكثير أنها من المسائل الدخيلة على فن الأصول.

    (اللغات توقيفية): اللغات جمع "لغة"، وأصلها "لُغَوة" على وزن "فُعَلة"، حُذفت الواو التي هي لام الكلمة اعتباطا، حينئذ تكون من باب "سنة"، أصلها "سنوٌ"، أو "سنهٌ"؛ لذلك يُجمع على "سنوات"، أو "سنهات".

    وفي الاصطلاح: ألفاظ وُضعت لمعان، هذه الألفاظ موضوعة بأصل الوضع لمعانٍ تدل عليها؛ يعني جُعلت هذه الألفاظ بإزاء معان، كل لفظ له معنى يختص به، إذا أطلق اللفظ انصَرف إلى ذلك المعنى دون غيره، والمعنى هنا أعم من المسمى؛ ليشمل المجاز والحقيقة، إذا قيل: لمعانٍ، نقول: معانٍ جمع معنى، والمراد به ما يُقصد باللفظ، وهو حينئذ يكون أعم من المسمى؛ يعني سواء كان المقصود من اللفظ هو مسمى اللفظ، وهو الحقيقة، أو غير مسمى اللفظ، وهو المجاز، وعليه المجاز موضوع كما أن الحقيقة موضوعة.

    "ألفاظ وُضعت لمعان"، هذه الألفاظ من الذي وضعها؟

    قيل: "توقيفية"؛ بمعنى أن الرب -جل وعلا- هو الذي وضعها، وضعها الله تعالى للخلق، وعلمها أباهم آدم -عليه السلام-، ثم تعلمته ذريته منه، هذا قول الجمهور، وهو الأشهر، وهو الأظهر؛ لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}[البقرة31]، قال ابن عباس –رضي الله عنه-: "وَهِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي يَتَعَارَفُ بِهَا النَّاسُ: إِنْسَانٌ وَدَابَّةٌ، وَأَرْضٌ، وَسَهْلٌ، وَبَحْرٌ، وَجَبَلٌ، وَحِمَارٌ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَمِ وَغَيْرِهَا"، هذا قول ابن عباس -رضي الله عنه- كما حكاه ابن جرير الطبري في تفسيره، وجاء أيضًا في حديث الشفاعة أنه يُقال لآدم: «وعلمك أسماء كل شيء»، حينئذ أخذ الجمهور من هذه الأدلة أن اللغات كلها -ليس خاصا باللغة العربية، لذلك جمع المصنف هنا اللغات، ولم يقل اللغة العربية؛ لأنه أعم- توقيفية.

    إذا عُلم أنها توقيفية، كيف تعلمها آدم؟

    قيل: بإلهام، وهذا هو المشهور، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-؛ أنه تعلمها بإلهام، ألهمه الله -جل وعلا- إطلاق اللفظ وإرادة المسمى، جعل اللفظ دليلا على المعنى.

    (3) (للدور):

    (اللغات توقيفية للدور): ظاهره أنه اختار أن اللغات توقيفية للدور، لكن ليس هذا المراد، المراد أن علة الاختيار؛ لأن القول بالاصطلاح -الذي هو القول الثاني، وهو المنسوب لأكثر المعتزلة- يلزم منه الدور.

    والدور: أن يترتب شيء على شيء آخر، والشيء الآخر يترتب عليه شيء آخر، وهلم جرا إلى ما لا نهاية.

    يعني إذا قيل: اصطلاحية؛ بمعنى أن الخلق اصطلحوا فيما بينهم، أطلقوا اللفظ وأرادوا المعنى، قالوا: نسمي هذا الشيء بأنه "كتاب"، ونسمي تلك التي في العلو "السماء"، والتي نمشي عليها "الأرض"، اصطلحوا فيما بينهم، حينئذ يرد الدور؛ لأنهم اجتمعوا، اصطلح الخلق فيما بينهم، البشر اجتمعوا، كيف اجتمعوا؟ لا بد من منادٍ، ولا بد من داعٍ، ولا بد مَن يهيئ لهذا الاجتماع، بأي ألفاظ اجتمعوا؟ لا بد أنهم قد اجتمعوا للاصطلاح على ألفاظ الاجتماع، ألفاظ ينادي بعضهم بها بعضا، وكيف يتخاطبون في هذا الاجتماع؟ فحينئذ قالوا: هذا يلزم منه الدور؛ كل ألفاظ اصطلحوا عليها للاجتماع أو للتنادي لا بد وأنهم قد سبق لهم أن اجتمعوا ليصطلحوا على ألفاظ الاجتماع، وهلم جرا إلى ما لا نهاية، هذا هو الدور، وهو ممنوع، ولذلك القول بأنها توقيفية هو الأصح.

    قال في المراقي:

    واللغة الرب لها قد وضعا

    وقال السيوطي في الكوكب:

    توقيف اللغات عند الأكثر
    ومنهم ابن فورك والأشعري

  4. #4

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع تعريف اللغة، وكونها ثابتة توقيفا أو اصطلاحا:

    [ المتن]:

    [وقيل: اصطلاحية(1)؛ لامتناع فهم التوقيف بدونه(2)].

    [الشرح]:

    (1) (وقيل: اصطلاحية):

    بمعنى أن البشر قد وضعوا هذه الألفاظ دالة على معانيها التي إذا أُطلقت تلك الألفاظ انصرفت إلى المعاني الخاصة.

    (2)
    (لامتناع فهم التوقيف بدونه):

    لماذا اخترتم أنها اصطلاحية؟ وهذا القول يُنسب لأكثر المعتزلة وبعض أهل السنة؛ لأن فهم ما جاء توقيفا لا يكون إلا بعد تقدم الاصطلاح.

    (لامتناع فهم التوقيف): لو قيل: توقيفية بدون الاصطلاح، إذا أراد الرب أن يُعلم البشر ويُعلم آدم فيقول له: "الكتاب" مراده كذا، و "القلم" مراده كذا، إذًا كيف يفهم آدم؟ قبل أن يكون ثَم اصطلاح ثابت يطلقه المُوقِّف أو الواضع، فإذا جاء التوقيف بهذا اللفظ كان المراد به كذا.

    لكن نقول: لا، ما دام أن السنة فيها: «وعلمك أسماء كل شيء»؛ يعني ظاهر السنة، وما دام أن ظاهر القرآن على أن الرب -جل وعلا- علّم آدم الأسماء كلها؛ حينئذ لا نعدل إلى مثل هذه التعليلات، نقول: الأرجح ما كان ظاهرا في الكتاب والسنة.

  5. #5

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع تعريف اللغة، وكونها ثابتة توقيفا أو اصطلاحا:

    [ المتن]:

    [وقال القاضي: كلا القولين جائز(1) في الجميع، وفي البعض والبعض(2)، أما الواقع فلا دليل عليه عقلي ولا نقلي(3)].

    [الشرح]:

    (1)
    (كلا القولين جائز):

    يعني إذا قيل توقيفية فهو جائز، وإذا قيل اصطلاحية فهو جائز، لماذا؟ قال:

    (2) (في الجميع): يعني كل اللغة توقيفية، أو كل اللغة اصطلاحية، أو بعضها توقيفي وبعضها اصطلاحي، وهذا اختيار ابن حزم -رحمه الله تعالى-، والأرجح الأول.

    (3) (أما الواقع فلا دليل عليه عقلي ولا نقلي):

    يقول القاضي: (أما الواقع)؛ يعني من اللغات هل هو توقيفي أو هو اصطلاحي؟

    (فلا دليل عليه عقلي ولا نقلي).

    لماذا نفى الدليل العقلي؟

    لأن العقل لا مدخل له في الوضع.

    وأما الدليل النقلي، فليس عندنا دليل يقيني يقطع بأن اللغة من وضع الرب -جل وعلا-.

    إن كان المراد نفي الدليل اليقيني فلا إشكال، إما إن كان المراد نفي الدليل الظني، نقول: لا، فيه إشكال، بل النص يدل -ولو ظاهرا- على أن الرب -جل وعلا- علّم آدم الأسماء كلها.

    ثم نقول: من نظر في اللغة، وعلم القواعد العامة التي اصطلح عليها أهل النحو، وكذلك أهل البلاغة، وأهل الاشتقاق، وأهل فقه اللغة، والصرفيون؛ يقطع يقينا بأنه لا يمكن أن يكون ثَمّ اصطلاح اصطلح عليه البشر؛ لأن اللغة بأنواعها، بقواعدها العامة، بأصولها، بكلياتها، بآحادها؛ هذا لا يدركه العقل، ويعجز عنه البشر، ولذلك شاع عند أهل اللغة أنه "لا يحيط باللغة إلا نبي"، يعجز البشر عن إدراك اللغة، فحينئذ نقول: إذا وضعوا "سماء" بالاصطلاح، كيف وضعوا "سماء"؟ ثم تجمع على "سماوات"؟ وهذه الألف إذا وقعت متطرفة بعد ألف زائدة تقلب واوًا؟ "قال": أصلها "قَوَل"، تحركت الواو، والقاعدة عامة: إذا تحركت الياء أو الواو بعد فتح قُلبت .. إلى آخره، نقول: هذه التعليلات، وهذه القواعد الصرفية لا يكاد أن يضعها البشر، بل يعجز عنها البشر.

    ثم الإتقان الذي يوجد مطردًا بين الكلمات والمفردات والتراكيب؛ هذا يقطع الناظر فيه والمتأمل أنه ليس من صنع البشر، قواعد عامة مطردة؛ لا يمكن أن يوجد فاعل إلا وهو مرفوع، ولا يوجد مفعول إلا وهو منصوب، والحال لا تكون إلا مشتقة، وإذا نُقلت جامدة تجد أنه لا بد وأن تتضمن معنى مشتقا، والتمييز لا يكون إلا جامدا، ولا يكون إلا منصوبًا، ثم قد يكون تمييز مفرد، وقد يكون تمييز تركيب، إلى آخره، هل هذا من صنع البشر؟! هذا يعجز عنه البشر، فحينئذ نقول: لا بد أن اللغة توقيفية، كذلك في الأوزان تكون الأفعال الثلاثية ثم الرباعية ثم الخماسية، ولا يوجد سداسي، وفي الأسماء يوجد سداسي أصلي، ثم الثلاثي المجرد يكون على باب "فَعِل" أو "فَعَلَ" أو "فَعُل"، ولا يزيد على ذلك، كل هذا لا يمكن أن يكون من صنع البشر، كيف يتفقون على أنه يلتزم فتَح الفاء، ثم تتحرك العين؟ ولا يوجد "فِعِل"، ولا يوجد "فُعُل" للثقل، لا يعرفون هذا، يعجزون عنه.

    حينئذ نقول: النظر في اللغة يوصل إلى الترجيح بأن اللغة توقيفية؛ للإحكام الذي وُضعت عليه هذه اللغة، والتناسق بين التراكيب، والقواعد العامة، وعدم التناقض؛ نقول: هذا كله دال على أن اللغة توقيفية.

    إذا نستدل بالكتاب والسنة، ونستدل بواقع اللغة، من نظر في اللغة يعلم أنها لا يمكن أن تكون من صنع البشر، وإنما هي توقيفية، والغريب أن الكثير من الأصوليين أهل لغة، ومع ذلك لا ينظرون بهذه النظرة، وإنما ينظرون إلى مجرد هل دلّ العقل أو لا؟ هل هناك نصٌ صريح أو لا؟ وإلا هم على علم بالاشتقاق والتصريف .. إلى آخره.

  6. #6

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع تعريف اللغة، وكونها ثابتة توقيفا أو اصطلاحا:

    [ المتن]:

    [فيجوز خلق العلم في الإنسان بدلالتها على مسمياتها(4)، وابتداءُ قوم بالوضع على حسب الحاجة، ويتبعهم الباقون(5)].

    [الشرح]:

    (1)
    (فيجوز خلق العلم في الإنسان بدلالتها على مسمياتها):

    يعني يجوز أن يُقال: بالتوقيف، فالتوقيف ممكن ولا ينفيه العقل، فيجوز عقلا، إذا التوقيف ممكن، يجوز خلق العِلم؛ أن يخلق الله -عز وجل- العلم الضروري بالألفاظ بدلالاتها على مسمياتها في الإنسان، فيُلهمه حينئذ أن يقول: "الكتاب" فيريد به مسماه الذي هو هذا، ويُطلق "سماء" فيريد به العلو، ويُطلق "الأرض" ويريد به ما يُمشَى عليها.

    (2)
    (وابتداءُ قوم بالوضع على حسب الحاجة، ويتبعهم الباقون):

    (وابتداءُ قوم): أي يجوز أيضا ابتداء قوم بالوضع؛ يعني الاصطلاح ممكن كما جاز التوقيف، هذا معطوف على قوله: (فيجوز خلق العلم)، و (يجوز ابتداء قوم بالوضع)؛ أن يبتدئ قوم -واحد أو جماعة بحسب الحاجة على ما احتاجوا إليه في ذلك الزمن- يضعون بعض الألفاظ، إذا أُطلقت تلك الألفاظ انصرفت إلى معانيها، ثم بعد ذلك حدث تطور، إذا جاء أناس بعدهم واحتاجوا إلى معان -ولا بد من ألفاظ تدل عليها- يضعون بعض الألفاظ ويصطلحون عليها، فحينئذ يكون الاصطلاح متولدا، يكون قليلا، ثم يتطور شيئا فشيئا بحسب الحاجة.

    لكن نقول: القواعد العامة هذه من الذي ضبطها؟

    من الذي ضبط: "كتاب"، و "يكتب"، و "كتب"، و "كاتب"، و "مكتب"، و "كُتَّاب"، و "كَتَبَة"، هذه كلها صيغ وأوزان، لا بد لها من ضابط عام، وكونهم جاء بعدهم قوم يصطلحون على ما ابتدأه الأولون هذا لا ينضبط، بل العقل يمنع هذا.

    إذا عرفنا المسألة الأولى؛ أن اللغة توقيفية، وقيل: اصطلاحية، وقيل: بعضها اصطلاحي وبعضها توقيفي.

    الأول هو قول الجمهور، ونسبه السيوطي لهم.

    توقيف اللغات عند الأكثر ومنهم ابن فورك والأشعري

    والثاني: اصطلاحية.

    واللـغة الــرب لها قد وضعـا وعزوها لـلاصـطلاح سُـمعا
    فبالإشارة وبالتعَيُّنِ كالطفل
    فهمُ ذي الخفا والبَيِّن
    قالوا في الأول: ما وضع الواضع بالاصطلاح؟ كيف وضعوا اللفظ؟

    قال: إما أن يكون بالإشارة، وإما بالتعين، نقول لهم: هذا "كتاب"، حصل بالإشارة، بالتعين يقول له: ائتني بـ "الكتاب" هناك، فيذهب فلا يجد إلا شيئا واحدا هو "الكتاب"، فيعرف أنه "كتاب".

    كالطفل فَهم ذي الخفا والبَيِّن

    كما أن الطفل يتعلم اللغة من والديه، "ائت بهذا يا بابا"، فيحفظ، يعرف هذا ماء، وهذا شراب، وهذا شاي، وهذا قهوة .. إلى آخره، إذا من أين تعرّف؟ بالاصطلاح.

    لكن يلزم أيضا الدور، ووالداه كيف تعرفا على اللغة بالاصطلاح؟ ووالدا الوالدين، وهلم جرا إلى أن يصل إلى آدم -عليه السلام-، فحينئذ نقول: بالتوقيف. وهذا أصح.

    هذه المسألة هل تتوقف عليها فائدة أصولية؟

    المشهور عند الأصوليين أنه لا ثمرة لها، طويلة الذيل قليلة النيل، هكذا يُقال، وأنها من مسائل الفضول، لكن ذكر صاحب المراقي أن لها فائدة، قال:

    يبنى عليه القلبُ والطلاق
    كاسقني الشراب والعتاق
    هل يجوز قلب اللغة أم لا؟ هل أسمي الإنسان حجرا؟ والحجر ماء؟ والسماء أرضا؟ والأرض سماء، والقاعد جالسا؟ والجالس قاعدا؟ هل يجوز تبديل اللغة أو لا؟

    بنوه على هذه المسألة، من قال: إن اللغة توقيفية -بمعنى أن الرب هو الذي وضع هذا اللفظ للدلالة على المعنى- قالوا: يمتنع القلب، لا يجوز أن يُسمى الإنسان حجرا، ولا الحجر حية، ولا الحية عقربا، ولا العقرب ثعبانا، لا يجوز تبديل اللغة، لماذا؟

    لأنها توقيفية من عند الرب -جل وعلا-.

    وإذا قيل: اصطلاحية. حينئذ يجوز قلب اللغة.

    يبنى عليه القلب والطلاق
    كاسقني الشراب والعتاق
    لو قال لزوجته: "اسقني الماء" ونوى الطلاق؛ كناية خفية، تَطلق أو لا؟

    من قال: إن اللغة توقيفية يقول: الواضع لم يضع "اسقني الماء" مرادا به الطلاق، فحينئذ لا تطلق.

    ومن قال: إن اللغة اصطلاحية؛ فحينئذ للزوج أن يصطلح، فيُكني عن الطلاق بقوله: "اسقني الشراب"، فإذا قيل اصطلاحية وقال لزوجته أو لعبده: "اسقني الشراب"؛ طلقت الزوجة مع النية؛ لأنها كناية، وكذلك أعتق العبد.

  7. #7

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    مسألة: هل تثبت الأسماء قياسا؟

    [المتن]:

    [ثم قال: ويجوز أن تثبت الأسماء قياسا(1)؛ كتسمية النبيذ خمرا(2)، وكقياس التصريف(3)، ومنعه أبو الخطاب، والحنفية، وبعض الشافعية(4)].

    [الشرح]:

    (1) (ويجوز أن تثبت الأسماء قياسا):

    هل يجوز أن تثبت الأسماء قياسا على أسماء أخرى؟

    هل اللغة تثبت بالقياس؟


    مرادهم بهذا أن الواضع إذا وضع اسما لذات مراعاة للمعنى؛ لصفة فيه، ثم وُجدت هذه الصفة في شيء آخر، هل يجوز أن يُسمى ذلك الشيء الآخر بالاسم الأول أو لا؟

    فيه خلاف، هنا قال: (ويجوز أن تثبت الأسماء قياسا)؛ يعني قياسا على أسماء أخرى، وبه قال أكثر الحنابلة، واختاره ابن قدامة -رحمه الله تعالى- في الروضة.

    (2) (كتسمية النبيذ خمرا):

    النبيذ يُسمى خمرا، هل يجوز أو لا؟

    هذا مبني على خلاف لغوي، الخمر إنما سُميت خمرا؛ لأنها تَخْمُر العقل؛ بمعنى تغطيه، للإسكار؛ العلة التي فيه هي الإسكار، النبيذ قد يكون مُسكرا ويغطي العقل؛ إذا يَخْمُر العقل، وُجدت هذه العلة في النبيذ ولم يُطلق العرب عليه أنه خمر.

    هل يجوز أن نسمي النبيذ خمرًا أو لا؟


    هذا فيه خلاف، قال:

    (يجوز أن تثبت الأسماء قياسا؛ كتسمية النبيذ خمرا)؛ فحينئذ إذا صح تسمية النبيذ خمرا، تكون حرمته بالنص لا بالقياس، {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ منْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}[المائدة90]، إذا قيل: الخمر سميت للمخامرة، والنبيذ جاز أن يُسمى خمرا قياسا؛ فحينئذ يكون النص هو الدليل على تحريم النبيذ.

    وإذا قيل بالمنع؛ حينئذ نحتاج إلى القياس الشرعي، فنبحث عن الأصل، وحكم الأصل، والعلة -التي هي الجامعة بين الأصل والفرع-، فنُلحق الفرع -الذي هو مجهول الحكم- بالأصل، بجامع الإسكار.

    وفرعه المبني خفة الكلف فيما بجامع يقيسه السلف

    إذا هل تثبت اللغة بالقياس أو لا؟

    فيها قولان، ولكن تحرير محل النزاع أن يُقال: العَلَم لا يجوز بالاتفاق، الأعلام لا يجوز فيها القياس قولا واحدا، وإنما الخلاف في المشتق، ليس المشتق عند النُحاة، وإنما المشتق عند الصرفيين؛ يعني ما دل على صفة، إذا سُمي به من أجل هذه الصفة ووُجدت تلك الصفة بعينها في ذات أخرى هل يجوز أن يُسمى الشيء الآخر لوجود الصفة بما سُمي به الأول؟
    هذا محل خلاف.

    (3)
    (وكقياس التصريف):

    التصريف: عندنا قواعد عامة، كل ما جاء على وزن "فَعُل" مضارعه يأتي على وزن "يفعُل"، هل يشترط أن يسمع كل فعل على وزن "فَعُلَ" لا بد أن يُسمَع أنه جاء به الناطق على وزن "يفعُل"؟ أم لنا أن نقيس؟

    لنا أن نقيس.

    حينئذ تقول: نطق العرب بـ "شرُف" "يشرُف" مثلا، ما نطقوا بـ "كرُم" "يكرُم"، هل نقيس أو لا؟

    نقيس، كما جاز قياس التصريف؛ بأن تكون ثم أوزان معتبرة عند أهل الصرف إذا عُلم الأصل العام؛ يكون موضوعا بالوضع العربي، ثم بعد ذلك لك أن تقيس أنت، فكل اسم أردت أن تأتي به على زنة "فاعل"؛ بمعنى أنه دال على ذات متصفة بصفة فتأتي به على وزن "فاعل" "ضارب"، "قاتل"، "كارم"، "شارف"، هل يُشترط في الألفاظ هذه كلها أن تكون منقولة عن لغة العرب أم أننا نأتي بها على زنة "فاعل"؟ والمفعول نأتي به على زنة "مفعول"؟ وأفعل التفضيل تأتي به على زنة "أفعل"؟

    نقول: لا، أوزان معلومة سُمعت في بعضها، وما لم يُسمَع أنت تقيسه على ما سُمع، إذًا وُجد القياس، ولذلك جوّزه القاضي هنا.

    (4) (ومنعه أبو الخطاب، والحنفية، وبعض الشافعية):

    وقيل أكثر الشافعية.

    لماذا؟

    لأن الواضع وضعه -أي المعنى- لشيء واحد، وضع الخمر لمسماه الذي وضعه له، فحينئذ لا يجوز لنا أن نتعدى بهذا اللفظ ونضعه لشيء آخر؛ لأن اللغة نقل محض، فما أطلقه الواضع على مسماه لا يجوز أن نعدل به فنسمي به شيئا آخر، هذه علة من منع؛ أن اللغة نقل محض، وأنها وضعت هذا اللفظ لمعنى واحد.

    لو قيل: إنها وضعته لمعنيين: للخمر المعهود الذي هو عصير العنب، والنبيذ؟

    نقول: تعيينه لواحد منهما هذا يكون من باب التحكم، وإذا وُضع لمعنى واحد ونقله لمسمى آخر نقول: هذا تعدٍ به لما لم تضعه العرب.

    إذا نقول: هل تثبت اللغة بالقياس؟

    نقول: هذا فيه خلاف، فيه ثلاثة أقوال: المنع، والجواز، والثالث: أن بعضهم فرّق بين الحقيقة والمجاز.

  8. #8

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    مسألة: تعريف الكلام:

    [المتن]:

    [والكلام(1): هو المنتظم(2) من الأصوات(3) المسموعة المعتمدة على المقاطع(4) ، وهي الحروف(5) ، وهو جمع كلمة(6)، وهي اللفظ الموضوع لمعنى(7)، وخَصَّ أهل العربية(8) الكلام بالمفيد(9)، وهو(10) الجمل المركبة من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر(11)، وغير المفيد كَلِمٌ(12)].

    [الشرح]:

    (1) (والكلام):

    من المباحث التي تتعلق بهذه المقدمة: الكلام.

    لماذا يبحثون في الكلام؟

    لأن القرآن كلام الله -عز وجل-، والنبي –صلى الله عليه وسلم- سنته منها ما هو كلام، وليست كلها كلاما.

    (2) (هو المنتظم):

    في تعريف الكلام هنا على ما ذكره المصنف نظر، (الانتظام): المراد به التأليف؛ أن يكون مؤلفا؛ يعني مُركبًا، وهنا يعبر بالانتظام والتأليف؛ للدلالة على أن ثم مناسبة بين المبتدأ والخبر، أو الفعل والفاعل.

    (3) (من الأصوات المسموعة):

    الأصوات: جمع صوت، والمراد به صفة مسموعة؛ كل ما يُسمَع، لكن قيّده هنا المصنف بقوله:

    (4) (المعتمدة على المقاطع، وهي الحروف):

    يعني لا بد أن يكون كل حرف مُعتمدا على مقطع، وهذا مخالف لما هو مشهور عند النحاة؛ لأن الكلام هو اللفظ المفيد، أو اللفظ المركب المفيد بالوضع.

    وإذا حُدّ بهذا الذي ذكره المصنف جاءت الشبهة؛ لأنهم قالوا: لا نعقل من الكلام إلا ما كان معتمدا على مقاطع؛ على مخارج، فكل كلام في لغة العرب لا بد وأن يكون معتمدا على مقاطع ومخارج، فإذا جاء قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ}[التوبة6]، قالوا: الأصل في الكلام أنه لا بد أن يكون على مقاطع ومخارج، وهذا ممتنع، الله -جل وعلا- مُنزّه عن المخارج والمقاطع.

    فحينئذ ماذا نصنع؟

    وجب التأويل.

    لكن لو حُدّ بالحد المشهور؛ الكلام: هو اللفظ المُرَكب المفيد بالوضع، هل يرد هذا الإيراد؟! ونُعرِّف اللفظ: بأنه الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية، ولا نتعرض لمقطع ولا حرف، ولا مخرج ولا إلى ما يُذكر في تلك الحدود؛ حينئذ لا يرد الإشكال.

    فيكون الكلام في لغة العرب إذا أُطلَق قد يُراد به هذا المعنى المذكور هنا؛ فلا يرد الإشكال، أما حدّه بهذا الذي ذكره المصنف فهذا لعله نزعة من علم الكلام.

    (5) (وهي الحروف):

    كل حرف لا بد له من مخرج، وكل حرف لا بد أن يتكيف بكيفية خاصة؛ أن يتكئ على المقطع مع شدة النفَس إلى آخر ما يُذكَر.

    (6) (وهو جمع كلمة):

    هل الكلام جمع "كلمة"؟

    إن لم يكن سَقْط وكان كلام المؤلف على ظاهره نقول: هذا فيه نظر، ليس بجمع "كلمة"، وإنما جمع كلمة "كَلِمٌ".

    ..................... واسم وفعل ثمّ حرف الكلم
    واحده كلمة........... .......................

    يعني واحد الكلم "كلمة"، وليس واحد الكلام "كلمة"، بل الكلام إما يُقال: إنه اسم مصدر "كلم"، "يُكلم"، "تكليما"، و "كلاما"، وقيل: مصدر سماعي، إذا هو مصدر، فكيف يكون جمعا؟!

    (7) (وهي اللفظ الموضوع لمعنى):

    (وهي)؛ أي للكلمة اللفظ الموضوع لمعنى، (اللفظ): يشمل الموضوع والمُهمَل، الموضوع: هو الذي وضعته العرب، والمُهمَل: هو الذي لم تضعه العرب.

    (لمعنى): هذا متعلق بقوله: الموضوع، فحينئذ يختص هذا الحد بالحقيقة ولا يشمل المجاز، ولذلك لو قيل: اللفظ المستعمل في معنى مفرد لشمل الحقيقة والمجاز.

    (8) (وخَصَّ أهل العربية):

    يعني النحاة.

    (9) (الكلام بالمفيد):

    يعني لما تحصل به الفائدة والإفادة، وهذا يستلزم التركيب؛ إذ لا فائدة تامة إلا مع التركيب، الكلام في اللغة: يُطلق ويعم المفيد وغير المفيد، ولذلك حدّه في القاموس بأنه: القول وما كان مكتفيا بنفسه، فيُطلق على القول بأنه كلام في اللغة، وعلى الكلمة بأنها كلام، وعلى المركب الإضافي بأنه كلام، في اللغة، "غلام زيد"، هذا كلام، و "غلام"، كلام، و "إن قام زيد"، هذا كلام؛ لأنه لا يختص بالمفيد، وأما عند النحاة فيختص الكلام بالمفيد؛ يعني المفيد فائدة تامة؛ بحيث يحسن السكوت من المتكلم عليه؛ لا يصير السامع منتظرا لشيء آخر.

    (10) (وهو):

    أي الكلام المفيد عند النحاة.

    (11)
    (الجمل المركبة من فعل وفاعل، أو مبتدأ وخبر):

    أقل ما تتركب منه من فعل وفاعل: "قام زيد"، أو مبتدأ وخبر "زيد قائم".

    (12)
    (وغير المفيد كَلِمٌ):

    أما غير المفيد يسمى كلما، لماذا؟

    لأن الكلم أعم، يشمل المفيد وغير المفيد، وليس مراده هنا أن يُخصص الكلم بغير المفيد، والكلام بالمفيد، لا، إنما مراده أن الكلام يختص بالمفيد، والكلم يُطلق على المفيد وغير المفيد، ولذلك العلاقة بينهما العموم والخصوص المطلق، كل كلام كلمٌ ولا عكس.

  9. #9

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز:

    تعريف الحقيقة وأنواعها:


    [المتن]:

    [فإن استعمل في المعنى الموضوع له فهو الحقيقة(1)، إن كان بوضع اللغة فهي اللغوية(2)، أو بالعرف فالعرفية؛ كالدابة لذوات الأربع(3)، أو بالشرع فالشرعية؛ كالصلاة والزكاة(4)].

    [الشرح]:

    (1) (فإن استُعمِل في المعنى الموضوع له فهو الحقيقة):

    (استُعمِل): الضمير يعود إلى الكلمة أو الكلام؟

    يحتمل أنه يريد الكلمة، وأنه يريد الكلام، لكن بما سيأتي مراده الكلمة.

    (استُعمِل): آخر المذكور هو الكلام، والأصل في الضمير أن يرجع إلى آخر مذكور، لكن سيقسم لنا الحقيقة: لغوية، وشرعية، وعرفية، وهذا التقسيم لأي شيء؟ للمفردات أو المركبات؟

    للمفردات، حينئذ (فإن استُعمِل)؛ أي اللفظ الموضوع لمعنى في المعنى الموضوع له أولا فهو الحقيقة؛ كـ "الأسد"؛ إذا استُعمِل في الحيوان المفترس نقول: وَضَعَ الواضعُ لفظة "الأسد" مرادا بها الحيوان المفترس، فإن قال: "رأيت أسدا" وكان مراده الحيوان المفترس نقول: استُعمِل اللفظ فيما وُضع له ابتداء. وهذا يسمى حقيقة لغوية.

    (2) (إن كان بوضع اللغة فهي اللغوية):

    بمعنى أنه إذا نُظر إلى أن هذا اللفظ قد استُعمِل في موضوعه وكان الواضع لذلك اللفظ بإزاء ذلك المعنى هو أهل اللغة؛ فحينئذ صارت الحقيقة لغوية.

    (3) (أو بالعرف فالعرفية؛ كالدابة لذوات الأربع):

    إذا كان اللفظ المستعمل فيما وُضع له في العرف؛ يعني فيما تعارف عليه أرباب الصناعات، أو أرباب الفنون، أو اللغة العامة (العرف العام)؛ نقول: هذه حقيقة عرفية؛ لأنه لفظ موضوع لمعنى، من الذي وضعه؟

    أصل الواضع اللغة العربية، ولكن من جهة المعنى استُعمِل في بعض أفراده، أو كان أعم من معناه الذي وُضع له في لغة العرب، وإذا نُظر إلى كون الواضع هنا هو العرف سمينا الحقيقة عرفية.

    وهذا هو الفرق بين العرفية والشرعية؛ أن يكون اللفظ قد وُضع في لغة العرب، وهي الأصل.

    ولذلك نقول: اللغات توقيفية، إذا النظر يكون إلى المعنى اللغوي، ثم ننظر إلى هذا المعنى اللغوي؛ إذا استُعمِل فيما وُضع له في لغة العرب فهو الحقيقة اللغوية، إذا أخذ هذا اللفظ وتُصرف في معناه؛ يعني لم يُجعَل دلالة اللفظ على كل المسمى؛ على جميع الأفراد، بل خُص ببعضها، أو زِيد عليه بعض الأفراد؛ حينئذ نقول: حصل تصرف في المعنى، إن كان المُتصرف هو العرف، قلنا: حقيقة عرفية، وإن كان المتصرف في المعنى اللغوي هو الشرع، قلنا: حقيقة شرعية.

    "الدابة": مثال مشهور، هذا عرف عام، في اللغة وُضعت لكل ما يدب على الأرض؛ يمشي على الأرض، سواء كان على بطنه، على رجلين، على أربع، على عشرين، يسمى دابة، حتى "السيارة" تسمى دابة، و "الجمل" دابة، وأنت دابة، هذا في لغة العرب، كل ما يدب على وجه الأرض فهو دابة، لكن في العرف العام خُصت الدابة بذوات الأربع، هذا هو المشهور، "الفرس" و "الحمار" ونحوه، فأنت لا تسمى دابة، و "الحية" لا تسمى دابة، لماذا؟

    لاختصاص اللفظ ببعض أفراده؛ لأن لفظ "دابة" لفظ له معنى عام يشمل كل الأفراد، لكنه خُصّ ببعض أفراده، والمخصِّصُ هو العرف، فأُضيف إليها فصار حقيقة عرفية عامة، والخاصة هذه التي تختص بأرباب الفنون.

    مثلا "الفاعل": كل من أوجد الفعل، لكن عند النحاة اختص بفرد معين، إذا أُطلق "الفاعل" عند النحاة انصرف إلى الاسم المرفوع المذكور قبله فعله، ولا يجوز إطلاقه عندهم على ما ليس اسما مرفوعا مذكورا قبله فعل، نقول: هذه حقيقة عرفية، لماذا؟

    لأن أصل وضع "الفاعل" لكل من أوجد الفعل، إذًا تحته أفراد، تخصيصه ببعض الأفراد دون بعض نقول: هذا تصريف وتصرف في المعنى، من الذي فعل؟

    هم النحاة، صار حقيقة عرفية، لكنها خاصة؛ يعني خاصة بالنحاة.

    (4)
    (أو بالشرع فالشرعية؛ كالصلاة والزكاة):

    إن كان المتصرف في اللفظ العام هو الشرع؛ نُسبت إليه فقيل: حقيقة شرعية؛ كما مثلنا سابقا بـ "الصيام"، هو في اللغة يُطلق على كل إمساك، ولذلك جاء {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ}[مريم26]، إذًا أمسكتْ عن الكلام فأَطلقتْ عليه أنه صيام، "خيل صيام وخيل غير صائمة"؛ بمعنى أنها أمسكتْ عن الجري.

    لكن في الشرع: إمساك مخصوص عن شيء مخصوص في وقت مخصوص.

    إذًا هو خاص، نقول: أُطلق اللفظ على بعض أفراده، من الذي خصّ هذا بذاك؟

    نقول: الشرع؛ فصار حقيقة شرعية.

    الصلاة في اللغة: الدعاء، كل داعٍ فهو مصلٍ، لكن هل هو في الشرع هكذا؟

    نقول: لا، خُصّ ببعض أفرادها -التي هي الصلاة في المعنى اللغوي- وهو أنها أقوال وأفعال مخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مُختتمة بالتسليم.

    الزكاة في اللغة: النمو، كل نامٍ فهو مُزكٍ، وفي الشرع خُصت بمعنى خاص: إخراج قدر مخصوص في شيء مخصوص.

  10. #10

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع: الحقيقة:

    الخلاف في إثبات الحقيقة الشرعية:

    [المتن]:

    [وأنكر قوم الشرعية(1)، وقالوا: اللغوي باقٍ، والزيادات شروط(2)].

    [الشرح]:

    (1) (وأنكر قوم الشرعية):

    وهم المعتزلة، أنكروها عقلا ووجودا (وقوعا).

    وبعض أهل السنة أثبتوها عقلا ومنعوها وقوعا.

    لكن الصواب أنها واقعة.

    لم أنكروها؟

    قالوا: لأن بين اللفظ والمعنى مناسبة، كل لفظ وُضع في لغة العرب فثم مناسبة بين اللفظ وبين المعنى؛ فحينئذ لا يجوز أن يُسحَب ذلك اللفظ لمعنى لم يُوضع له، فيمتنع حينئذ أن يُنقَل اللفظ لدلالة على معنى لم يوضع له في لغة العرب.

    نقول: هو لم يُسحَب كليا، وإنما خُصص ببعض مسمياته؛ ولذلك نقول: كل معنى لغوى فالمعنى الاصطلاحي داخل فيه، وجرى الفقهاء على إثبات الحقيقة الشرعية، كل باب أو كل كتاب تجده في كتب الفقه لا بد أن يُصدّر بالمعنى اللغوي، (كتاب البيع)، يقول لك: البيع لغة: إعطاء .. إلى آخره، واصطلاحا: مبادلة مال بمال، الزكاة في اللغة، الحج في اللغة؛ ليُبين لك أن الأصل هو المعنى اللغوي، والمعنى الشرعي فرع، وأنه ليس بينهما تعارض أو تباين كلي، بل لا بد أن تكون كل حقيقة شرعية منقولة في الأصل عن المعنى اللغوي، وقد زيد عليها بعض الأشياء، إذًا فيه نقل.

    ولا نقول هي كما هي، وزيد عليها بعض الشروط، فرق بين المسألتين؛ فرق بين أن يُقال: حصل نقل؛ نُقل اللفظ مع زيادة في المعنى، أو تخصيص في المعنى، وبين أن نقول: اللفظ في دلالته على المعنى كما هو وزيدت عليه بعض الشروط.
    ولذلك قيل: أول ما تفرّعت على مسألة الحقيقة الشرعية مسألة الإيمان، الإيمان منقول عن لغة العرب أم له حقيقة شرعية؟

    المعتزلة لهم صولات وجولات في هذه المسألة بناء على أن الإيمان هو التصديق فقط ليبقى معناه اللغوي، ولذلك أنكروا الحقيقة الشرعية، وبعض المعتزلة آمن وصدّق بالحقيقة الشرعية إلا الإيمان، انظر الهوى؛ إلا لفظة الإيمان فهي باقية على معناها اللغوي.

    (وأنكر قوم الشرعية)، لماذا؟

    لعدم وجود مناسبة بين اللفظ والمعنى، ويقولون: بالحقيقة العرفية وهي فيها نقل، الحقيقة العرفية نُقل اللفظ من المعنى اللغوي وصار مستعملا في بعض أفراده، وهذا نقل، وعلى طريقتهم ليس ثم مناسبة بين اللفظ والمعنى.

    كونك تُنفى المناسبة بين اللفظ والمعنى في الحقيقة الشرعية، وتُقَر في الحقائق العرفية؛ هذا تناقض.

    (2)
    (وقالوا: اللغوي باقٍ، والزيادات شروط):

    فحينئذ تكون الصلاة، والزكاة، والحج، والإيمان، والكفر، هذه معان لغوية على أصلها، فحينئذ نبحث في الشرع هل زاد عليها قيودا أم لا؟

    فإذا جاء الإيمان في الشرع نحمله على معناه اللغوي، وإذا جاء الكفر نحمله على معناه اللغوي، وإذا جاءت الصلاة والزكاة والحج والصيام نحمل على المعنى اللغوي، ثم هل زاد الشرع فيه قيدًا أم لا؟

    فيقع الخلاف، لا في أصل الحقيقية الشرعية أو المعنى اللغوي، وإنما في الزيادات؛ فيكون الخلاف في الفرع لا في الأصل، لكن إذا قلنا: الحقيقة الشرعية ثابتة؛ فحينئذ ننازع في كون المراد بلفظ الإيمان هو المعنى اللغوي. ففرق بين الخلاف في المسألتين.

    فإذا قال المعتزلة: الإيمان هنا معناه اللغوي. نقول: لا، نمنع أن يكون معناه اللغوي، لماذا؟

    لأن الشرع قد نقله من معناه اللغوي إلى معنى شرعي يليق به، بيّنه الشرع، وإذا سلمنا بأن المعنى اللغوي هو الأصل فحينئذ نقول: نعم {إن الذين آمنوا}؛ بمعنى صدقوا، ثم نأتي نختلف في فرع لا في أصل، فيكون الخلاف فرعي لا جوهري؛ لا معنوي، لماذا؟

    لأننا نبحث هل زيدت شروط أو لا؟ كأنها مسألة فقهية، هل المضمضة واجبة في الوضوء أو لا؟

    هذا مُثبِت وهذا ناف، ويكون الخلاف معتبرا.

    نقول: لا، المسألة ينبني عليه أمر اعتقادي، ولذلك بعض المعتزلة قال: الحقائق الشرعية ثابتة في الفروع لا في الأصول، وخاصة مسألة الكفر والإيمان.

    فالإيمان عندهم هو التصديق، والكفر هو التكذيب، والصلاة هي الدعاء، والزكاة النمو، والحج هو القصد، والزيادات شروط شرعية؛ فهي حينئذ تكون مجازا؛ يعني مجازات لغوية استعملها الشرع؛ استعمال اللفظ في غير ما وُضع له ابتداء، وهذا ليس بصحيح، بل هذا باطل، والصواب ما عليه الجماهير؛ وهو أن الحقائق الشرعية تجوز عقلا، وهي واقعة في الكتاب والسنة.

    وينبني على هذا أنه إذا جاء اللفظ في الشرع نحمله على المعنى الشرعي، ولا يجوز حمله على المعنى اللغوي إلا بدليل؛ لأن الشرع إنما جاء بالشرعية، وليس اللغوية.

    واللفظ محمول على الشرعي إن لم يكن فمطلق العرفي

    فاللغوي على الجلي ...... .....................

    حينئذ إذا تعارضت هذه الثلاث، عندنا معنى لغوي، ومعنى عرفي، ومعنى شرعي، نقول: إذا جاء اللفظ في الكتاب والسنة يُحمَل على المعنى الشرعي، إن لم يكن معنى شرعي فالعرفي، ثم بعد ذلك المعنى اللغوي.

  11. #11

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع: الحقيقة:

    كيفية معرفة نوع الحقيقة:

    [المتن]:

    [وكلٌّ يتعين باللافظ(1)، فمن أهل اللغة بدون قرينة : اللغويةُ(2)، وبقرينة العرف : العرفية(3)، ومن أهل الشرع: الشرعية(4)، ولا يكون مجملا، كما حُكي عن القاضي، وبعض الشافعية(5)].

    [الشرح]:

    (1) (وكلٌّ يتعين باللافظ):

    باللافظ، وليس باللفظ؛ يعني متى نحكم بأن هذه حقيقة لغوية، وهذه حقيقة عرفية، وهذه حقيقة شرعية؟

    قال: (باللافظ)؛ بالمتكلم؛ إن كان المتكلم لغويا حملنا كلامه على المعنى اللغوي، وإن كان المتكلم هو الشرع حملنا ألفاظه على المعاني الشرعية، وكذلك العرفية.

    (2) (فمن أهل اللغة بدون قرينة: اللغويةُ):

    هذا لا إشكال، إذا تكلم اللغوي نحمل كلامه على المعنى اللغوي، ولا نحتاج إلى قرينة؛ لأنه استعمل اللفظ فيما وُضع له، وهو المتكلم بلسان اللغة.

    (3) (وبقرينة العرف: العرفية):

    لأنها فرع عن اللغوية، وإذا كانت فرعا فلا بد من قرينة.

    (4) (ومن أهل الشرع: الشرعية):

    ولو قال في أحكام النصوص الشرعية: شرعية لكان أولى؛ لأن أهل الشرع قد يتكلمون بما ليس مصطلحا عليه، أو ليس بحقيقة شرعية، وإنما الكلام أشد ما يكون فيما إذا جاء نصا، قرآنا أو سنة.

    هل نحمل كلام الرب على الحقيقة الشرعية أو اللغوية؟

    نقول: الحقيقة الشرعية.

    (5) (ولا يكون مجملا كما حُكي عن القاضي وبعض الشافعية):

    اللفظ إذا احتمل الحقيقة اللغوية أو العرفية أو الشرعية لا يكون مجملا، إذا قيل: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}، نقول: الصلاة لها معنيان: معنى لغوي، ومعنى شرعي، إذًا تردد بين معنيين مستويين -هكذا قال القاضي وبعض الشافعية-.

    هل هو مُجمَل أم له معنى أرجح من معنى آخر؟

    لو قيل: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، هذا بنصوص الشرع، هل نحمل الصلاة هنا على المعنى اللغوي أو المعنى الشرعي؟

    هو متردد بين معنيين لا شك، لكن الظاهر والمتبادر والمعنى الأرجح في مثل هذا السياق أنه يُحمَل على المعنى الشرعي بقرينة المُتكلم؛ لأنه نصٌّ شرعي، والأصل في حمل النصوص الشرعية على كلام الشرع؛ على الحقائق الشرعية، ولا يُحمَل على الحقيقة اللغوية إلا بقرينة، ولا يكون مجملا؛ بمعنى أنه دل على معنيين مستويين يحتاج إلى قرينة خارجية.

    لأنه لو قيل: مُجمل، فحينئذ نقول: {أقيموا الصلاة} هذا مجمل، نتوقف، حكم المجمل وجوب التوقف، لا بد من قرينة خارجية تبين لنا الصلاة هنا هل هي اللغوية (الدعاء)؟ أم الصلاة التي هي أقوال وأفعال؟ فننتظر إلى وجود دليل خارجي.
    نقول: لا نحتاج إلى دليل؛ لأنه ليس بمُجمل؛ بل الظاهر المتبادر أنه الحقيقة الشرعية؛ لأن الشرع إنما يبين الأحكام الشرعية لا الأحكام اللغوية.

    (كما حُكِي عن القاضي وبعض الشافعية)، قالوا: إنه مجمل؛ لتردده بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، وهذا هو حقيقة المجمل؛ فحينئذ ينبني على هذا أننا لا نجزم بأن المراد بالصلاة {أقيموا الصلاة} الصلاة الشرعية حتى يرد دليل خارجي، وهذا فاسد.

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Jun 2007
    المشاركات
    1,128

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    جزاك الله خيرا
    العلم النافع ، وذكر الله الحقيقي ، يُهذب الطبع ، ويحسن الأخلاق (البحر المديد /5/317)

  13. #13

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة إسلام بن منصور مشاهدة المشاركة
    جزاك الله خيرا
    بارك الله فيك أخي إسلام.

  14. #14

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع تقسيم الكلام:

    المجاز؛ تعريفه، وشرطه، وأنواع العلاقة:

    [المتن]:

    [وإن استعمل في غير ما وضع له فهو (المجاز)(1)، بالعلاقة(2)، وهي إما اشتراكهما في معنى مشهور؛ كالشجاعة في الأسد(3)، أو الاتصال؛ كقولهم: "الخمر حرام"، والحرام شربها، و "الزوجة حلال"، والحلال وطؤها(4)، أو لأنه سبب أو مُسَبَّبٌ(5)].

    [الشرح]:

    (1) (وإن استعمل في غير ما وضع له فهو (المجاز)):

    (في غير ما وُضع له) أين؟

    إن كان الواضع هو اللغوي؛ في لسان اللغة؛ فحينئذ إذا استُعمِل اللفظ في غير ما وُضع له فهو مجاز عندهم، فالصلاة في الأقوال والأفعال المعهودة في اللسان العربي مجاز، ولكنها في الشرع حقيقة شرعية، استعمال الصلاة في الشرع بمعنى الدعاء مجاز شرعي، استعمال الدابة في ذوات الأربع في اللغة نقول: مجاز لغوي، في العرف العام حقيقة عرفية، استعمال الدابة فيما يدب على الأرض مطلقا في اللغة حقيقة لغوية، في العرف مجازٌ عرفي، إذًا يختلف باختلاف الواضع، إن استُعمِلت في غير ما وُضع له عند اللغوي فهي مجاز لغوي، أو عند الشرع فهي مجاز شرعي، أو عند العرف فهي مجاز عرفي.

    (2) (بالعلاقة):

    وهذا شرط المجاز كما ذكرناه سابقا؛ يعني لا بد من علاقة بين المعنى المنقول عنه والمعنى المنقول إليه، وهذه العلاقة يتوسع فيها البيانيون أكثر من الأصوليين، بل كلام البيانيين أدق وأعمق.

    (بالعلاقة): إذا شرط المجاز بالعلاقة لا يُحكَم بكونه مجازا إلا إذا وُجدت هذه العلاقة، لا بد من علاقة بين المعنى الأصلي المنقول عنه والمعنى المنقول إليه، وكل معنى أثبت المجازيون أنه مجاز فالدليل الذي تطالبهم به أنه لا يمكن أن يُصار إلى المجاز إلا مع وجود علاقة بين المعنيين.

    (3) (وهي إما اشتراكهما في معنى مشهور؛ كالشجاعة في الأسد):

    ذكر المصنف هنا أربعة أنواع للعلاقات:

    (إما اشتراكهما في معنى مشهور بين المعنيين): المعنى الحقيقي والمعنى المجازي.

    (كالشجاعة في الأسد): يُطلق "الأسد" ويُراد به الرجل الشجاع، ويُطلق ويُراد به في المعنى اللغوي الأصلي الحيوان المفترس، إذًا ثم مشابهة بين المعنيين؛ كون الرجل الذي أطلقت عليه أنه "أسد" وُجد فيه معنى، المعنى هو الشجاعة، هذه الشجاعة موجودة في "الأسد" الحقيقي الحيوان المفترس؛ لذلك شبهت هذا الرجل بـ "الأسد"، وكل مجاز علاقته المشابهة فهي استعارة؛ حينئذ استعير لفظ "الأسد" من الحيوان المفترس إلى الرجل الشجاع، نقول: هذه علاقة بينهما، لو لم يكن المعنى مشهورا كالشجاعة لا يجوز؛ مثل "البخَر"، "البخَر" هذا معنى موجود في "الأسد"، لكن لا يعلمه كل الناس، وإنما يعلمون الشجاعة، فإذا قيل رأيت "أسدا يخطب"، يعلمون أنك شبهت "الأسد" الذي هو الرجل الشجاع بـ "الأسد" بجامع الشجاعة، أما "رأيت رجلا يرمي"، وتريد به أبخَر، لا يعرفون، ليس كل الناس يعرف أن الأسد أبخَر؛ وإنما المعنى المشهور هو الشجاعة، إذا لم يكن مشهورا فحينئذ لا يجوز، ولذلك هذا لا يُحكَم عليه بأنه مجاز، ويُقال: هذا غلط.

    (4) (أو الاتصال؛ كقولهم: "الخمر حرام"، والحرام شربها، و "الزوجة حلال"، والحلال وطؤها):

    الاتصال: يعني إطلاق اسم الشيء على ما يتصل به، يعبر عنه بعضهم بالمجاورة.

    (كقولهم: "الخمر حرام")، الخمر هذه ذات، ومعلوم أن الحرام حكم شرعي، والأحكام الشرعية إنما تتعلق بفعل المُكلّف، والخمر هذه ليست من فعل المكلف، وإنما فعل المكلف هو الشرب، فكيف تعلق الحكم هنا بالخمر؟

    نقول: لكون الشرب متصلا بالخمر، فلذلك صحّ إسناد الحرام إلى الخمر كما سيأتي في المجمل، (والحرام شربها).

    (و "الزوجة حلال"، والحلال وطؤها)، أطلق اللفظ إطلاق اسم الشيء على ما يتصل به.

    (5) (أو لأنه سبب أو مُسَبَّبٌ):

    (أو لأنه سبب): أي اللفظ المذكور سبب للمعنى المراد، "رأينا الغيث"؛ مراده العشب، الغيث: المطر، أطلق الغيث وأراد به العشب؛ لأنه سببه، والعشب مُسَبَّب.

    (أو مُسَبَّبٌ): أي اللفظ المذكور مُسَبَّب عن المعنى المراد، يقول قائل: "سقوني الإثم"؛ مراده الخمر، أطلق الإثم على الخمر؛ لأن الإثم مُسَبَّب عن شُربها، والعلاقات أوصلها بعضهم إلى خمس وعشرين مذكورة في المطولات.

  15. #15

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع المجاز:

    مسألة: المجاز فرع الحقيقة:

    [المتن]:

    [وهو فرع الحقيقة، فلذلك تلزمه دون العكس(1)].

    [الشرح]:

    (1) (وهو فرع الحقيقة، فلذلك تلزمه دون العكس):

    (وهو فرع الحقيقة): أي المجاز فرع الحقيقة.

    (فلذلك تلزمه دون العكس): يعني كل مجاز له حقيقة ولا عكس؛ لأن المجاز استعمال ثانوي، استعمال اللفظ في غير ما وُضع له أولا؛ فحينئذ لا بد أن يُوضع له لفظ في لغة العرب، هذا اللفظ دال على معنى إذا أطلق في لسان العرب صُرف إليه، يُستعمَل في غير ما وُضع له، إذًا لا إشكال.

    لكن هل كل حقيقة لا بد أن يكون لها مجاز؟

    الجواب: لا، وبعضهم قال: لا يُشترط أن يكون لكل مجاز حقيقة.

    وهذا فاسد، ومبناه أيضا مسألة الأسماء والصفات؛ لأنهم قالوا: "الرحمن"، "الرحيم"، "الغفور"، هذه كلها مجازات، إذا قيل: مجازات؛ حينئذ استعمل اللفظ في غير ما وُضع له، إذًا وُضع "الرحمن" قبل أن يُسمى به الرب -جل وعلا- وضعا لغويا فاستُعمل في معناه الحقيقي، ثم تُجوّز به إلى معنى آخر فأُطلق على الرب، قالوا: هذا اللازم باطل، فحينئذ ماذا صنعوا؟

    قعّدوا قاعدة مباشرة: "لا يلزم أن يكون لكل مجاز حقيقة"، فـ "الرحمن" مجاز، فإذا أُورد عليهم أين حقيقته؟ قالوا: لا يُشتَرط، بل قد يكون اللفظ مستعملا في المجاز ولا يكون له حقيقة، لكن هذا فاسد غير مقبول؛ بل الصواب أن يُقال: الحقيقة قد تستعمل في مجازها، ولا يلزم أن يكون لكل حقيقة مجاز، ويلزم أن يكون لكل مجاز حقيقة؛ لذلك قال:

    (وهو فرع الحقيقة): أي المجاز فرع الحقيقة؛ لأن الحقيقة أصل، والمجاز فرع.

    (فلذلك): الفاء للترتيب والتفريع.

    (تلزم الحقيقة المجاز دون العكس): تلزمه؛ يعني كل مجاز له حقيقة.

    (دون العكس): ليس كل حقيقة لها مجاز.

    يزيد البعض يقول: وليس لكل مجاز حقيقة، نقول: لا، هذا ليس بصواب.

  16. #16

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع المجاز:

    مسألة: كيفية معرفة الحقيقة من المجاز:

    [المتن]:

    [(تنبيه): الحقيقة أسبق إلى الفهم(1)، ويصح الاشتقاق منه بخلاف المجاز(2)].

    [الشرح]:

    (1) (الحقيقة أسبق إلى الفهم):

    يعني اللفظ يكون له معنيان، الذي يسبق إلى الفهم هو الحقيقة، والذي يكون ثانيا هو المجاز، "رأيت أسدا"، الذي يتبادر إلى الذهن الحيوان المفترس، إذًا استعمال الأسد في الحيوان المفترس حقيقة، واستعماله في الرجل الشجاع مجاز.

    لكن هذا ليس على إطلاقه، وإنما الحقيقة أسبق إلى الفهم من المجاز حيث لا قرينة، أما إذا قُيّد؛ فحينئذ يكون المجاز أسبق، لو قال: "رأيت أسدا يخطب"، هنا المجاز أسبق إلى الفهم، فهذه قاعدة غير مطردة، فلا بد من تقييدها.

    (2)
    (ويصح الاشتقاق منه بخلاف المجاز):

    يعني يصح الاشتقاق من اللفظ الذي استُعمل فيما وُضع له الذي هو الحقيقة، فيُتصَرَف فيه، يُؤتى بالماضي، يُؤتى بالمضارع، يُؤتى بالجمع .. إلى آخره، سائر المشتقات التي يمكن أن تُشتق من اللفظ دال على أنه حقيقة؛ لأن التصرف في اللفظ يدل على قوته وتمكنه وأصالته.

    وقول آخر: أن المجاز أيضا يصح الاشتقاق منه، وعليه لا يصح أن يُجعَل الاشتقاق علامة على الحقيقة، لماذا؟

    لأن المجاز -وهذا يذكرونه في باب الاستعارة التبعية- يُجرى أولا في المصدر، ثم بعد ذلك تُجرى الاستعارة التبعية فيما يُشتَق منه من الفعل أو غيره، فحينئذ صح الاشتقاق من المصدر بعد أن أُجريت الاستعارة فيه، الاستعارة التبعية لها كلام طويل تُجرى أولا في المصدر، ثم بعد ذلك يُنتقل من المعنى المصدري الذي دخله المجاز إلى ما اشتق منه من فعل أو غيره؛ فحينئذ نقول: صح الاشتقاق من المجاز.

    وأحسن ما يُعرَف به الحقيقة عن المجاز هو ما ذكره أولا؛ أن المعنى المتبادر للذهن أولا -لمن يحسن لغة العرب- هو الذي يكون حقيقة، وما عداه فهو مجاز، والأصل في حمل اللفظ هو الحقيقة، ولا يجوز أن يُحمَل على المجاز إلا مع استحالة حمله على الحقيقة، هذا قيد: "حيثما استحال الأصل يُنتَقل إلى المجاز"، وبهذا القيد تَرُد على من أثبت المجاز في الأسماء والصفات؛ فيُقال: لا يمكن حملها على المجازات، والقرينة التي يُقال: إنها استحالة عقلية، هذه قرينة فاسدة لفساد التصور عندهم، وذكرنا هذا فيما سبق؛ يعني مقصودي: أنه لا يُجعَل ردُ المجاز ردا للمؤولة والمحرفة، بعضهم يظن أنه إذا رد المجاز معناه قد انتصر على الأشاعرة وغيرهم، لا، بل وُجد من الأشاعرة، بل من المعتزلة من يُنكر المجاز وهو المحرف المؤول؛ فحينئذ نقول: رد المجاز وجعله دليلا على رد تأويل وتحريف الصفات فيه نوع ضعف.

  17. #17

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع المجاز:

    مسألة: لو دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز:

    [المتن]:

    [ومتى دار اللفظ بينهما فالحقيقة(1) ولا إجمال؛ لاختلال الوضع به(2)].

    [الشرح]:

    (1) (ومتى دار اللفظ بينهما فالحقيقة):

    الحقيقة مقدمة على المجاز، لكن يقيّدون ذلك؛ بأن الحقيقة لا تكون مُماتة.

    أجمع إن حقيقة تُمات على التقدم له الأثبات

    يعني يقدم المجاز على الحقيقة الميتة، إذا صارت الحقيقة مهجورة فالمجاز أولى، إذا قال قائل: "والله لا آكل من هذه النخلة"، فأكل من الخشب لا من الثمرة لا يحنث؛ لأن النخلة تُطلق في العرف على الثمرة وإن كان في أصل الوضع أنها للجذع والثمرة، لكن استعمالها في الثمرة هو الأشهر، فصار استعمالها في الجذع مرادا به الجذع هذا كأنه مُمات.

    (2) (ولا إجمال لاختلال الوضع به):

    (ولا إجمال): لا يقال هنا: بأن اللفظ مجمل؛ لأن اللفظ إذا دار بين معنيين فأكثر ولا قرينة قيل: هذا مجمل.

    وهنا إذا تردد بينهما هل هو مع تساوي المعنيين أو مع ترجيح؟

    مع ترجيح؛ لأن الأصل في حمل الكلام على الحقيقة؛ يعني الغالب والراجح عند السامع أن يحمل الكلام على حقيقته دون مجازه؛ إذًا فلا إجمال بسبب تردده بين الحقيقة والمجاز، لماذا؟

    لو حكمنا بالإجمال؛ (لاختلال الوضع به)؛ يعني لاختل الوضع به؛ أي بالقول بالإجمال؛ يعني هذا تعليل لنفي الإجمال؛ أي لأدى إلى اختلال الحكمة من الوضع، وهي الإفهام، إذا كان الكلام منقسما إلى حقيقة وإجمال، ثم كل لفظ يجوز أن يستعمل في مجازه، كل حقيقة يجوز أن يكون لها مجاز، فإذا جاء لفظ له حقيقة ومجاز إذًا يحتمل المعنيين فنقف، إذًا كل التراكيب نقف فيها حتى يأتي دليل أو تأتي قرينة مرجحة، نقول: اختل الوضع بهذا، إنما وُضع الكلام من أجل قصد التفاهم بين المتخاطبين، فإذا حُمل اللفظ على أنه مُجمل فصارت التراكيب كلها مُجملة؛ لأن المجاز يدخل في الفعل، ويدخل في الحرف، ويدخل في الاسم، والحقيقة أيضا تكون في الفعل، وتكون في الحرف، وتكون في الاسم؛ حينئذ اختلت حكمة الواضع.

  18. #18

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    أقسام اللفظ من حيث الدلالة:

    النص وتعريفه:


    [المتن]:

    [فإن دلّ على معنى واحد من غير احتمال لغيره فهو (النص)(1)، وأصله: الظهور والارتفاع(2)، وقد يطلق على (الظاهر)(3)].
    [الشرح]:

    (1) (فإن دلّ على معنى واحد من غير احتمال لغيره فهو النص):

    هنا شرع في بعض المباحث اللغوية التي تنبني على اللغة، وهي أصولية أيضا، والذي يُعبّر عنه بـ "دلالات الألفاظ"، وهي أهم ما يعتني به الناظر في أصول الفقه: النص والظاهر والمجمل، والعام والخاص، والمطلق والمقيد؛ نقول: هذا أهم ما يهتم به الطالب، شرع فيها المصنف هنا. فقال:

    (فإن دلّ على معنى واحد من غير احتمال لغيره فهو النص): أراد أن يُبين لك حقيقة النص، كل كلمة من جهة المعنى؛ إما أن تدل على معنى واحد فقط، أو على أكثر؛ إما مع التساوي، أو لا، هذه ثلاثة احتمالات.

    ** إما أن تدل الكلمة على معنى واحد فقط.

    ** وإما أن تدل على معنيين فأكثر مع التساوي، حينئذ يُطلَب المرجِّح.

    ** أو على معنيين أحدهما أظهر من الآخر، ثلاثة احتمالات:

    الأول: النص: الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا.

    الثاني: المُجمل: الذي يدل على معنيين فأكثر مع التساوي وعدم التعيين.

    الثالث: الظاهر: الذي له معنيان، ولكنه يكون في أحدهما أرجح من الآخر.

    إذًا القسمة ثلاثية سيتعرض لها المصنف.

    فإن دلّ اللفظ بلفظه وصيغته على معنى واحد واضح من غير احتمال لغيره من المعاني فهو النص.

    والنص عرفا كل لفظ وارد

    لم يحتمل إلا لمعنى واحدِ

    فإذا كان اللفظ لا يحتمل إلا معنى واحدا، فهذا نص في اصطلاح الأصوليين.

    (2) (وأصله: الظهور والارتفاع):

    (وأصله): يعني في لغة العرب مأخوذ من:

    (الظهور والارتفاع): إذًا ارتفع على غيره، ارتفع على الظاهر، وارتفع على المجمل، ومنه "نصّت الظبية رأسها"؛ أي رفعته وأظهرته، ومنه "منصة العروس"؛ لأنها تظهرها وترفعها.

    وقيل: هو الرفع إلى غاية ما ينبغي؛ يعني أعلى ما يمكن أن يصل إليه هو النص، وهنا واضح أن أعلى ما يمكن أن يصل إليه اللفظ أو الكلمة التي لا تحتمل إلا معنى واحدا، وصلت إلى أعلى ما ينبغي أن يكون إليه، بخلاف المحتمل لمعنيين لو كان مع الترجيح أو مع التساوي لم يصل إلى أعلى ما ينبغي.

    والنص له استعمالات عند الفقهاء وبعض الأصوليين، قد يُطلَق النص مرادا به الظاهر، وقد يُطلق النص على كل ما أفاد من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، وقد يطلق النص على الوحيين فقط (الكتاب والسنة)، هذه أربعة إطلاقات.

    نص إذا أفاد ما لا يحتمل غيرا وظاهر إن الغير احتمل
    والكل من زين له تجلى ويطلق النص على ما دل
    وفي كلام الوحيين ........ ...................

    لكن إذا أُطلق عند الأصوليين انصرف إلى المعنى الأول؛ لأنه اصطلاح خاص، والاصطلاح الخاص إذا أطلق في فنٍ ما انصرف إلى ما وُضع له ذلك اللفظ.

    (3) (وقد يطلق على الظاهر):

    يعني يُطلق النص توسعا على الظاهر؛ ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر من الآخر.

    إذًا توسعوا في اللفظ؛ لأن الظاهر يُحمَل على المعنى الراجح؛ فحينئذ تحقق فيه المعنى اللغوي للنص، وهو الارتفاع والظهور؛ لأنه إذا حُمل على المعنى الراجح دون المعنى المرجوح فقد حملناه على ما هو أظهر وأرفع من غيره الذي هو المعنى المرجوح، ولذلك بعد أن عرف المعنى الخاص للنص قال:

    (وقد يطلق على الظاهر): يعني قد يُطلق لفظ النص على الظاهر، وهو: ما احتمل معنى آخر احتمالا مرجوحا.

    الظاهر إذا حكمنا عليه بأنه ظاهر نقول: ما احتمل معنى آخر مرجوحا، لماذا؟

    لوجود الارتفاع والظهور، فالنص مرتفع ظاهر في الدلالة، ومثله الظاهر، وإن كان الظاهر أدنى ظهورا وارتفاعا من النص، لماذا؟

    لأن النص لا يحتمل إلا معنى واحدا، فإذا أطلق اللفظ انصرف إليه، {تلك عشرة كاملة}، لا يحتمل أنها تسعة، ولا يحتمل إحدى عشر، فحينئذ لا يحتمل إلا اللفظ الذي أُطلق، لكن الظاهر: "رأيت أسدا"، المعنى الظاهر: الحيوان المفترس مع احتمال الرجل الشجاع، إذًا حصل نوع ظهور وارتفاع بالمعنى الراجح على المعنى المرجوح.

    لكن هل هو مثل النص؟

    لا، ليس مثله، ظهور وارتفاع النص أعلى من ظهور وارتفاع الظاهر، وظهور وارتفاع الظاهر أدنى من ظهور وارتفاع النص.

  19. #19

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع الظاهر:

    أنواع الدليل الذي يقوي المعنى المرجوح، وتعريف التأويل وأنواعه:

    [المتن]:

    [فإن عَضَدَ الغيرَ دليلٌ يغلِّبه(1) لقرينة(2)، أو ظاهر آخر(3) أو قياس راجح(4)].

    [الشرح]:

    (1) (فإن عَضَدَ الغير دليل يغلّبه):

    الظاهر له معنيان: معنى راجح، ومعنى مرجوح، إذا جاء في إطلاقات الشرع نحمله على المعنى الراجح؛ لأنه هو المتبادر أولا.

    هل يجوز حمله على المعنى المرجوح؟

    نعم، لكن بدليل، لا بد أن يكون بدليل صحيح، وهو ما يُسمى بالتأويل عند المتأخرين، وهو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى المعنى المرجوح بدليل، وهذا قسمان؛ قد يكون فاسدا باطلا مردودا على صاحبه، وقد يكون حقا وصوابا.

    متى يكون حقا؟

    إذا صُرف اللفظ بدليل شرعي صحيح، وأما إن صُرف بالهوى والتحكم؛ فحينئذ صار باطلا فيُرَد على صاحبه؛ لذلك قال:

    (فإن عَضَدَ): يعني ساعد وقوّى.

    (الغير): يعني المعنى المرجوح.

    (دليل يغلّبه): أي أن الدليل جعل المعنى المرجوح للظاهر أغلب على الظن من المعنى الراجح؛ عكسنا القضية، الأصل أن يُحمل الظاهر على المعنى الأرجح الذي يتبادر إلى الذهن، قد نعكس؛ نحمله على المرجوح، لكن بقرينة كما قال هنا، وهذا الدليل ذكر المصنف ثلاثة أنواع فقال:

    (2) (لقرينة):

    أن توجد قرينة في النص تدل على أن المعنى المرجوح هو أرجح، وأن المعنى الأرجح هو مرجوح، قال-صلى الله عليه وسلم-: «العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه».

    هل يجوز للواهب أن يعود في هبته؟

    قال الشافعي: يجوز؛ لأن الكلب لا يحرم عليه أن يعود في قيئه، قال: «كالكلب يعود في قيئه»، وهل يحرم على الكلب أن يعود في قيئه؟ لا يحرم، إذًا العائد في هبته مثل الكلب لا يحرم عليه أن يعود في هبته.

    قال الإمام أحمد: بل يحرم، بدليل ماذا؟

    هذا الظاهر ليس فيه إشكال، «العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه»، لو وقفنا مع هذا النص لقلنا: يجوز، لكن قال الإمام أحمد؛ لأن هناك قرينة تجعل المعنى المرجوح راجحا، وهو أنه قال –صلى الله عليه وسلم- في أول الحديث: «ليس لنا مثل السوء»، قال: هذه قرينة تصرف المعنى الظاهر، وهو استواء العائد في هبته بالكلب في عدم التحريم في الرجوع في القيء والهبة؛ فحينئذ لا يجوز أن يُشابه المسلمُ الكلبَ بنصه –صلى الله عليه وسلم-: «ليس لنا مثل السوء».

    (3) (أو ظاهر آخر):

    (أو ظاهرٍ آخر)، (أو ظاهرِ آخر): يجوز التنوين وتركه؛ يعني يجوز أن يُصرف الظاهر من معناه الراجح إلى معناه المرجوح إذا وافقه ظاهر آخر.

    قال جل وعلا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}[المائدة3]، الظاهر هنا أن الميتة هذا لفظ عام، يسقط اللفظ على كل مسمى الميتة؛ فحينئذ كل أجزاء الميتة مُحرمة لا يجوز أكلها، ولا يجوز استعمالها لنجاستها كما هو معلوم في النص الآخر، لكن جاء دليل آخر ينص على أن جلد الميتة يمكن تطهيره؛ فيُحكَم بنجاسته؛ فلا يحرم استعماله؛ «أيما إهاب دُبغ فقد طهر»، «إذا دُبغ الإهاب فقد طهر»، فهذا ظاهر دلّ على أن قوله: "الميتة" يُستثنى منها، وكل استثناء بلفظ خاص من لفظ عام فهو تخصيص بظاهر.

    (4) (أو قياس راجح):

    قوله تعالى:{الزَّانِي َةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}[النور2]، {الزانية} هذا من حيث اللفظ يشمل الحرة والأمَة، لكن جاء النص بالتخصيص؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}[النساء25]، إذًا استُثنيت الأمَة، صار مُخصِّصا لقوله: {الزَّانِيَةُ} بالحرة، {الزاني} هذا يشمل العبد ويشمل الحر، إذًا ظاهر في العبد، إذا لم يُرَد العبد به صار مرجوحا، جاء قياس راجح رجّح أن اللفظ هنا الزاني ليس مرادا به العبد؛ بدليل قياس العبد على الأمة بجامع الرق؛ فحينئذ يُنَصّف العذاب على العبد قياسا على الأمة بجامع الرق، فيأتي للنص هنا {الزاني} فنقول: هذا مخصوص، فنجعل دلالة اللفظ على العبد الراجحة مرجوحة بالقياس.

    (5) (سُمِّي تأويلا):
    يعني سُمَّيَ اللفظ الذي دلّ على المعنى المرجوح بهذه القرينة والدليل المنفصل سُمَّيَ تأويلا.

    والتأويل في الأصل في إطلاق اللغة: التفسير، ويُطلق عند المتأخرين على صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح بدليل، وقلنا: هذا قسمان، قد يكون حقا، وقد يكون باطلا، إن كان بالنص فلا إشكال، إن كان بدون ذلك فهو باطل؛ لأنهم يسمون تحريف آيات الصفات تأويلا، يقولون: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح.

    {الرحمن على العرش استوى} قالوا: {استوى} لا يُفهم منه إلا الجلوس الذي يعهده الإنسان من نفسه؛ فحينئذ قالوا: لا، هذا لا يجوز، تعالى الله عن ذلك، إذًا لابد من صرفه عن المعنى الظاهر المتبادر من النص إلى المعنى المرجوح، وهو الاستيلاء، إذًا الاستيلاء صار نتيجة، والأول صار فهمًا، ولذلك نقول في مسألة المجاز: الفهم خطأ من أصله.

    {بل يداه مبسوطتان}، قالوا: {يداه} لا نفهم إلا هذه اليد، نقول: فهمكم هذا خطأ من أصله، تصور فاسد، فساد في التصور، فلما فهموا هذا الفهم قالوا: إذًا نبحث عن تخريج لهذه الآية فقالوا: المجاز، إذًا المجاز جاء ثانيًا، لم يأتِ أولا، الأول عندهم: ظاهر دلالة آيات الصفات؛ التشبيه بالمخلوق، فقالوا: ظاهر دلالة الآيات هو التشبيه، لا يُفهَم منها إلا الأمر المعهود، نقول: هذا التشبيه الذي وقع في الذهن فاسد.

  20. #20

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع الظاهر:

    أنواع الاحتمال وما يحتاجه كل نوع:

    [المتن]:

    [وقد يكون في الظاهر قرائن يدفع الاحتمال مجموعها دون آحادها(1)، والاحتمال قد يبعد فيحتاج إلى دليل في غاية القوة لدفعه، وقد يقرب فيكفي أدنى دليل، وقد يتوسط فيجب المتوسط(2)].

    [الشرح]:

    (1) (وقد يكون في الظاهر قرائن يدفع الاحتمال مجموعها دون آحادها):

    (وقد يكون في الظاهر قرائن): عدة قرائن، إذا جُمعت هذه القرائن يكون المراد المعنى المرجوح، لا المعنى الراجح.

    (مجموعها): فاعل.

    (دون النظر إلى آحادها): وهذا يكون ردًا غالبًا فيما يتعلق به بعض الأحناف. «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها».

    «أيما امرأة»: الأحناف قالوا: المراد بالمرأة الصغيرة، أو الأمة، أو المكاتبة، ولا يُحمَل على المرأة العاقلة البالغة الراشدة، بل لها أن تُزوج نفسها.

    نقول: في الحديث هنا قرائن (بمجموعها) تؤيد أن المراد به هو المعنى الراجح، ويصير ما ذهب إليه الأحناف معنى مرجوحا.

    ماذا قال الأحناف؟

    حملها الحنفية على الصغيرة.

    نقول: كيف صغيرة والنبي r قال: «أيما امرأة»؟ إذًا نرده بقوله: «امرأة»، هذا قرينة في اللفظ تدل على أنه لا يُحمَل على الصغيرة، فليست الصغيرة بامرأة.

    قالوا: نحملها على الأمة؛ لأنه يمكن أن تُطلق المرأة على الكبيرة وهي أمة سواء كانت حرة أو أمة؛ لأنها مملوكة.

    فقيل لهم: «فلها المهر»، والأمة لها أو لسيدها؟ لسيدها، فحينئذ كيف يقال: إنه يُحمل على الأمة؟

    إذًا بمجموع هذه القرائن مع قوله: «أيما» هذا نص عام، وإذا كان النص عاما عندنا -وإن كان الصحيح دخول النادر [اللفظ النادر الصحيح]، العام يشمله، لكن لا يُجعَل هو الظاهر وهو المتبادر- فإذا قيل: «أيما امرأة»، "أيُّ"، هذه صيغة عموم تشمل النادرَ وغيرَ النادر على الصواب، حمله على النادر نقول: هذا حمله على خلاف الأصل، تخصيص اللفظ العام بالمعنى النادر أو بالفرد النادر غير الشائع تخصيص له وتحاكم بلا مُخصِّص، فحينئذ يكون اللفظ عاما.

    والاحتمال قالوا: قد يكون في الظاهر قرائن يدفع مجموعها الاحتمال دون آحادها، إذًا يُحمَل اللفظ "امرأة" هنا على الظاهر، وهو المرأة الكبيرة البالغة الراشدة، ولا يُحمَل على المعنى المرجوح، وهو كونها أمة، أو كونها صغيرة، أو كونها مكاتبة.

    (2) (والاحتمال قد يبعد فيحتاج إلى دليل في غاية القوة لدفعه، وقد يقرب فيكفي أدنى دليل، وقد يتوسط فيجب المتوسط):

    يعني الاحتمالات هذه تختلف قربا وبعدا، إذا كان الاحتمال بعيدا جدا حينئذ يحتاج إلى دليل قوي؛ لأن ظاهر اللفظ معنى راجح، وله معنى مرجوح، لكنه بعيد، حينئذ لا بد من دليل قوي يقرّبه إلى أن يكون هو المراد بهذا اللفظ الظاهر؛ مثل ما ذكره الأحناف، «أيما امرأة»، نقول: لا بد من دليل قوي يجعل هذا الظاهر مرادا به الصغيرة أو المكاتبة أو الأمة، ولا يُحمل على هذا النادر إلا بقرينة أو دليل قوي جدا.

    (ثم قد يقرب هذا الاحتمال فيكفي أدنى دليل).

    قوله تعالى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ}، {قُمتُم}، ما المراد؟

    يعني إذا قمت وكبرت ابدأ توضأ، هذا ظاهر اللفظ، إذا بدأت بالصلاة فتلبس بالوضوء؟

    نقول: لا {إِذَا قُمْتُمْ}؛ أي إذا أردتم، بأدنى دليل نصرف الظاهر؛ لأن الأصل في القيام هنا ليس المراد به الإرادة، وإنما المراد به القيام نفسه؛ فحينئذ نصرفه من الظاهر إلى المعنى المرجوح بدليل، ويكفي أدنى دليل، ولا يحتاج إلى عدة أدلة، وأن يكون المعنى منصوصا في نصوص أخرى.

    (وقد يتوسط فيجب المتوسط)؛ مثل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}، المراد بهذا التركيب الذي ذكره المصنف أن الاحتمالات قربا وبعدا، قوة وضعفا، القوي الاحتمال في البعد لا بد من دليل قوي ليُحمَل اللفظ الظاهر عليه، والمتوسط يحتاج إلى دليل متوسط، والقليل جدا يحتاج إلى أدنى دليل.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •