تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 5 من 6 الأولىالأولى 123456 الأخيرةالأخيرة
النتائج 81 إلى 100 من 107

الموضوع: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

  1. #81

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    الصيغ الدالة على الأمر:

    [المتن]:

    [وله صيغة تدل بمجردها عليه(1)، وهي (افعل) للحاضر، و(ليفعل) للغائب عند الجمهور(2)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وله صيغة تدل بمجردها عليه):

    يعني هل له لفظ إذا أُطلق فُهم منه الاستدعاء السابق أم لا؟

    نقول: نعم، وهذا بإجماع السلف؛ لأن القرآن -وهو المراد هنا- وأقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هي الألفاظ، فإذا كانت ألفاظا حينئذ ليس عندنا أمر غير اللفظ، وإنما ينبني هذا القول -هل للأمر صيغة أم لا؟- على القول بالكلام النفسي، ولذلك نقول دائما: إن السؤال المطروح في كتب الأصوليين قديما وحديثا هل للأمر صيغة تخصه؟

    نقول: هذا السؤال بدعة؛ لأن مبناه على بدعة؛ وهو أن الأمر عندهم هو الأمر النفسي، ثم يختلفون هل له صيغة تدل عليه أو لا؟

    بعضهم يرى أنه ليس له صيغة، فإذا قال: "افعل": يحتمل النهي، ويحتمل الأمر، وإذا قال: "لا تفعل": يحتمل الأمر، ويحتمل النهي؛ لأن المراد بالأمر والنهي هما النفسيان فقط، ثم هل له لفظ إذا أُطلق انصرف إليه أم لا؟

    بينهما خلاف، فنقول: الصواب أن هذا السؤال ليس بوارد؛ لأن القرآن هو كلام الله بحروفه ومعانيه، فالأمر لفظ ومعنى، وليس هو معنى فقط.

    ثم نختلف هل له لفظ يدل على ذلك المعنى أو لا؟

    نقول: مجموع الأمرين، كما قال شيخ الإسلام؛ مثّل لذلك كالجسد للروح، نقول: الإنسان اسم للجسد مع روحه، إذًا جسد وروح ظاهر وباطن، كذلك اللفظ والمعنى هما مسمى للأمر، فالأمر مركب من شيئين لا ينفك أحدهما عن الآخر، ليس اللفظ دون المعنى، ولا المعنى دون اللفظ، ولا نقول: الأصل المعنى، واللفظ دليل أو يعبر عنه، لا، هما سيّان، كما نقول: "فلان هذا زيد"، أُطلق على الاسم وعلى الروح معا، فلا يُطلق لفظ العبد أو إنسان مثلا إلا على مجموع الأمرين.

    إذًا: (وله صيغة تدل بمجردها عليه): على الاستدعاء؛ بمعنى أنها إذا أُطلقت هذه الصيغة انصرفت إلى استدعاء الطلب، ونقول: هذا بإجماع السلف، وبإجماع أهل اللغة؛ لأنهم قسموا الكلام إلى أمر ونهي، وخبر، واستخبار، جعلوا للأمر: "افعل"، وللنهي: "لا تفعل"، وللخبر: "قد فعلت"، وللاستخبار: "هل فعلت؟"، وهذا مُجمَع عليه ولا خلاف، ولذلك دائما يُؤخذ في حد الاسم وفي حد الفعل وفي حد الحرف، تُؤخذ مفهوم الكلمة، والكلمة نوع من أنواع الكلام؛ لأنها جزؤه، والكلام يُؤخذ بحده: اللفظ، بإطباق أهل اللغة أن الكلام هو اللفظ، إذا انتفى اللفظ نقول: ليس بكلام، فحينئذ إذا قيل: إن المعنى هو الأمر، نقول: ليس بكلام، وهذا أمر فاسد.

    (2)
    (وهي (افعل) للحاضر، و(ليفعل) للغائب عند الجمهور):

    (افعل)
    : متفق عليها عند أهل السنة، وأما عند الأشاعرة: لا؛ لأن كثيرا منهم ينكرون الصيغة أصلا، لا صيغة للأمر، وأما عند أهل السنة فصيغة "افعل" هي للأمر الحاضر؛ يعني المخاطب "افعل"، "قم"، "صل"، "صم" .. إلخ.

    (ليفعل للغائب عند الجمهور):
    {وَلْيَطَّوَّفُ ا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ}، هذه صيغة أمر.

    كذلك اسم فعل الأمر: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُم}، يعتبر من صيغ الأمر.

    كذلك المصدر النائب عن فعله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}، نقول: هذا يدل على أمر.

    كذلك إذا عُبّر عنه بالكَتْب: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ}.

    فرض -صلى الله عليه وسلم- صدقة الفطر، فرض، وجب، كل هذه تدل على الأمر.

    إذًا الصيغة التي تدل بمجردها عليه هي صيغة "افعل"، وإنما يخصها كثير من الأصوليين بالبحث؛ لأنها أكثر دورانا من غيرها، لذلك قال:

    بِصِيغَةِ افْعَلْ فَالوُجُوبُ حُقِّقَا .....................

    لماذا خص "افعل"؟

    وافعل لدى الأكثر للوجوب .....................

    لأنها أكثر دورانا من غيرها.

  2. #82

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    الرد على من ينكر أن للأمر صيغة:

    [المتن]:

    [ومن تخيّل الكلام معنى قائما بالنفس أنكر الصيغة، وليس بشيء(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ومن تخيّل الكلام معنى قائما بالنفس أنكر الصيغة، وليس بشيء):

    (ومن تخيل)
    : إذًا سماه خيالا؛ لأنه ليس بعلم؛ لأنه مخالف للإجماع، فإذا كان مخالفا للإجماع -كما عبَّر ابن قدامة- لا يعتد به، فمثل هذه المسائل تؤخذ من أهلها، مسألة العقيدة وكلام الرب جل وعلا.

    (معنى قائما بالنفس
    ): ويُسمى الكلام النفسي عندهم، وإذا أطلق لفظ الكلام انصرف إليه.

    (أنكر الصيغة)
    : وهذا قول أكثر الأشاعرة، ولذلك يُعبّرون في حد الأمر بأنه "اقتضاء فعل بذلك المعنى القائم بالنفس المجرد عن الصيغة"، وهم ينصون على هذا في كتبهم.

    هو اقتضاء فعلِ غيرِ كَفِّ
    دُل عليه لا بنحو كُفي
    هذا الذي حُدّ به النفسي
    وما عليه دل قل لفظي
    إذًا الأمر أمران عندهم: أمر نفسي الذي يعرفونه بالاقتضاء والاستدعاء، ونص على ذلك الزركشي في "تشنيف المسامع"، قال: "من أراد الأمر النفسي صدّر الحد بالاقتضاء أو الاستدعاء"، ولذلك نُنكر مثل هذه التعاريف، وإنما نصدره باللفظ مباشرة؛ لأنه ليس عندنا أمر أعم من اللفظ، إلا إذا كان حقيقة شرعية، فيُطلق الأمر مرادا به القول، ومرادا به الإشارة والفعل للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما الأمر اللغوي فهو مرادف للفظ الدال على الطلب.

    هذا الذي حُد به النفسي
    وما عليه دل قل لفظي
    الذي هو "افعل"، فـ "افعل" عندهم ليس أمرا، وإنما هو دليل على الأمر، وهذا باطل، القول بأن الكلام هو الكلام النفسي، الشيء القائم في النفس هذا باطل.

    ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ}، إذًا المسموع الذي يسمعه المستجير المشرك كلام الله، لفظا ومعنى.

    {قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا. فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}، {أوحى إليهم}، إذًا فيه معنى قائم في النفس مع أنه قال: {أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}، دلَّ على أن المعنى القائم في النفس -الذي أشار إليه- ليس بكلام، وإنما هو حديث نفس.

    {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}، {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}: يدل أن المعنى القائم في النفس المقترن بالإشارة ليس بكلام، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: «عُفي لأمتي الخطأ والنسيان وما حدثت بها أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل».

    ولذلك أطبق أهل العرف على أن ما يقابل المتكلم إما ساكت أو أخرس، لو كان كل من جرى في نفسه حديث نفس فالكل متكلم، ولذلك لو حدّث الإنسان نفسه في الصلاة؛ على كلامهم نقول: قد تكلم فبطلت صلاته، مع أن إجماع الفقهاء على أن حديث النفس لا يُبطل الصلاة، كذلك لو حدث نفسه بأنه لا يتكلم بكذا، فحدث نفسه بأن يتكلم، نقول: لا يحنث بإجماع الفقهاء.

    على كلٍ دل الكتاب والسنة على أن حديث النفس لا يسمى كلاما.

    (ومن تخيل الكلام معنى قائما بالنفس، أنكر الصيغة، وليس بشيء)
    : يعني قوله ليس بشيء؛ لأنه مخالف للإجماع، مخالف للكتاب والسنة والعرف.

  3. #83

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    هل يستلزم الأمر الإرادة؟

    [المتن]:

    [والإرادة ليست شرطا عند الأكثرين خلافا للمعتزلة(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والإرادة ليست شرطا عند الأكثرين خلافا للمعتزلة):

    الإرادة: يعني إرادة امتثال المأمور به ووقوعه، هل هي شرط أم لا؟

    عند المعتزلة: نعم، شرط، ولذلك عرَّفوا الأمر بأنه: إرادة الفعل، وليس باستدعاء الفعل، قالوا: "إرادة الفعل"، فيشترط فيه الإرادة؛ أن يكون الأمر مقترنا بإرادة إيقاع الفعل من المأمور به.

    نقول: هذا باطل؛ لأن الإرادة إن أردتم بها الإرادة الشرعية التي ترادف المحبة والرضا فكل ما أمر به من الشرع فهو مراد، وإن أردتم به -وهذا هو المراد عندهم- الإرادة القدرية التي تكون بمعنى المشيئة فهذا ليس بواقع، ليس بصحيح؛ لأن أَمَرَ الرب -جل وعلا- البعض وقد تخلف امتثاله، وهل إذا أراده قدرا يتخلف؟

    لا يتخلف، وهذا من الفوارق بين الإرادتين، قد يريد الرب -جل وعلا- أمرا شرعيا مرادفا للمحبة والرضا؛ كالأمر بالإيمان وقد لا يقع من زيد، نقول: تخلفت الإرادة؛ لأنها ليست هي الإرادة القدرية الشاملة لكل الموجودات، {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}: كل ما أراده لا بد أن يقع.

    ولذلك نقول: الإيمان مراد شرعا، وإذا وقع من زيد فهو مراد شرعا وقدرا، وإذا وقع الكفر من زيد وقد طُلب منه نقول: لم يقع، الكافر إذا مات على كفره حينئذ نقول: هل المراد منه الإيمان أو لا؟

    مراده من أي جهة؟

    شرعا لا قدرا؛ لأنه لو أراده قدرا لوقع؛ لأن الإرادة لا تتخلف، ومن هنا جاءت مشكلة الصوفية والحلولية: أن الكفر هل هو مراد أو لا؟ والمعاصي، ووجود إبليس، والفتن، والمخالفات للشرع، وقوة الكفارة وسيطرتهم .. إلى آخره، هل هي مرادة أو لا؟

    مرادة قدرا لا شرعا؛ لأن الابتلاء والصراع بين الحق والباطل لا يوجد إلا بوجود إبليس، لو انتفى إبليس لكان الكل مؤمنين، وهذا ليس مرادا، إنما المراد الابتلاء، وهذا يحصل بوجود الشر والفساد وأهل الفتن.

    وحينئذ نقول: الإرادة ليست شرطا في الأمر؛ بمعنى الإرادة الكونية المرادفة للمشيئة.

    (
    والإرادة ليست شرطا عند الأكثرين): لإجماع أهل اللغة على عدم الاشتراط؛ لأنهم رتّبوا الذم والمدح على مخالفة مجرد الصيغة أو موافقتها، ولم يسألوا: هل أراد الأمر امتثال المأمور أو لا؟

    إذا قلت: "افعل"، "قم"، هل أردت مع أمرك هذا إرادة المفعول أن يفعل أو لا؟

    هذا ليس بشرط، ولذلك اتفق أهل اللغة على أنه يسمى أمرا، ولم يشترطوا الكشف عن الإرادة، ولذلك سووا هنا بين صيغتين "افعل كذا"، "أردت منك فعل كذا"، قالوا: بمعنى واحد، وهذا فاسد لغة وشرعا، وإذا فسد لغة ثبت أنه فاسد شرعا؛ لأن "افعل كذا": إنشاء، لا يُقال له: صدقت ولا كذبت، و "أردت منك فعل كذا": خبر، يُقال له: صدقت وكذبت، إذًا فرق بين الإنشاء والخبر، فكيف يُسوى بينهما؟!

    الحاصل: أنه لا يشترط إرادة امتثال المأمور بالأمر، وليست شرطا فيه، بل يكون الأمر بالإطلاق، سواء أراد أو لم يُرد.

  4. #84

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    ما تقتضيه صيغة الأمر عند الإطلاق:

    [المتن]:

    [وهو للوجوب بتجرده عند الفقهاء وبعض المتكلمين(1)، وقال بعضهم: للإباحة(2)، وبعض المعتزلة: للندب(3)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وهو للوجوب بتجرده عند الفقهاء وبعض المتكلمين):

    إذا أُطلق لفظ "افعل" على أي شيء يدل؟

    قال: (للوجوب): ومراده "افعل" مطلقة عن القرائن؛ لأننا إذا نظرنا لصيغة "افعل" الأحوال المحتملة ثلاثة:

    ** إما أن يُقيَّد بقيد يدل على الوجوب.

    ** وإما أن يُقيد بقيد يدل على عدم الوجوب.

    ** وإما ألا يقترن بقيد يدل على الوجوب أو على عدم الوجوب.

    الأُولى: المقيد بما يدل على الوجوب بالإجماع أنها للوجوب.

    الثانية: المقيدة بقيد يدل على عدم الوجوب بالإجماع أنها ليست للوجوب.

    الثالثة: المجردة عن القرائن، هذا مراده، "افعل" إذا تجردت عن قرينة تدل على صرف اللفظ عن الوجوب إلى الندب، أو على تأكيد الوجوب، "صل وإلا قتلتك" فهمنا الوجوب، لم؟

    "وإلا قتلتك"، هذه قرينة تدل على أنه أراد وجوب الفعل؛ لأنه رتب العقاب على عدم الفعل، وهذا معنى الوجوب.

    "صل إن شئت"، «صلوا قبل المغرب .. لمن شاء»، نقول: فهمنا الاستحباب بالإجماع؛ لأنه دلت قرينة على عدم إرادة الوجوب.

    بقي: إذا لم يقيّد بقيد لا يدل على الوجوب أو عدم الوجوب، هي التي فيها النزاع، والتي يذكرها الأصوليون.

    (وهو)
    : أي صيغة "افعل".

    (للوجوب بتجرده)
    : عن القرينة الدالة على الوجوب، أو على عدم الوجوب.

    والأدلة كثيرة، بل حُكي إجماع الصحابة على أن صيغة "افعل" إذا أُطلقت انصرفت للوجوب، ولذلك ما كانوا يسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- ماذا أردت بهذا؟

    لو قيل: إنها ليست للوجوب أو إنها محتملة للوجوب وغيره لحسن السؤال منهم.

    «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله»، ما قال أحد من الصحابة: ماذا أردت بهذا يا رسول الله؟ أمر إيجاب أو أمر ندب؟ وإنما حملوه على الوجوب مطلقا.

    "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، حملوه على الوجوب مطلقا، وأجمعوا على ذلك.

    وهذا يُفهَم منه أنهم منذ أن يسمعوا الأوامر الصادرة من الشرع حُملت على الوجوب مباشرة، ولا يسألون عنها هل هي للوجوب أو لغير الوجوب؟

    وهذا إجماع ويكفي، وحكى ابن قدامة إجماع الصحابة على ذلك.

    ويدل عليه أيضا نصوص ظاهرة من الكتاب والسنة، ولذلك صح توبيخ الرب -جل وعلا- لإبليس قال: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، لأنه قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ}؛ يعني لم يسجد، قال: {اسْجُدُواْ}، قال: {مَا مَنَعَكَ}، هذا استفهام إنكاري قُصد به التوبيخ والذم، وهل يُذَم ويُوبخ على ترك غير الواجب؟

    الجواب: لا، فدل على أن قوله: {اسْجُدُواْ} محمول على الوجوب.

    وللفائدة أن الأصوليين هنا دائما يركزون على قصة إبليس؛ لأنه لا يمكن إثبات قيد صارف عن الوجوب، {اسْجُدُواْ لآدَمَ}، لا يمكن أن يأتي آتٍ بقرينة يُفهَم منها عدم الوجوب، وخاصة مع قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، وبخه وعاتبه وأخرجه من الجنة، وكتب عليه الشقاء، ومد في عمره على شقاء، ويموت على شقاء، كل ذلك لكونه خالف: {اسْجُدُواْ}، فهذا يدل على أن صيغة "افعل" إذا أُطلقت وجُردت من القرائن تُحمَل على الوجوب.

    كذلك قوله -جل وعلا-: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، رتب على مخالفة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الفتنة أو العذاب الأليم، وهذا يدل على أن المخالفة ترك للواجب، لذلك قال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}؛ يعني يخالفون أمره، هذا الأصل، فحينئذ رتب الفتنة أو العذاب الأليم على المخالفة، فدل على أن صيغة "افعل"، أو "أمر النبي" يُحمَل على الوجوب.

    {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِي نَ}، هذا أيضا يدل على أن صيغة "افعل" للوجوب.

    {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب36]، إذًا إذا أمر الله تعالى وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- انتفت الخيرة، ولا انتفاء للخيرة إلا مع الواجب، لو كان للندب لوجدت فيه الخيرة؛ لأن "افعل" التي للندب مُقدّر معها "إن شئت"، «صلوا قبل المغرب لمن شاء»، فحينئذ إذا اقترن بها التقيد بالمشيئة حُملت على الندب.

    وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة»، "لولا": حرف امتناع للوجوب، "لولا زيد لأكرمتك"، امتنع الإكرام لوجود زيد، هنا امتنع أمر الإيجاب؛ لوجود المشقة؛ لأن الأصل في المشقة أنها ملازمة للوجوب، فانتفى الإيجاب، فلو أمر لوُجدت المشقة، والإجماع منعقد على أن السواك مندوب، إذًا دل على أنه «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم»: أمر إيجاب، وليس أمر استحباب.

    هذا هو القول المُرجح، وهو القول الثابت، وعليه الصحابة كلهم، وأيضا هذه الأدلة -يُتنَبَه للمسألة- دلت على أن مطلق "افعل" للوجوب، فكل صيغة "افعل" سواء كانت في العبادات، أو في المعاملات، أو في الآداب، أو في غيرها، مجردة عن القرينة تُحمَل على الوجوب، وما يذكره الكثير من الفقهاء أن صيغة "افعل" إذا كانت في الآداب فهي محمولة للندب، هذا يحتاج إلى دليل؛ لأنه مخالف للنص، فإذا وُجد دليل شرعي فحينئذ نقبل، وإلا فلا اجتهاد مع النص، فالأدلة عامة شاملة لجميع الأوامر.

    (2)
    (وقال بعضهم: للإباحة):

    يعني صيغة "افعل" للإباحة، وهذا غريب جدا، إذًا ما بقي واجب، قالوا: كل أمر في الشرع حُمل للإباحة، لماذا؟

    قالوا: درجات الأمر بالفعل ثلاثة: الوجوب، والندب، والإباحة، وبينها قدر مشترك، وهو جواز الإقدام على الفعل بين المراتب الثلاثة كلها، جواز الإقدام على الفعل هذا موجود في الواجب، وموجود في الندب، وكذلك موجود في الإباحة، لكن ترتب العقاب على ترك الفعل في الواجب، وعدم ترتب العقاب على الترك في الندب، واستواء الطرفين في الإباحة؛ هذا مشكوك فيه، زائد، زائد على مجرد الإقدام، قالوا: إذًا اليقين أن تحمَل صيغة "افعل" على الإباحة؛ لأنها بيقين مشتركة بين الثلاثة، وما عدا ذلك فهو مشكوك فيه، فإن دل دليل على الوجوب حينئذ حُمل عليه، وإن دل دليل على الندب حُمل عليه، وإلا الأصل الإباحة، وهذا قول فاسد ضعيف.

    (3)
    (وبعض المعتزلة: للندب):

    قالوا: صيغة "افعل" المجردة عن القرينة الصارفة تدل على الندب، ولا تُحمَل على الوجوب إلا بقرينة، لماذا؟

    قالوا: لأنه جاء مشترك في الشرع "أمرتكم" جاء للندب وللوجوب، وجاء كذلك بصيغة "افعل" جاء للندب، وجاء للوجوب، إذًا ما هو اليقين؟

    اليقين هو الندب لماذا؟

    لأن الوجوب طلب إيجاد فعل، والندب طلب إيجاد فعل، لكن الوجوب فيه قدر زائد، وهو ترتب العقاب على الترك، قالوا: هذا القدر الزائد على الندب مشكوك فيه، ولا نحمل صيغة "افعل" عليه إلا بدليل، واليقين أنه لمجرد الطلب.

    وهذا أيضا فاسد، قول ضعيف؛ لأنه مصادم للنصوص الواضحة البينة، وخاصة إجماع الصحابة.

  5. #85

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    حكم الأمر بعد الحظر:

    [المتن]:

    [فإن ورد بعد الحظر فللإباحة(1)، وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين: لما يفيده [قبل] الحظر(2)].

    [الشرح]:

    (1)
    (فإن ورد بعد الحظر فللإباحة):

    الأمر بعد الحظر للإباحة؛ يعني جاء تحريم، ثم جاءت الإباحة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}، ثم قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}، {فَانتَشِرُوا}: أمر أو لا؟

    أمر، هل يُحمَل على الوجوب أو نجعل تقدم الحظر قرينة صارفة على أن المراد به الإباحة؟

    محل نزاع، المشهور عند الأصوليين: أنه للإباحة، ولذلك قال:

    (فإن ورد):
    يعني صيغة "افعل".

    (بعد الحظر)
    : بعد التحريم؛ يعني بعد المنع.

    (فللإباحة):
    لماذا؟

    قالوا: للاستقراء والتتبع للأوامر الشرعية الواردة بعد النهي، لا يوجد في الشرع أمر بصيغة "افعل" بعد نهي إلا والمراد به الإباحة؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}.

    {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ}، هل هذا الأمر يجب؟

    لا، بل مباح.

    {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ}.

    كذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»، قالوا: هذه كلها للإباحة.

    وهذا محل نظر، بل الصواب: ما قاله أكثر الفقهاء، وهو القول الثاني الذي ذكره بقوله:

    (2)
    (وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين : لما يفيده [قبل] الحظر):

    إن كان قبل الحظر واجبا، ثم مُنع، ثم جاء الأمر به؛ فالأمر للوجوب.

    وإن كان قبل الحظر للندب، ثم مُنع، ثم أُمر به؛ فصيغة "افعل" حينئذ للندب.

    وإن كان مُباحا أولا، ثم حُظر، ثم أُمر به؛ فهي للإباحة.

    وذكر ابن كثير أن هذا باستقراء الشرع، قال: "باستقراء الشرع أسلم الأقوال هو هذا؛ لأنه وُجدت أدلة أنه قد أمر بشيء بعد الحظر، ثم كان للوجوب، {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} قالوا: هذا للوجوب.

  6. #86

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    هل الأمر يفيد التكرار؟

    [المتن]:

    [ولا يقتضي التكرار عند الأكثرين، وأبي الخطاب خلافا للقاضي، وبعض الشافعية(1)، وقيل: يتكرر إن عُلِّقَ على شرط(2)، وقيل: يتكرر بتكرر لفظ الأمر(3)، وحُكِيَ ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه(4)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ولا يقتضي التكرار عند الأكثرين، وأبي الخطاب خلافا للقاضي، وبعض الشافعية):

    هل مطلق صيغة "افعل" تقتضي التكرار أو لا؟

    أيضًا يُقال فيها ما قيل في السابق: إن صيغة "افعل" قد تكون مُقيدة بالمرة، وقد تكون مقيدة بالمرات.

    "صل يوما واحدا"، نقول: هذا مقيد بمرة واحدة، هذا باتفاق يُحمَل على ما قُيّد به.

    "صل خمس صلوات اليوم"، هذا قيّده بخمسة، دل على التكرار، هذا بالإجماع أنه يحمل على التكرار.

    لكن لو قال: "صل" فقط، وسكت هل إذا قمت وصليت، نقول لك أيضا: لم ينتهِ الأمر، "قم فصل"، "قم فصل"، "قم فصل" حتى يأتيك دليل يقول لك: "قف عن الصلاة" أم أن مدلوله المرة الواحدة؟ أو لمطلق الماهية؟

    فيه خلاف بين الأصوليين، محل الخلاف فيما لم يُقيد بالمرة صراحة، أو بالمرات صراحة، فإن قُيد بالمرة صراحة حُمل عليها باتفاق، وإن قُيد بالمرات صراحة حُمل عليها، وإما أذا لم يُقيد فأُطلق هكذا "صل" فسكت، حينئذ نقول: فيه خلاف.

    قال: (ولا يقتضي التَكرار): بفتح التاء؛ لأن تَفعال هذا بفتح التاء إلا ستة عشر فعلا ذكرها السيوطي في "الأشباه والنظائر"، منها "تلقاء"، هذا ورد في القرآن، ولا نقول: إنه شاذ، لكن لو قيل: "تِكرار" كما ينطقه البعض، نقول: هذا لم يسمع، هذا يُخطّأ، لكن لو قيل: "تِلقاء"، نقول: هذا سُمع، وإن كان خلاف القياس، {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء}.

    (ولا يقتضي التكرار)
    : أي لا يقتضي فعل المأمور به إلا مرة واحدة فقط، "صل"، قام فصلى نقول: انتهى، لا يصلي مرة ثانية إلا بدليل منفصل، وأما صيغة "افعل" فقد أدى المراد بها، أوجد الفعل وانتهى.

    لكن دلالته على المرة الواحدة هل هو بالالتزام أو بالمطابقة؟

    هذا سيأتي أن قولا آخر المراد به صيغة "افعل" هو مطلق، أو القدر المشترك، وعليه تكون المرة الواحدة هذه من الضروريات، وسيأتينا.

    (عند الأكثرين وأبي الخطاب):
    بدلالة اللغة، لو قال مثلا السيد لعبده: "ادخل الدار" كان ممتثلا وداخلا دخلة واحدة، حينئذ حصل مدلول "ادخل"، فلو وبخه وعاتبه ورآه عقلاء أهل اللغة لما استساغوا ذلك منه، وقالوا له: أنت أمرته بالدخول فحصل الامتثال بمرة واحدة، فتوبيخك وعتبك وذمك في غير مورده؛ لأن الدخول قد حصل، والامتثال قد حصل، كذلك قياس الأمر المطلق على اليمين والنذر والوكالة والخبر، لو قال مثلا في الحلف: "والله لأصومن"، بماذا يبر؟ بيوم واحد.

    كذلك لو قال: "لله عليَّ أن أصوم"، يوفي نذره بصوم يوم واحد.

    قال لوكيله: "طلق زوجتي فلانة"، أكثر الفقهاء -وحُكي الإجماع- أنه ليس له أن يُطلق إلا واحدة.

    كذلك لو أخبر عن نفسه قال: "قد صمت" يصدق هذا الخبر لو صام يوما واحدا.

    قالوا: كذلك الأمر المطلق يُراد به المرة الواحدة، لا يقتضي التكرار، بل يدل على المرة الواحدة، ودلالته على المرة الواحدة على هذا القول من دلالة النكرة على الفرد الشائع في جنسه؛ يعني يدل عليه بالمطابقة، وهذا قول الأكثرين.

    (خلافا للقاضي وبعض الشافعية):
    القائلين بأن الأمر يقتضي التكرار؛ كأنه لو قال الأب لولده: "اشتر اللحم" يذهب ويشتري اللحم ويرجع، ثم يذهب ويأتي ويشتري، ثم الثالثة، والرابعة، حتى يقول له: "قف يا ولدي"؛ لأن صيغة "افعل" تقتضي التكرار، هذا مرادهم، فلا يقف ولا يكف عن امتثال المأمور إلا بنص منفك عنه، هذا ليس بصحيح.

    (خلافا للقاضي وبعض الشافعية):
    لماذا؟

    قالوا: لأن الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان، فإذا قال: "افعل"، فكل زمن صالح للامتثال فهو داخل فيه، اقتضى إيقاع الفعل في جميع الأزمان؛ لأن الزمن الثاني مساوٍ للأول، والزمن الثالث مساو للأول، وكل زمن صالح لإيقاع الفعل فيه وامتثاله فهو مساو للأول، إذًا لماذا يقيد بمرة واحدة؟ إذا كانت الأزمان متساوية باعتبار إيقاع الفعل حينئذ لا فرق بين أن يُقال: أُوقع في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة، فيكون مدلوله هو التكرار كما امتثلت في المرة الأولى امتثل في المرة الثانية والثالثة، إلى ما لا نهاية، كذلك قالوا: هو الأغلب في الشرع، وهذه حجة ابن القيم -رحمه الله تعالى-؛ لأنه يرى أن صيغة "افعل" للتكرار؛ لأنها هي الأغلب في الشرع، فإذا ورد في موضعٍ ما مطلقا غير مقيد بمرة ولا تكرار عند ابن القيم -رحمه الله- يُحمَل على التكرار؛ لأنه هو أكثر موارد الشرع.

    حينئذ يكون النزاع في ماذا؟ إن كان المراد أنه حقيقة لغوية فلا، وإن كان دلالته على التكرار حقيقة شرعية فيمكن أن يُسلَّم، ولذلك دائما نفرق بين الحقائق اللغوية والحقائق الشرعية، البحث الآن في الحقيقة اللغوية، لو قال: "اشتر اللحم"، "قم"، "صم" .. إلخ، نقول: هذا اللفظ من حيث هو لغة لا يقتضي التكرار، هذا هو الأصح.

    ولذلك لو قيل: "اسقني ماء"، فحصل الامتثال بمرة واحدة، انتهى، هل يأتي يقول بعد قليل: "كأس"، "كأس"، لو كان للتكرار لما انقطع الامتثال إلا بأن يأتي المتكلم بلفظ يوقفه، نقول: إن كان مرادا به اللغة فلا، وإن كان مرادا به -عند ابن القيم -رحمه الله- وغيره- حقيقة شرعية فيمكن أن يُسلَّم.

    كذلك قالوا: قياس الأمر على النهي؛ لأن النهي يقتضي التكرار، فكذلك الأمر.

    لو قال: "لا تشرك بالله"، متى؟

    في كل الأزمان لا يقع منك هذا الفعل.

    لو قال: "صل"، قالوا: كذلك مثله: صل في كل الأوقات، قياس الأمر على النهي.

    نقول: هذا قياس فاسد، قياس مع الفارق؛ لأن المقصود في الأمر هو إيجاد الفعل، وإيجاد الفعل يقع ويحصل بمرة واحدة، والنهي: المراد منه عدم الماهية، ولا يحصل عدم الماهية إلا بالكف عن كل الأفراد والآحاد، ففرق بين إيجاد الفعل وبين إعدام الفعل.

    (2)
    (وقيل: يتكرر إن عُلِّقَ على شرط):

    هذا خروج عن المراد، مسألتنا ليست في هذه، المسألة في صيغة "افعل" مجردة عن قرينة، وأما تعليقه بشرط أو صفة فهذا عُلق بقرينة، {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ} {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ}، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ}، عُلّق بوصف، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} عُلّق بوصف.

    والتحقيق في مسألة الشرط أن يقال: إن كان الشرط كالعلة فهو يقتضي التكرار وإلا فلا، يقتضي التكرار إن كان المعلق عليه علة أو كالعلة، وأما الوصف فهذا مداره مدار العلل؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فحينئذ تعليق القطع على السرقة، نقول: هذا من تعليق الحكم على علة في الفعل، وهو السرقة، فكلما وُجدت السرقة بشرطها وُجد الحكم، وهو القطع، فحينئذ لا مانع من أن يقال بالتكرار في مثل هذه، والكلام ليس فيما علّق على صفة أو شرط، وإنما فيما هو مجرد عن القرينة، كلما وُجد الحدث كان المكلف مأمورا بغسل الوجه واليدين .. إلخ؛ لأنه عُلق على علة، أو على سبب كالعلة، وأما إذا لم يكن كذلك فلا.

    "إن خرجت فأنت طالق"، الخروج هذا ليس بعلة، وإنما يقع المُرتَّب الجواب بوقوع مرة واحدة للفعل.

    "إن خرجت فأنت طالق"، تطلق مرة واحدة، واحدة على مرة واحدة؛ يعني إن خرجت فوقع الخروج منها مرة واحدة، أو لا بد أن تخرج فتخرج فتخرج ثم يقع الطلاق؟ بمرة واحدة، وتقع طلقة واحدة، خرجت فطلقت مرة ثانية، جاءت ثاني يوم وخرجت، تطلق مرة ثانية؟

    لا؛ لأن الخروج هنا ليس علة، فكلما وُجد الخروج وُجد الطلاق.

    نقول: لا. ليس هو كقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ} وإنما هو أمر منفك عن التعليل، عن الصفة، وإنما صار شرطا مجردا، فإن كان الشرط فيه معنى العلية نقول: اقتضى التكرار وإلا فلا، وأما الوصف؛ كالسرقة والزنا، هذا لا إشكال بإجماع أن الأحكام مرتبة على عللها، متى ما وُجدت هذه العلل وُجدت الأحكام.

    (3)
    (وقيل: يتكرر بتكرر لفظ الأمر):

    أيضا هذا ليس مما نحن فيه، فإذا قال: "صل ركعتين"، "صل ركعتين"، الثاني: الأصح أنه توكيد، ليس بتأسيس.

    (4)
    (وحُكِيَ ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه):

    الذي هو التكرار بتكرر لفظ الأمر، لو قال: "صل"، "صل"، لو قال: "صل وصل"، عطف، العطف يقتضي التغاير، لا إشكال أن الثانية غير الأولى، لو قال: "صل وصم"، كل منهما مستقل، لو قال: "صل ركعتين"، "صل أربع ركعات"، الثاني مستقل عن الأول، التأسيس.

    وإنما الخلاف في: "صل"، "صل"، أو "صل ركعتين"، "صل ركعتين"، نقول: الثاني يُراد به التأكيد لا التأسيس بخلاف ما ذكرناه.

  7. #87

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    هل الأمر للفور؟

    [المتن]:

    [وهو على الفور في ظاهر المذهب، كالحنفية(1)، وقال أكثر الشافعية: على التراخي(2)، وقوم: بالوقف(3)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وهو على الفور في ظاهر المذهب، كالحنفية):

    هذه المسالة الثانية مما تنازع فيها الأصوليون، وهي صيغة "افعل" أيضا المراد بها المجردة عن القرينة، لو قال: "افعل الآن"، حُمل على الفورية، لو قال: "صم يوم الخميس القادم"، نقول: حُمل على التراخي، والمراد "صُم"، متى يكون هذا؟ هل هو على الفور أو على التراخي؟

    هذا محل النزاع عند الأصوليين، المذهب على أنه على الفور، ولا يجوز تأخيره إلا بقرينة، والمراد بالفور هنا المبادرة بسرعة الامتثال، "صُم"، فيبادر في أول يوم يقع بعد الأمر يصح فيه الصيام، وجب الامتثال، "صل"، مباشرة بعد الانتهاء من صيغة "افعل"، وليس له أن يؤخر بعد وقت إلا بدليل يدل على ذلك، هذا المراد بالفورية، ولذلك لما قيل: إن الحج واجب على الفور، لو أخره إلى السنة التي تليها أثم، فلو مات عند ابن القيم -رحمه الله- لا يقضى عنه، لا يُحج عنه؛ لأنه تمكن ففرّط، وإنما النصوص الواردة فيما إذا لم يتمكن.

    ويُبين هنا أن من قال في السابق: إن مطلق الأمر يقتضي التكرار، اتفقوا على أنه للفور، إذا قيل: بالتكرار، متى يبدأ التكرار؟

    منذ صدور صيغة "افعل"، إذًا دل على الفور، لزم منه أن صيغة "افعل" تدل على الفور؛ لأنه لو ترك وقتا ما لم يمتثل فيه الفعل لما كان للتكرار؛ لأن معنى التكرار أنه منذ أن تصدر صيغة "افعل"، الوقت المناسب بعدها مباشرة يبدأ الامتثال، ثم يكرر يكرر إلى ما شاء الله، فحينئذ استلزم هذا القول بأن صيغة "افعل" تدل على الفورية، ولذلك اتفق كل من قال: بأن مطلق صيغة "افعل" للتكرار على أنها للفور، وإنما الخلاف هل صيغة "افعل" للفور أو لا فيمن قال: بأنه لا يقتضي التكرار، إذًا هذا خلاف بين فئة معينة، ليس مطلقا عند كل الأصوليين.

    (وهو)
    : أي صيغة "افعل".

    (على الفور):
    ما الدليل على ذلك؟

    قالوا: عموم النصوص، ظواهر نصوص كثيرة، قال تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ}، {وَسَارِعُواْ}، قالوا: في فعل الطاعة مغفرة، فتجب المسارعة إليه، والمسارعة تقتضي إيقاع الفعل بعد صدور الأمر مباشرة، ولذلك مدحهم الله عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}، فدل على أن المسارعة هي الأصل في امتثال الأوامر.

    أيضا يقال: إن القول بالفورية أحوط وأبرأ للذمة، ويكون حينئذ ممتثلا بيقين، إذا قيل: "صل"، فقام مباشرة فصلى، هذا ممتثل بيقين، لكن لو أخّر ولم يمتثل ثم امتثل هل هو ممتثل بيقين أو على شك؟

    على شك، إذًا لا يكون ممتثلا بيقين إلا على القول بأن صيغة "افعل" للفور.

    (2)
    (وقال أكثر الشافعية: على التراخي):

    (التراخي):
    هذا التعبير فيه تسامح، ولذلك خطَّأَهم أبو إسحاق الشيرازي في "شرح اللمع"، قال: الصواب هنا أنه لا يقال: على التراخي؛ لأنه لو قيل: مدلول صيغة "افعل" التراخي؛ يعني لا تفعل بعد الفعل مباشرة، وإنما بعده بزمن، حينئذ لو فعل بعد صدور الأمر لم يكن ممتثلا، فرق بين أن يقال: مدلول صيغة "افعل" ليس على الفور، وبين أن يقال: مدلول صيغة "افعل" التراخي، ولذلك وقع نزاع بينهم، هل إذا صلى مباشرة في أول وقت صلاة الظهر -على القول بالتراخي- يعد ممتثلا أو لا؟

    لأنه ما أُمر بهذا، إنما أُمر أن يصلي بعد زمن متراخٍ عن الزمن الأول، وهذا ليس بصحيح، هذا التعبير فيه تسامح.

    وإنما الصواب أن يقال: هل صيغة "افعل" تدل على الفور أو ليست على الفور؟

    ليست على الفور: معناه قد يكون على الفور، وقد يكون على التراخي.

    (وقال أكثر الشافعية: على التراخي):
    يعني ليس على الفور

    (بل يجوز تأخير فعله):
    لأن صيغة "افعل" تقتضي الامتثال من غير تخصيص بزمن دون زمن.

    "صل"، هل تعرّض لزمن ما في وقت إيقاع الصلاة؟

    لم يتعرض، وإنما المراد: فعل الصلاة ولم يتعرض للوقت.

    نقول: لا، بل الصواب أن الأدلة الدالة السابقة مع ما استدل به بعض الأصوليين بقول الرب -جل وعلا- لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}، هنا {مَا مَنَعَكَ} لو كان {اسْجُدُواْ} على التراخي هل صح صدور العتاب والذم؟

    لا، لأنه يُمَكّن أو يتمكن إبليس من أن يقول: لم يجب عليَّ على الفور، أنت أمرتني {اسْجُدُواْ}، وبعد وقت سأسجد، فحينئذ لما توجه الذم إليه، دل على أن المراد بـ {اسْجُدُواْ} الفور، ولو كان على التراخي أو ليس على الفور لكان من شأن إبليس أن يعتذر.

    (3)
    (وقوم: بالوقف):

    لا نقول: على الفور، ولا على التراخي. لماذا؟

    لتعارض الأدلة، والصواب أنه على الفور، وهذا قول جماهير الأصوليين، وهو مذهب كثير من المالكية.

    وكونه للفور أصل المذهب ....................

  8. #88

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    العبادة المؤقتة إذا فات وقتها أيكون القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول؟

    [المتن]:

    [والمؤقت لا يسقط بفوات وقته، فيجب قضاؤه(1)، وقال أبو الخطاب والأكثرون: بأمر جديد(2)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والمؤقت لا يسقط بفوات وقته، فيجب قضاؤه):

    هذه مسائل نمر عليها لا نحتاجها كثيرا.

    (والمؤقت)
    : يعني عندنا بعض الواجبات مؤقتة، "افعل"، وحدد لك وقتا أولا وآخرا؛ كالصلوات الخمس، هذا المراد بالمؤقت؛ يعني أمرك الشرع بأمر وحدد لك وقتا.

    (لا يسقط بفوات وقته):
    فلو ترك صلاة الظهر مثلا عمدا لغير عذر حتى خرج الوقت، قال: هل يسقط الفعل بفوات الوقت أم لا؟

    محل نزاع، إذا قال: "صل الظهر"، وحدد له أول الوقت وآخره، فخرج الوقت ولم يصل، قال: لا يسقط فعله بفوات وقته.

    (فيجب قضاؤه)
    : كل فعل أمر الشارع به وحدد له وقتا إذا خرج الوقت عمدا، أما إذا كان معذورا فدلت الأدلة على أنه يأتي به.

    قال: (فيجب قضاؤه بالأمر الأول): فحينئذ من أخرج الصلاة عن وقتها يجب عليه القضاء مع الإثم؛ لأن الأمر أثبت وجود العبادة في ذمة المكلف، وحدد له فعلا ووقتا، وصار المأمور به مركبا من فعل ومن زمن، والأمر بالكل أمر بجميع أجزائه، فإذا فات فعل جزء من أجزاء المأمور به يبقى الأصل على ما هو عليه، فإذا فات جزء المأمور به، وهو الوقت لا يسقط الفعل، وهو الصلاة، فيجب قضاؤه حينئذ بالأمر السابق، ولا نحتاج إلى أمر جديد، كما هو الشأن فيمن نام عن صلاة أو نسيها، أخرجها عن وقتها، ثم نقول له: "صل" بعد خروج الوقت، بأي أمر؟ بقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}، أو بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «فليصلها إذا ذكرها»؟

    بالحديث الثاني.

    وأما المتعمد فقالوا: هذا بالأمر الأول؛ لأن الأمر المركب من أشياء أمر بكل أجزائه، فإذا فات بعض الأجزاء يبقى الباقي في ذمة المكلف؛ لأنه مكلف بعبادة ذات أفعال ووقت فينسحب الحكم حينئذ على ما بقي في ذمته، وما خرج من الوقت لا يمكن أن يُرد إليه فيفعل الصلاة؛ لأنه مأمور بها بالأمر الأول، لكن هذا ضعيف.

    (2)
    (وقال أبو الخطاب والأكثرون: بأمر جديد):

    يعني بدليل منفصل ولا بد، فإذا فات الوقت؛ حينئذ فات ما جعله الشارع قيدا للفعل، وهنا الأصل في هذه المسألة -كما ذكر بعضهم- أنه تعارض أصلان:

    إذا أمر الشارع المكلف بفعل عبادة، الأمر بالكل أمر بكل أجزائه على ما ذكرناه سابقا، هذا أصل عندهم، وهذا صحيح، إذا قال مثلا: {أقم الصلاة}، نقول: الصلاة واجبة، نستدل بهذا على أن كل جزء من أجزاء الصلاة واجب، نجعل من أدلة وجوب قراءة الفاتحة قوله تعالى: {أقم الصلاة}؛ لأنه أمر بماهية مركبة، وإذا أمر بماهية مركبة انسحب على كل الأجزاء، فكل جزء يأخذ حكم الوجوب، هذا الأصل، ولا يخرج عنه إلا بدليل.

    ثم عندنا أصل آخر، وهو أن الشارع إذا حدد وقتا ما أولا وآخرا، نقول: هل حدده لمصلحة أو لا؟

    لمصلحة، إذا فاتت هذه المصلحة هل غير هذا الزمن يساوي الزمن السابق؟

    الجواب: لا، تعارض عندنا أصلان.

    من نظر إلى المعنى الأول ولم ينظر إلى الثاني أو تجاهل الثاني أو جعل أن إدراك المعنى الأول أو الأصل الأول هو الأصل وهو الأولى؛ قال: يجب قضاؤه.

    ومن رأى الثاني قال: لا، إذا فوَّت مصلحة الوقت لا يمكن أن يقيس عليه غيره، ولا يمكن أن يُلَحق الزمن الثاني بالزمن الأول إلا بدليل.

    فجاء مثلا في الصيام إذا أفطر في نهار رمضان بعذر: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، جاء الأمر بالقضاء، سوَّى بين الثاني والأول، وهذا من جهة الشرع.

    لكن لو أخرج صلاة الظهر عن الوقت إلى وقت دخول صلاة العصر، هل هذا الزمن مساو للزمن الأول؟

    قطعًا لا، إن جاء دليل من الشرع بالتسوية قلنا: له أن يقضي، وإن لم يرد فحينئذ لا، فمن أفطر في رمضان عمدا هل يدخل في قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}؟

    لا يشمله، وإنما يختص بأهل الأعذار، فإذا أفطر في نهار رمضان عمدا نقول: لا يصوم، وإنما يستغفر ويتوب؛ لأنه لم يرد دليل على أنه يجب عليه القضاء.

    كذلك لو أخرج الصلاة عن وقتها نقول: لا بد من دليل، وهذا هو الأصح؛ أنه لا قضاء إلا بدليل جديد، وأن الأمر الأول لا يستلزم القضاء.

    والأمر لا يستلزم القضاء

    بل هو بالأمر الجديد جاء

    لأنه في زمن معين يجي

    بما عليه من نفع بني

    الأمر لا يستلزم القضاء، هذا هو الصحيح، والحجة في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: "كنا نُؤمَر بقضاء الصوم ولا نُؤمَر بقضاء الصلاة"، "كنا نُؤمَر بقضاء الصوم"، مع وجود الأدلة الدالة على وجوب صوم رمضان، هل التفتت إلى الأدلة الأولى السابقة الدالة على وجوب صوم رمضان أو نظرت إلى الدليل الجديد؟

    نظرت إلى الدليل الجديد: "ولم نؤمر بقضاء الصلاة"، مع وجود الأدلة السابقة، فدل على أنه لا قضاء إلا بأمر جديد، ولذلك لا يصح القول بأن من أخرج الصلاة الأولى أو أفطر في رمضان عمدا أنه يقضي إلا بدليل جديد، ولا دليل، حينئذ لا يُلزم بالقضاء؛ إلا إن صح الإجماع، والظاهر أنه لا يصح؛ لأن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى هذا، وابن حزم رأى ذلك؛ أنه لا يؤمر بقضاء الصلاة، بل يستغفر ويتوب.

  9. #89

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    فعل المأمور به هل يقتضي الإثابة والإجزاء؟

    [المتن]:

    [ويقتضي الإجزاء بفعل المأمور به على وجهه(1)، وقيل: لا يقتضيه(2)، ولا يمنع وجوب القضاء إلا بدليل منفصل(3)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ويقتضي الإجزاء بفعل المأمور به على وجهه):

    يعني إذا فعل لمكلف الفعل وامتثل أجزأ أو لا؟ هل برئت الذمة أو لا؟

    تبرأ ذمته، أُمر بصيام رمضان، فصام رمضان على وجهه الشرعي، نقول: برئت الذمة وعاد كما لم يكن؛ لأن الأصل براءة الذمة من التكاليف، فإذا عُلّقت ذمة المكلف بفعل عبادة؛ فإما أن يفعلها على وجهها الشرعي فيسقط الطلب؛ مثلا صليت العصر أنت على طهارة آتيًا بالأركان والشروط والواجبات، انتهى.

    هل لا بد أن يأتي دليل فيقول: لا، أنت بعد هذه الصلاة محتمل أنك مطالب بقضائها؟

    لا، لا نقول بهذا، وإنما نقول: فعلك وامتثالك للعبادة التي كلفت بها على وجهها الشرعي أسقط الطلب وبرئت الذمة، عادت كما لو لم يكن قبل تعلق الخطاب بالمكلف.

    (ويقتضي):
    أي صيغة "افعل" أو الوجوب.

    (الإجزاء بفعل المأمور به على وجهه):
    لا بد على وجهه، الحج الفاسد مأمور بالإتمام وهو فاسد، إذًا لم يُجزئ.

    كذلك من صلى وهو مُحدث لم يُجزئ، نقول: لا، هذا لم يصل على وجه الشرع؛ يعني من صلى ظانا الطهارة ثم تبين الحدث، نقول: لم يصل على وجه الشرع، لذلك لم تكن مُجزئة، هو لم يمتثل الأمر انتهاء وإن امتثله ابتداء.

    كذلك من أفسد حجه؛ نقول: هذا لم يمتثل المأمور به؛ لأنه لم يأت بالحج على الوجه الشرعي، وإنما نقص منه ركن أو .. إلى آخره.

    (ويقتضي الإجزاء بفعل المأمور به على وجهه):
    وعليه الجمهور؛ لأن الأصل براءة الذمة من جميع التكاليف، فإذا أُمر المكلف بفعل فإن ذمته تكون مشغولة ولا تبرأ إلا بالفعل، وإلا للزم الامتثال طول عمره، انتهى من رمضان، نقول: لا، يحتمل أن يكون واجبا عليه، ما أتيت به شرعا فيصوم رمضان، يقضي في شوال، ثم إذا قضي في شوال، نقول: عليك في ذي القعدة، فيجلس العام كله وهو يصوم رمضان سنة واحدة، أحيانا المعتزلة يأتون ببعض الأشياء، ويزعمون أنهم أرباب عقول، هذه مصيبة.

    لذلك جاء في الحديث: «إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك»، حسنه البعض.

    (2)
    (وقيل: لا يقتضيه):

    يعني أن امتثال الأمر لا يسقط القضاء؛ لأنه لا يمتنع أن يأمر الحكيم بفعل ويقول: إذا فعلتموه فقد فعلتم الواجب، واستحققتم الثواب، وعليكم القضاء؛ يعني يقول له مثلا: أمرتك بفعل كذا، فإذا فعلت فأنا مثيبك، لكن يلزمك القضاء، وهذا ليس بصواب، وإنما استدل بعضهم بالحج الفاسد، وصلاة من ظن أنه متطهر، قالوا: هذا امتثل المأمور ثم لم يجزئه.

    نقول: لا، الشرط أن يُجزئ إذا أتى بالمأمور على الوجه الشرعي، فإذا تبين أنه لم يأت بركن أو شرط حينئذ نقول: لم يأت به على الوجه الشرعي.

    (3)
    (ولا يمنع وجوب القضاء إلا بدليل منفصل):

    يعني ولا يمنع فعل المأمور به وجوب القضاء (إلا بدليل منفصل هذا تابع لقوله: (لا يقتضيه).

    يعني ولا يمنع فعل المأمور به وجوب القضاء إلا بدليل منفصل؛ لأن الأمر تضمن طلب إيجاد الفعل فقط، وليس فيه ما يدل على الإجزاء.

    نقول: لا، الصواب أنه يدل على الإجزاء؛ لأن المراد: صل صلاة شرعية، فإذا انتهيت منها على الوجه الشرعي سقط الطلب.

  10. #90

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    خطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- هل يعم غيره؟

    [المتن]:

    [والأمر للنبي -صلّى الله عليه وسلّم- بلفظٍ لا تخصيص فيه له يشاركه فيه غيره، وكذلك خطابه لواحد من الصحابة، ولا يختص إلا بدليل، وهذا قول القاضي، وبعض المالكية، والشافعية(1)، وقال التميمي، وأبو الخطاب، وبعض الشافعية: يختص بالمأمور(2)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بلفظٍ لا تخصيص فيه له يشاركه فيه غيره، وكذلك خطابه لواحد من الصحابة، ولا يختص إلا بدليل، وهذا قول القاضي، وبعض المالكية، والشافعية):

    (والأمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- بلفظ لا تخصيص فيه له يشاركه فيه غيره):
    ذكرنا هذا فيما سبق: إذا أُمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمر، نقول: غيره مشارك له؛ لأن الأصل التأسي، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، فإذا أُمر -صلى الله عليه وسلم- بأمر، فنتأسى به، فغيره يشاركه، إلا بدليل منفصل كما قال تعالى: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} {خَالِصَةً}، نقول: هذا دليل خاص.

    (وكذلك خطابه لواحد من الصحابة، ولا يختص إلا بدليل):
    خاص؛ يعني إذا خاطب بعض الصحابة بحكم، الأصل أنه يستوي غيره؛ لأن الأصل أن النبي مُبين الشرع، والشرع متعلقه الكل، العموم، الشرع لا يراد به شخص معين، سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قضيةٍ ما، فكل من شابه السائل فالحكم يتعلق به؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- رسالته عامة، وليست خاصة لبعض الصحابة، لذلك نحدد.

    (إلا بدليل):
    كما قال لأبي بردة: «تجزئك ولن تُجزئ أحدا بعدك»؛ هذا تخصيص دل على أن المُخاطب هنا صحابي خاص به هذا الحكم، وأما إذا لم يرد صيغة تخصص أن الحكم خاص بالصحابة فالأصل العموم.

    (ولا يختص إلا بدليل):
    هذا راجع إلى المسألتين السابقتين.

    (وهذا قول القاضي، وبعض المالكية، والشافعية):
    وهو أرجح.

    (2)
    (وقال التميمي، وأبو الخطاب، وبعض الشافعية: يختص بالمأمور):

    (وقال التميمي):
    هذا من الحنابلة.

    (وأبو الخطاب وبعض الشافعية: يختص بالمأمور به):
    أي أن الحكم يختص بمن توجّه إليه من النبي -صلى الله عليه وسلم- أو غيره، إلا أن يتعلق به دليل يدل على العموم.

    وهؤلاء استدلوا باللغة، قالوا: لو السيد عنده عبيد، فخاطب أحدهم فقال له: "افعل كذا"، هل غير العبيد يدخلون في هذا؟
    الجواب: لا قطعا، هذا لا إشكال فيه.

    قالوا: كذلك الخالق -جل وعلا- لو أمر عبيده، أو النبي -صلى الله عليه وسلم وهو مبلغ عن الشرع- أمر البعض؛ فغيره لا يكون مثله.

    نقول: هذا فاسد؛ لأن الشرع عام، هذا الأصل عندنا، والأصل التأسي، فحينئذ لا ترد مثل هذه الأفكار.

  11. #91

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    هل الأمر يتعلق بالمعدوم؟

    [المتن]:

    [ويتعلق بالمعدوم(1) خلافا للمعتزلة وجماعة من الحنفية(2)].

    [الشرح]:

    (1) (ويتعلق بالمعدوم):

    يعني من لم يكن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أو تنزل الوحي هل هو مأمور أو لا؟

    نقول: مأمور ومُوجه إليه الخطاب، لكن بشرط استجماع شروط التكليف، وهذه المسألة يقع فيها خلاف مع قوله -جل وعلا-: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}؛ يعني من بلغه القرآن، إذًا الإنذار هنا وقع للمخاطبين الموجودين، وهم الصحابة، ووقع الإنذار وخوطب به المعدوم بشرط وجوده مستجمعا لشروط التكليف، ولا إشكال.

    المعتزلة عندهم اعتراضات؛ بأنه من تكليف المحال، وأنه لا يمكن أن يخاطب المعدوم، والمعدوم ليس بشيء، فكيف يمكن خطابه؟

    نقول: لا، المعدوم إن خُوطب مرادا به الإيجاد فنعم، هذا محال، هو معدوم فيقال له: "صل"، فيقوم يصلي، هذا باطل، ليس هذا المراد، إنما المراد أنه إن وُجد مستجمعا لشروط التكليف كان مكلفا.

    ولذلك أجمعوا على أن أول هذه الأمة وآخرها سواء في الأوامر والنواهي، وبهذا أجمع الصحابة؛ لأنهم نزَّلوا الأحكام والآيات والأوامر على التابعين، ولم يقل أحد من الصحابة للتابعين كنت معدوما فلم تخاطب، وإنما أجروا عليهم الأحكام كلها؛ الأوامر والنواهي، ولذلك جاء الحديث مخاطبا لهم: «تقاتلون اليهود حتى يختبئ أحدهم وراء الحجر ..» إلى آخر الحديث، وهؤلاء لن يقاتلهم الصحابة.

    (2)
    (خلافا للمعتزلة وجماعة من الحنفية):

    قالوا: إنه لا يجوز؛ لأنه تكليف بالمحال، وكأنهم نظروا إلى أن الخطاب موجه مع إيجاد الفعل بقطع النظر عن الشرط الذي ذكره الجمهور، وهو أنه يوجد مع استيفاء الشروط.

  12. #92

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    أمر المكلف بما علم أنه لا يتمكن من فعله:


    [المتن]:

    [ويجوز أمر المكلف بما عُلِمَ أنه لا يتمكن من فعله(1)، وهي مبنية على النسخ قبل التمكن(2)، والمعتزلة شرطوا تعليقه بشرطٍ لا يعلم الآمر عدمه(3)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ويجوز أمر المكلف بما عُلِمَ أنه لا يتمكن من فعله):

    هذا قول الجمهور؛ يعني يجوز الأمر من الله -جل وعلا- للمكلف بما يعلم سبحانه أنه لا يتمكن من فعله؛ بدليل أمر إبراهيم -عليه السلام- بذبح ابنه، مع علم الرب -جل وعلا- أنه لن يتمكن من الفعل، ما الفائدة في هذا؟

    نقول: العبادة قد تكون بالفعل، وقد تكون بالعزم والنية، وبامتثال أمر الله، وبالتسليم له، وبحصول الابتلاء، إذًا ثَم فوائد، وليس الفعل نفسه فقط هو العبادة، فإذا مُنع من أن يُمكّن من الفعل، نقول: حصل نوع تعبد، وهو امتثاله -عليه السلام- العزم على ذلك، تحقيق الابتلاء، ولذلك قال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ}، سماه بلاء، إذًا فيه فائدة ليست منحصرة في الفعل نفسه.

    (2)
    (وهي مبنية على النسخ قبل التمكن):

    هل يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل؟

    هذا سيأتينا أنه يجوز على الأصح، ومسألتنا هذه مُفرعة عليها.

    (3)
    (والمعتزلة شرطوا تعليقه بشرطٍ لا يعلم الآمر عدمه):

    هذا لعلّه فيه سقط أو شيء من هذا، لكن مراده أن يشترط في تكليف المعدوم بالأمر ألا يعلم الآمر عدم قدرته، وهذا في حق الله محال، كيف هذا؟! الله عز وجل يأمر ويعلم، لا تخفي عليه خافية، فكيف يأمر ولا يعلم أنه في قدرته أو لا؟

    نقول: هذا فاسد.

    قالوا: لأنه من تكليف المحال، فإنه من يحال بينه وبين الفعل يستحيل منه الفعل، وما يستحيل وقوعه لا يحصل الأمر به.
    على كل نقول: الصواب أن الرب -جل وعلا- قد يأمر العبد ويعلم -سبحانه وتعالى- أنه لا يتمكن منه أبدا، وأما إذا كان المانع يزول في وقت ما فهذا بلا خلاف أنه يجوز؛ كالحائض مثلا في وقت حيضها مأمورة بالصيام هل يمكن أن تفعل؟

    لا يمكن تمتثل، لكن هل المانع يزول أو لا يزول؟

    يزول، إذًا هذا باتفاق أنه يمكن تكليفها.

  13. #93

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب الأمر:

    الأمر بالشيء هل يستلزم النهي عن ضده؟


    [المتن]:

    [وهو نهي عن ضده معنى(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    ( وهو نهي عن ضده معنى):

    (وهو):
    أي الأمر.

    (نهي عن ضده معنى)
    : يعني من جهة المعنى، الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده، لكن من جهة المعنى، أما من جهة اللفظ فاتفاق، "قم، لا تجلس"، هل يمكن أن نقول له: "قم، ولا تجلس"؟

    "قم"، أمره بالقيام، "ولا تجلس"، نصّ، أمره بالقيام ونهاه عن الجلوس، هل هو عينه؟

    الجواب: لا؛ لأن "قم" صيغة "افعل"، وهذا "لا تفعل"، وهذا مغاير له، لكن لو قال له: "قم" وسكت، هل يمكن تحقيق القيام وإيجاده وامتثاله مع كونه جالسا؟

    لا يمكن، فحينئذ نقول: لا بد من ترك ضده؛ لأنه لا يمكن أن يحقق امتثال المأمور به -وهو القيام- إلا بترك الجلوس، فصار الجلوس منهيا عنه، إذًا دلالة عقلية، ولذلك ليس لها دليل شرعي، ولكن أمر معقول، واضح أنه لا يمكن أن يمتثل المأمور به إلا إذا ترك ضده، فإذا قيل له: "صل قائما"، وهو قادر، فلا يجوز له أن يصلي جالسا؛ لأنه منهي عن الجلوس، كيف نُهي عنه؟

    لأن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده.

  14. #94

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    باب النهي:

    تعريف النهي، وبيان أن مسائله على العكس من مسائل الأمر:


    [المتن]:

    [و(النهي) يقابل الأمر عكسا(1)، وهو استدعاء الترك بالقول على وجه الاستعلاء(2)، ولكل مسألة من الأوامر وِزَانٌ من النواهي بعكسها، وقد اتضح كثير من أحكامه(3)].

    [الشرح]:

    (1)
    (و(النهي) يقابل الأمر عكسا):

    ولذلك قال: (ولكل مسألة من الأوامر وِزَانٌ من النواهي بعكسها لأنه مقابل له.

    (2)
    (وهو استدعاء الترك بالقول على وجه الاستعلاء):

    ما حقيقة النهي؟

    قال: (استدعاء الترك بالقول على وجه الاستعلاء): كل ما قيل هناك يقال هنا.

    والصواب: أنه لا يشترط الاستعلاء هناك ولا علو، فكذلك النهي هنا لا يشترط فيه علو ولا استعلاء، وكذلك عندهم على مذهبهم أن الأمر قسمان: أمر نفسي ولفظي، ثم هل للأمر صيغة أو لا؟ كذلك النهي عندهم قسمان: نهي نفسي ونهي لفظي، ثم يختلفون هل للنهي صيغة تخصه أو لا؟

    (3)
    (ولكل مسألة من الأوامر وِزَانٌ من النواهي بعكسها، وقد اتضح كثير من أحكامه):

    إذًا النهي له صيغة بالإجماع، وهي صيغة "لا تفعل"، وهو للتحريم بإجماع السلف، وإن كان فيه خلاف، ويقتضي الفورية والتكرار على الصحيح، والنهي عن الشيء يستلزم الأمر بأحد أضداده.

  15. #95

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    باب النهي:

    اقتضاء صيغة النهي الفساد:


    [المتن]:

    [بقي أن النهي عن الأسباب المفيدة للأحكام يقتضي فسادها(1)، وقيل: لعينه لا لغيره(2)، وقيل: في العبادات لا في المعاملات(3)، وحُكِيَ عن جماعة منهم أبو حنيفة: يقتضي الصحة(4)، وقال بعض الفقهاء وعامة المتكلمين: لا يقتضي فسادا ولا صحة(5)، فهذا ما تقتضيه صرائح الألفاظ(6)].

    [الشرح]:

    (1)
    (بقي أن النهي عن الأسباب المفيدة للأحكام يقتضي فسادها):

    ما رتبه الشرع من الأحكام على الأسباب؛ كالبيع والعبادة إذا فُعلت على وجهها ترتب عليها الصحة أو الفساد، كذلك البيع يترتب عليه الصحة والفساد.

    قال: (النهي عن الأسباب المفيدة للأحكام يقتضي فسادها): وهذه هي القاعدة العامة التي يطلقها كثير من الأصوليين، "النهي يقتضي فساد المنهي عنه".

    ولذلك نقول: إن صيغة "لا تفعل" تقتضي التحريم والفساد، وكلاهما يكاد أن يكون إجماعا بين السلف، يقتضي فسادها مطلقا؛ يعني سواء كانت عبادة أو معاملة، سواء كان النهي لعينه أو لغيره.

    النهي لعينه؛ كصلاة الحائض وصومها، هي منهية عن هذه الصلاة، كذلك صومها منهية عن هذا الصوم، فحينئذ العبادة منهي عنها لعينها.

    لكن الوضوء بالماء المغصوب، هذا منهي عنه لغيره؛ كالصلاة أيضا في الدار المغصوبة منهي عنها لغيرها، كذلك الصلاة بلبس الحرير.

    فنقول: قوله: (يقتضي فسادها): يعني فساد الأسباب المفيدة للأحكام مطلقا، والمراد بالفساد عدم ترتب الآثار، فأثر النهي في العبادات عدم براءة الذمة، فلو صامت المرأة رمضان وهي حائض، صامت وأنهت الصيام هل برئت الذمة؟

    نقول: لا، لم تبرأ الذمة؛ لأن صيامها هذا فاسد؛ لأنها منهية عن هذا الصيام، والنهي يقتضي الفساد، إذًا هذا الصيام فاسد ولا يترتب عليه الآثار من الإجزاء وبراءة الذمة، بل بقيت الذمة مشغولة حتى تأتي به على الوجه الشرعي.

    وأثر النهي في المعاملات: عدم إفادة الملك والحِل، لو نكح نكاح متعة أو شغار هل حلت له المرأة؟

    لم تحل، إذًا لم يترتب عليه الآثار.

    ما الدليل على أن النهي يقتضي الفساد مطلقا؟

    أولا:
    قالوا: إجماع الصحابة؛ حيث إنهم كانوا يستدلون على فساد العقود بورود النهي عنها، ولذلك استدل ابن عمر -رضي الله عنهما- على عدم صحة نكاح المشركة بقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ} وليس فيها ما يقتضي الفساد إلا كونه نهيا، {لاَ تَنكِحُواْ}: هذا نهي، والنهي يقتضي التحريم، فإذا حصل ووقع؛ حكمه أنه فاسد.

    واستدلوا على بطلان بيوع المعاملات الربوية بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تبيعوا الذهب بالذهب»، وليس فيه إلا صيغة النهي، فدل على أنها تفيد التحريم وتقتضي الفساد.

    كذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»؛ معنى "رد": يعني مردود عليه بذاته قبل أن يفعله، وبعد أن أوقعه وأوجده، نقول: فهو مرود عليه من حيث الآثار المتعلقة، فلا يترتب عليه إبراء الذمة، ولا حل، ولا مِلك.

    كذلك أيضا استدلوا على هذه القاعدة -والقاعدة كبيرة عظيمة؛ أن النهي يقتضي الفساد مطلقا- بأن الشارع لا ينهى عن الشيء إلا لأن المفسدة متعلقة به، ولذلك انعقد الإجماع على أن الشارع لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، لا بد إما أن تكون المصلحة خالصة لا مفسدة فيها، أو راجحة متضمن لمفسدة لكنها في جانب المصلحة قليلة، وتقدم عليها المصلحة الراجحة، كذلك النهي لا ينهي إلا عما مفسدته خالصة أو راجحة، فحينئذ إذا قيل: النهي عن البيع أو النهي عن العبادات إذا وقعت على وجه غير شرعي وأنها تقتضي الفساد، نقول: تقتضي الفساد لأنها إما مفسدة خالصة وليست متأتية هنا أو مفسدة راجحة، والشارع له حكمة في إبطال وإعدام هذه المفسدة؛ لأن فيها ضررا، حينئذ، لا يمكن -كما قال ابن قدامة- أن يُعدم الضرر المترتب على ما هو مشتمل على مصلحة راجحة إلا بالقول بأن النهي يقتضي الفساد، ولذلك لو قيل: الصلاة في الدار المغصوبة باطلة -مثلا- يكون فيه زجر للناس عن الكف.

    (2)
    (وقيل: لعينه لا لغيره):

    إذًا القول الأول هو المرجح، وهو المذهب؛ أن النهي يقتضي الفساد مطلقا.

    (وقيل لعينه لا لغيره):
    يعني فيه تفصيل، إن كان النهي لعين المنهي عنه فالنهي يقتضي الفساد، وإن كان لأمر خارج عنه فلا يقتضي الفساد، لماذا؟


    قالوا: ما نُهي عنه لعينه الجهة واحدة، فلا يمكن أن نقول: هو من حيث كذا فهو مطالب به، ومن حيث كذا فهو غير مطالب به، وإنما اتحدت الجهة فبطلت العبادة أو بطلت المعاملة.

    فحينئذ لو صام في يوم العيد –مثلا- لا يمكن أن يفصل فيه؛ لأنه عبادة صوم وقع في يوم العيد، فنقول: هذا له جهة واحدة، وهو إيقاع الصوم في يوم محرم صيامه.

    كذلك صوم الحائض؛ لو صامت نقول: هذا صوم منهي عنه وله جهة واحدة، حينئذ لا يمكن القول بانفكاك الجهة في مثل هذا فقالوا: إذًا يقتضي الفساد.

    وما كان لغيره؛ كالصلاة في الدار المغصوبة قالوا: هذا لا يقتضي الفساد لماذا؟

    قالوا: الصلاة من حيث هي مطلوبة الإيجاد، والغصب هذا منهي عنه سواء صلى أو لم يصل، مطلقا، كل غصب منهي عنه، فحينئذ وقع الانفكاك في جهة، فقالوا: من حيث هي صلاة صحت، ومن حيث كونها في محل غصب هو يأثم على الغصب، والصلاة على أصلها.

    لكن الصواب: أن الصلاة باطلة؛ لعموم قوله: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد»، ولم يفصل بين ما نهي عنه لعينه أو لذاته.

    (3)
    (وقيل: في العبادات لا في المعاملات):

    وقيل في العبادات لعينها أو لغيرها النهي يقتضي الفساد مطلقا، وفي المعاملات سواء كان النهي لعينه أو لغيره لا يقتضي الفساد مطلقا، إذًا التفرقة بين العبادات والمعاملات، لماذا؟

    قالوا: لأن العبادات طاعة وقربة، وإذا كانت طاعة وقربة -والطاعة معروف أنها موافقة الأمر، والنهي معصية- فحينئذ لا يمكن أن تكون العبادة الواحدة مأمور بها متقرب بها وهي معصية في نفس الوقت، أما المعاملات فليست بقربة وليست بطاعة، فحينئذ يمكن أن يتجه إليها النهي والأمر.

    نقول: لا، أيضا هذا فاسد، وعموم الدليل يرده.

    (4)
    (وحُكِيَ عن جماعة منهم أبو حنيفة: يقتضي الصحة):

    يعني إذا نهى عن الشيء اقتضى أنه صحيح، وهذا من أغرب ما يُذكَر، لماذا؟

    قالوا: لأن مجرد صدور صيغة النهي يدل على تصور وقوع المنهي عنه، لا يمكن أن ينهى عن شيء إلا وأنها مُتوقَّع أو مُتصوَّر الوجود فدل على ماذا؟

    إذا نهى الشرع عن الشيء دل على إمكان إيجاده؛ لأن المستحيل لا يمكن أن يُنهى، الأعمى لا يمكن أن تقول له: "غُض بصرك"؛ لأنه أعمى، لا يمكن أن يبصر، لكن ما صح إيقاعه ووجوده هو الذي يقال له: لا تفعل.

    نقول: هذا فاسد؛ لأن الحكم هنا حكم شرعي، وتعلق النهي بما أمكن وجوده هذا أمر حسي، والكلام في الشرعيات لا في المحسوسات.

    (5)
    (وقال بعض الفقهاء وعامة المتكلمين: لا يقتضي فسادا ولا صحة):

    هذا مشهور عند الكثير من المتكلمين.

    (لا يقتضي فسادا ولا صحة):
    لانفكاك الجهة؛ لأن النهي خطاب تكليف، والصحة والفساد خطاب وضعي، ولا تعارض بينهما، إن دل الدليل على أنه صحيح فهو صحيح، وإن دل الدليل على فساده فهو فاسد، وليس بينهما ربط عقلي، وإنما تأثير فعل المنهي عنه في الإثم به.

    قال ابن قدامة في "الروضة": "ودل على فساده مطلق قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».

    (6)
    (فهذا ما تقتضيه صرائح الألفاظ):

    (فهذا):
    أي المذكور، كل ما سبق من قوله النص، وما عُطف عليه.

    (ما تقتضيه صرائح الألفاظ):
    لأن الحكم إما أن يؤخذ من اللفظ أو من المفهوم، النص والمجمل والظاهر والمُؤوَّل، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والأمر والنهي تؤخذ من صرائح الألفاظ، وأما المفهوم وما كان من فحوى الألفاظ وإشاراتها هذا حكمه مخالف للأول، ويخصه الأصوليون بمباحث خاصة من الاقتضاء والإيماء والإشارة ونحو ذلك.

  16. #96

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    باب المفهوم:

    الفرق بين المنطوق والمفهوم:


    [المتن]:

    [فهذا ما تقتضيه صرائح الألفاظ(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (فهذا ما تقتضيه صرائح الألفاظ):

    بعد أن بين لنا الأمر والنهي وغيرهما قال:

    (فهذا):
    أي المذكور سابقا.

    (ما تقتضيه صرائح الألفاظ):
    لأن دلالة الكتاب والسنة على الأحكام الشرعية لها طريقان: إما أن تكون بالمنطوق، وإما بالمفهوم، هذان طريقان لا ثالث لهما.

    والمنطوق لغة: هو الملفوظ به.

    واصطلاحا: "ما دل عليه اللفظ في محل النطق".

    "ما":
    أي حكم دل عليه اللفظ في محل النطق؛ لأن المنطوق هو المعنى الذي قصده المتكلم باللفظ أصالة؛ يعني بالذات من اللفظ، مادة الحروف التي تأخذ منها الحكم، هذا يسمى منطوقا، {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ}، نقول: التأفيف مُحرّم بالنص، من أين أخذنا هذا الحكم؟

    بالمنطوق؛ لأن اللفظ قد دلّ على عين التأفيف، فالتحريم أخذناه من قوله: {فَلاَ}: هذه ناهية، والتأفيف {أُفٍّ}، حينئذ نقول: دل اللفظ -بذاته؛ بنفسه، بنطقه، بمادته، بحروفه- على تحريم التأفيف، فلا يتوقف حينئذ فهم ما دل عليه اللفظ نطقا إلا على مجرد النطق باللفظ، لم يتوقف على أمر خارج، وإنما من مجرد المادة، من ذات اللفظ أخذنا الحكم.

    أما مثلا: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ}: دل بمنطوقه على تحريم التأفيف، لم يذكر الضرب، لم يذكر الشتم، اللعن، السب، لم يُنطَق بحكمها، التحريم لا شك، من أين أخذنا هذا الحكم؟

    من نفس الآية، من نفس النص، {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ}، نقول: هذا دل بمنطوقه على تحريم التأفيف، وبمفهومه على تحريم الضرب ونحوه.

    إذًا تحريم الضرب لم يُؤخَذ من اللفظ عينه، وإنما أُخذ تحريم التأفيف فقط.

    ولذلك نقول: المفهوم اسم مفعول من فهم يفهم فهو مفهوم.

    والمراد بالمفهوم: هو إدراك معنى الكلام، لكن لا من جهة اللفظ، ولذلك عُرّف بتعريف مقابل للمنطوق.

    المنطوق: "ما دل عليه اللفظ في محل النطق".

    المفهوم: "ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق".
    .
    (فهذا ما تقتضيه صرائح الألفاظ): يعني ما يُؤخذ من صريح اللفظ، وهو المنطوق.

  17. #97

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع باب المفهوم:

    المفهوم وأضربه:


    [المتن]:

    [وأما المستفاد من فحوى الألفاظ وإشاراتها وهو (المفهوم) فأربعة أضرب(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وأما المستفاد من فحوى الألفاظ وإشاراتها وهو (المفهوم) فأربعة أضرب):

    هذا شروع من المصنف -رحمه الله- في بيان المفهوم بعد كلامه على ما يتعلق بصرائح الألفاظ الذي هو المنطوق.

    (من فحوى الألفاظ وإشاراتها)
    : يعني ما نَبّه عليه اللفظ وأشار إليه لا من جهة النطق، فحينئذ يكون مقصودا باللفظ ولم يتناوله اللفظ.

    المفهوم: ما كان مقصودا باللفظ ولم يتناوله اللفظ، {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ}، نقول: هذا قُصد به -باللفظ عينه- الدلالة على تحريم التأفيف، وقُصد به أيضا الدلالة على تحريم الضرب ونحوه من باب الأولى؛ لأنه إذا عُلّق الحكم على ما هو أدنى؛ فحينئذ يستلزم المنع مما هو أعلى بطريق الأولى.

    لكن هل تحريم الضرب ونحوه مقصود باللفظ؟

    نقول: نعم، مقصود باللفظ ولا شك.

    هل تناوله اللفظ؟

    الجواب: لا، إذًا نقول: المفهوم: ما قصد باللفظ ولم يتناوله اللفظ؛ لأنه لو تناوله اللفظ لصار منطوقا، ونحن نقول: المفهوم مقابل للمنطوق.

    (وإشاراتها):
    هذا عطف مرادا به التفسير.

    (وهو المفهوم):
    أي المستفاد من فحوى الألفاظ يسمى عند الأصوليين بالمفهوم، ويسمى منطوقا؛ لأنه إنما وُصل إليه من جهة النطق، الأول منطوق، وهذا منطوق إليه.

    لمَ سُمي منطوقًا إليه؟

    لأنه في قوة المنطوق؛ لأن اللفظ إذا تكلم به المتكلم -وهو لغوي، أو جاء في الشرع- فله جهتان: جهة مادة الحروف، وهذه التي عُنون لها بـ (المنطوق)، وجهة من فحوى الكلام وإشارات الكلام، وهذا ما عُنون له بـ (المفهوم).

    (فأربعة أضرب):
    الفاء واقعة في جواب الشرط، فأما المستفاد فأربعة أضرب؛ يعني فأربعة أنواع، كأنه قسّم لك المفهوم الذي يقابل المنطوق أربعة أنواع: الاقتضاء، والإشارة، والتنبيه، ودليل الخطاب.

    وعليه؛ قد جعل المصنف هنا دلالة الاقتضاء والإشارة من قسم المفهوم، وهذا محل نزاع عند الأصوليين، هل دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة من المفهوم أو من المنطوق؟

    من جعل المنطوق قسما واحدا، وهو الصريح فقط -الذي يؤخذ من مادة اللفظ- قال: دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة من قسم المفهوم، وليس من قسم المنطوق؛ لأن المنطوق هو ما أخذ من مادة الحروف فقط، هذا قول.

    القول الثاني:
    بعضهم قسّم المنطوق إلى منطوق صريح، ومنطوق غير صريح.

    المنطوق الصريح:
    هو دلالة اللفظ على الحكم بدلالة المطابقة أو التضمن.

    وأين الالتزام؟

    هذا غير صريح، جعل دلالة اللفظ على خارجٍ لازمٍ للفظ أو لمعنى اللفظ منطوقا غير صريح، فيكون التقسيم هنا مبنيا على أقسام الدلالة الثلاثة: دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام.

    دلالة المطابقة عندهم
    : هي دلالة اللفظ على تمام المعنى؛ يعني يُوضع اللفظ له معنى خاص، إذا أُطلق اللفظ وأُريد به كل المعنى الذي وُضع له في اللغة؛ نقول: هذه دلالة المطابقة، سميت دلالة مطابقة من قولهم: "طابق النعل النعل"؛ كـ "الإنسان" إذا أطلق مرادا به الحيوان الناطق، هذه دلالة اللفظ على كل ما وُضع له في اللغة، ولذلك عين اللفظ استعمل في عين المعنى الموضوع، طابق الفهمُ الوضع؛ لأن اللفظ إذا دل على معنى؛ فإما أن يكون المعنى مساويا للفظ عند الاستعمال، وإما أن يكون أقل، إن كان مساويا من كل وجه فهو دلالة المطابقة.

    دلالة اللفظ على ما وافقه
    يدعونها دلالة المطابقة
    على ما وافقه: أي في لغة العرب، فإذا أُطلق لفظ "إنسان" انصرف إلى معناه وهو حيوان ناطق.

    أما دلالة التضمن فهي:
    دلالة اللفظ على جزء المعنى، لكن في ضمن الكل، فإذا أطلق الإنسان مرادا به الحيوان فقط، أو أُريد به الناطق فقط؛ نقول: هذا دلالة تضمن؛ يعني أُطلق الكل وأريد به البعض؛ كـ "دلالة الأربعة على الواحد"، العدد أربعة: إذا أُطلق فُهم منه الواحد، إذا الأربعة تدل على الواحد: ربعها، وتدل على الاثنين: نصفها، وتدل على الثلاثة: ثلاثة أرباعها، فإذا أُطلق اللفظ أربعة وأُريد به مسماه في لغة العرب -وهو الأربعة- صار من إطلاق اللفظ وإرادة كل المعنى، فصارت دلالة مطابقة؛ لأن اللفظ طابق المعنى، لكن لو أراد بالأربعة الواحد صارت دلالة تضمن؛ لأن الواحد في ضمن الكل، ولذلك يقول الشيخ الأمين -رحمه الله- في المقدمة: "لو سمع رجل آخر يقول: "عندي في جيبي أربعة دنانير"، فقال: أقرضني دينارا واحدا، قال: أنا ليس عندي دينار، هو ما قال: "دينار عندي"، قال: "عندي أربعة"، لو قال له واحد: "أقرضني دينارا أو دينارين"، هل يصح نفي الدينارين عنده أو نفي الواحد؟

    الجواب: لا، نقول له: أنت قلت: "عندي أربعة دنانير"، وهذه تدل بدلالة التضمن على الواحد، إذًا عندك دينار، وتدل بدلالة التضمن على الاثنين: نصف الأربعة، وتدل بدلالة التضمن على الثلاثة: ثلاثة أرباعها، وتدل على الأربعة كلها بدلالة المطابقة، حينئذ لا يصح النفي.

    كما إذا أُطلق لفظ "الصلاة" على الركوع أو السجود، نقول: هذه دلالة تضمن، لكن الأصل أن يُقال: في "صليتُ"، أو "قم فصل" المراد باللفظ هنا الصلاة مدلولها الشرعي التام؛ المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، دلالة لفظ "الصلاة" على مسماها الشرعي، نقول: هذه دلالة مطابقة، دلالتها على بعضها؛ كـ "الركوع"، أو "قراءة الفاتحة"، أو على أي ركن من أركانها، أو واجب من واجباتها؛ نقول: هذه دلالة تضمن؛ لأنه أُطلق لفظ الكل وأُريد به البعض، وليس بمجاز.

    الثالث: دلالة الالتزام:
    وهي دلالة اللفظ على خارجٍ عن مسماه لازمٍ له؛ يعني اللفظ لا يدل عليه من حيث هو، إنما وُضع لمعنى مُراد في لغة العرب، يلزم من إطلاق هذا المعنى وجود ذلك الخارج، فإذا أُطلق اللفظ لزم منه المعنى الخارج؛ مثل "الأربعة"، إذا أُطلقت "الأربعة" انصرف إلى الزوجية دون الفردية، دلالة "الأربعة" على الزوجية دلالة التزام؛ لأن الزوجية لم تُؤخذ من اللفظ "أربعة"، ليس فيها كلمة زوج، كذلك مدلولها "الأربعة"، هل مسمى الأربعة فيه معنى الزوجية؟

    الجواب: لا، لكن لكونها تنقسم إلى قسمين متساويين فُهمت الزوجية، فحينئذ نقول: دلالة الأربعة على مسماه الذي وُضع له في لغة العرب دلالة مطابقة.

    ما هو المنطوق؟ هل هو الحكم الذي دل عليه اللفظ بالمطابقة والتضمن والالتزام؟ أو بالمطابقة والتضمن فقط؟

    هذا محل نزاع؛ لأن الحكم يُؤخذ بالمطابقة من الشرع، ويُؤخذ بالتضمن، ويُؤخذ بالالتزام، إذا دل اللفظ على الحكم بالمطابقة أو التضمن هذا باتفاق أنه منطوق، إنما الخلاف فيما إذا دل اللفظ على الحكم بالالتزام هل هو منطوق أو لا؟

    بعضهم أثبتَ أنه منطوق، وقال: ليس بصريح.

    وبعضهم قال: لا، المنطوق عندنا فقط الصريح، وليس عندنا منطوق ليس بصريح، وإنما هو مفهوم.

    حينئذ يكون محل الخلاف فيما دُلّ عليه من دلالات الكتاب والسنة على الحكم بدلالة الالتزام، ولذلك بعضهم قال: المنطوق قسمان:

    الأول: منطوق صريح: وهو دلالة اللفظ على الحكم بالمطابقة أو بالتضمن فقط؛ نحو قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، هذا دل بمنطوقه على الفرق بين البيع وبين الربا، {وأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ}، إذًا البيع حلال، والربا حرام، مأخوذ من النص؛ لأن اللفظ قد وُضع له؛ حيث دل اللفظ بمنطوقه الصريح على نفي المماثلة بين البيع والربا، أحل الأول وهو البيع، وحرم الثاني وهو الربا، نقول: دلالة الآية على حِل البيع بالمنطوق، ودلالة النص على تحريم الربا مأخوذ من المنطوق.

    الثاني: منطوق غير صريح:
    وهو دلالة اللفظ على الحكم بالالتزام؛ من دلالات الالتزام؛ لأن اللفظ مستلزم لذلك الحكم، فاللفظ لم يُوضع للحكم الذي دُلّ عليه بالالتزام، ولكن الحكم فيه لازم للمعنى الذي وُضع له ذلك اللفظ؛ لأن اللازم يدل على صدق الملزوم أو بطلانه، إن صح اللازم فالملزوم صحيح، وإن بطل فهو باطل، حينئذ دلالة اللفظ على حكم خارجٍ عن اللفظ وعن مسماه نقول: هذه دلالة التزام، سواء كان بالعقل أو كان بالشرع؛ لأن الكلام هنا في الشرعيات، فـ {أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} مثلا يدل على لزوم الطهارة؛ لأن الشرع رتّب وجود الصلاة على وجود الطهارة مع القدرة، فحينئذ كل أمر في الشرع بالصلاة فهو أمر بالوضوء بدلالة الالتزام، هل لفظ الصلاة وُضع للوضوء أو للصلاة المعهودة مع الطهارة نفسها؟

    الجواب: إنما فُهم توقف الصلاة على وجود الطهارة من أمر خارجي، فحينئذ إذا أُطلق لفظ الصلاة انصرف الذهن إلى إيجابها مع إيجاب الوضوء، ولذلك نقول: كل شرط للصلاة يمكن أخذه من قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، بل {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} يدل على وجوب تعلم كيفية الصلاة؛ لأنه مأمور بصلاة لا يدري ما هي في الأصل، فيلزمه بهذا النص أن يتعلم كيفية الصلاة، ويتعلم كل ما توقف عليه وجود الصلاة، كل هذا مأخوذ بدلالة الالتزام؛ لأن قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ْ} ليس فيه أمر بتعلم كيفية الصلاة، كذلك ليس فيه أمر بستر العورة، أو بالتوجه إلى القبلة، أو بالصلاة على المكان الطاهر، كل شرط وُضع للصلاة فهو مأخوذ إيجابه من هذه الآية: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} بدلالة الالتزام.

    إذًا إذا قلنا: المنطوق صريح وغير صريح، بعضهم قال: غير الصريح يدخل فيه دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة.

    وهو دلالةُ اقتضاءٍ أن يدل
    لفظ على ما دونه لا يستقل اللزوم
    فحينئذ نقول: قول المصنف هنا: (فأربعة أضرب): مشى على غير المشهور، وإلا المشهور أن المنطوق نوعان: صريح وغير صريح، ودلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة هذان نوعان من المنطوق غير الصريح، وأما المفهوم فهو شيء خارج عن اللفظ بتاتا.

  18. #98

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع المفهوم وأضربه:

    دلالة الاقتضاء:


    [المتن]:

    [الأول: (الاقتضاء) وهو الإضمار الضروري لصدق المتكلم؛ مثل: (صحيحا) في قوله: «لا عَمَل إلا بِنِيَّة»، أو ليوجد الملفوظ به شرعا؛ مثل: «فَأَفْطَرَ» لقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أو عقلا؛ مثل الوطء في مثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ}(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (الأول: (الاقتضاء) وهو الإضمار الضروري لصدق المتكلم؛ مثل: (صحيحًا) في قوله: «لا عَمَل إلا بِنِيَّة»، أو ليوجد الملفوظ به شرعا؛ مثل: «فَأَفْطَرَ» لقوله: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، أو عقلا؛ مثل الوطء في مثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَهَاتُكُمْ}):

    (الأول: دلالة الاقتضاء)
    : سميت بذلك لأن المعنى يقتضيها كما سيأتي بيانه.

    (دلالة الاقتضاء، وهو الإضمار)
    : مراده أن يدل اللفظ دلالة التزام -لأن الكلام كله في دلالة الالتزام- على محذوف، هذا المحذوف لا يستقل الكلام بدونه.

    (لتوقف صدق المتكلم عليه):
    لو لم نُقدّر هذا المحذوف لقلنا: هذا الكلام كذبا، فحينئذ لتصديق الكلام وللحكم على المتكلم بأنه صادق لا بد من تقدير محذوف.

    (وهو الإضمار):
    يقصد بالإضمار التقدير؛ يعني اللفظ يدل على وجوب تقديرٍ في الكلام، الكلام على ظاهره باطل على ما ذكره الأصوليون، لو لم نُقدر لكان الكلام كذبا.

    (
    الضروري): أي أن الكلام الملفوظ به لا يصح ضرورة إلا بتقدير محذوف، وذلك المحذوف هو المقتضى؛ أي الذي تقتضيه صحة الكلام ويطلبه، فعندنا مقتضِي، ومُقتضَى، واقتضاء.

    الاقتضاء:
    هو الأمر المعنوي الذي هو الإضمار، والتقدير فعل الفاعل.

    المقتضِي:
    هو عين اللفظ الذي يجب أن نقدر فيه؛ كما مثّل هنا: "لا عمل إلا بنيّة"؛ يعني لا عمل موجودا في الأصل إلا بنية، ومعلوم أن الأفعال والأعمال توجد صورها بدون النية، يقوم يصلي فتأتي الصلاة وتكون موجودة صورتها، لكن بدون نية وُجدت، لا بد أن نقدر لفظًا يُصحح اللفظ، وإن لم نُقدر لحكمنا بكذب اللفظ -ولا نقول: المتكلم-، نقول: العمل يمكن أن يُوجد بدون نية، يمكن أن يذهب فيحج حجا كاملا بدون نية، ويصوم بدون نية، ويصلي ويزكي بدون نية، إذًا وُجد العمل، والقول: "لا عمل"؛ أي لا يوجد عمل إلا مع النية، نقول: ظاهر الكلام كذب، فلا بد من تقديرٍ يصحح الكلام؛ أي لا عمل صحيحا، حينئذ صح الكلام؛ لذلك قال: (وهو الإضمار الضروري): يعني ضرورة لا بد لصدق المتكلم.

    "لا عمل إلا بنية": هذا المقتضِي بكسر الضاد، و "صحيحا": هذا المُقتضَى، وعملية التقدير هي الاقتضاء.

    كذلك كما في حديث: «إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان»، هذا أوضح، أو «رُفع الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، لو أخذنا بظاهر اللفظ معناه لا يقع الخطأ أبدا، «رُفع الخطأ» عين الخطأ غير موجود، لا؛ لأن الأمة صارت معصومة، «والنسيان»، إذًا لا يوجد نسيان، «وما استكرهوا عليه»؛ يعني الإكراه غير موجود، نقول: لو وقفنا على ظاهر اللفظ لكان كذبا، فلا بد من التقدير، رُفع الإثم، «رُفع الخطأ»؛ يعني إثم الخطأ، «والنسيان»؛ يعني إثم النسيان، «وما استكرهوا عليه»؛ أي إثم الإكراه، لتصحيح هذا اللفظ، ولئلا يُتهَم بالكذب.

    كذلك في حديث ذي اليدين: "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله"؟ صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلّم من ركعتين، والأصل أنها رباعية، إما أنه أُوحي إليه وحي جديد بقصر الصلاة أو النسيان، لا يوجد ثالث، فقال: "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله"؟ فقال: «كل ذلك لم يكن"؛ يعني لا قصر ولا نسيان، إذًا لا بد من واحد قد وقع، «كل ذلك لم يكن»، إذًا لم ينس، ولم يتجدد وحي بالقصر، فحينئذ لما عُلم أنه لم يُوحَ إليه شيء جديد تعين الثاني وهو النسيان، ولذلك جاء في بعض الروايات: "بل نسيت يا رسول الله"، محل الشاهد، «كل ذلك لم يكن»، نقول: هذا في ظاهره لو لم يُقَدر لعُد كذبا في ظاهر الكلام بقطع النظر عن قائله، لو لم نُقدر محذوفا تقديرا في ظني لعد الكلام كذبا، ولكن نقول: بدلالة الاقتضاء هنا لزم ثم محذوف لا بد من تقديره، «كل ذلك»: الذي هو القصر والنسيان، «لم يكن»: لم يوجد، لم يقع، مع أنه إذا نُفي القصر تعين النسيان قطعا؛ لأنه كما مر معنا أنه من قبيل الكل أو الكلية؟

    من قبيل الكلية، أما قول صاحب السلم فقد أخطأ.

    الكل حُكمنا على المجموع ككل ذاك ليس ذا وقوع
    هذا خطأ، لذلك غُلّط فيه، والصواب أنه من قبيل الكلية.

    إذًا الإضمار الضروري لصدق المتكلم؛ يعني ما يتوقف عليه صدق المتكلم كما ذكرناه في الأمثلة السابقة.

    (مثل "صحيحًا" في قوله: "لا عمل إلا بنيّة")
    : لأن صور الأعمال يمكن وجودها بلا نية، فكان إضمار الصحة من ضرورة صدق المتكلم.

    (أو لـ):
    يعني النوع الثاني من الإضمار الضروري لصدق المتكلم، أو يكون الإضمار ضروريًا لأجل، اللام هنا للتعليل.

    (ليوجد الملفوظ به شرعا أو عقلا)
    : يعني يتوقف عليه صدق اللفظ عقلا، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}، اللفظ على ظاهره: "القرية" ما تُسأل، إذًا لا بد من محذوف، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ}، العير أنفسها لا تُسأل، وإنما لا بد من تقدير محذوف، "واسأل أهل القرية"، هذا بالعقل أو الشرع كما سيذكره المصنف.

    إذًا (أو ليوجد الملفوظ به): هذا معطوف على قوله: (لصدق المتكلم): يعني الإضمار ضروري لأجل صدق المتكلم؛ لصحة صدق المتكلم، وضروري كذلك لصحة وقوع الملفوظ به؛ يعني يتوقف عليه صحة الكلام إما شرعا وإما عقلا.

    (شرعا؛ مثل "فأفطرَ" لقوله تعالى:
    {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}): هذا في القضاء إنما يكون للمُفطر، أما من كان مسافرا أو مريضا ولم يُفطر؛ لا يجب عليه القضاء، وإنما يجب عليه القضاء إذا أفطر، مع أن ظاهر النص: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، إذًا {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} ودخل عليه رمضان وهو مريض {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}: وجب عليه القضاء، وبه قال ابن حزم -رحمه الله- سواء أفطر أو لم يفطر.

    لكن نقول: لا، هذا شرعا لا بد من تصحيح ظاهره، وليس مرادا، {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}؛ أي فأفطر؛ لأنه لا قضاء لمن صام في شهر رمضان ولو كان مريضا أو على سفر؛ لا قضاء شرعا لمن صام في رمضان، سواء كان صحيحا -وهذا لا إشكال فيه- أو كان مريضا أو مسافرا، وأما النص فظاهره مطلقا أنه يلزمه القضاء ولو لم يفطر.

    نقول: لا، لا بد من التقدير {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}؛ أي فأفطر؛ لأن القضاء لا يكون إلا للمُفطر، فلأجل أن يُوجد الملفوظ به شرعا -وهو القضاء- لا بد من الإضمار هنا.

    ومثل قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} مطلقا ولو لم يحلق رأسه؟

    نقول: لا، فحلق رأسه ففدية، هذا المراد؛ لتصحيح الحكم المترتب على هذا اللفظ لا بد من تقديرٍ فيه.

    (أو عقلا)
    : يعني يكون الإضمار ضروريا لأجل أن يوجد الملفوظ به عقلا؛ يعني ما توقف عليه صدق اللفظ من جهة العقل.

    (مثل الوطء في مثل قوله تعالى:
    {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}): هذا كما سبق أن التحريم متعلقه فعل المكلف، فإذا عُلّق الحكم على الذوات نقول: لا يمكن هذا، الذات نفسها لا يتعلق بها الحكم، وإنما بفعل المكلف، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} قال: لا بد من إضمار، لا بد من تقدير، وهو "حُرم عليكم الوطء".

    ومثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}؛ أي أكلها.

    هذا ما يسمى بدلالة الاقتضاء؛ أن يدل اللفظ دلالة التزام على محذوف، هذا المحذوف يجب تقديره، لذلك اختصر المصنف قال: (وهو الإضمار الضروري): الإضمار يعني التقدير للمحذوف الضروري الذي يتوقف عليه صدق المتكلم، أو وجود اللفظ شرعا أو عقلا.

  19. #99

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع المفهوم وأضربه:

    دلالة الإيماء والإشارة وفحوى الكلام ولحنه:


    [المتن]:

    [الثاني: (الإيماء والإشارة وفحوى الكلام ولحنه)؛ كفهم عِلِّيَّة السرقة في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (الثاني: (الإيماء والإشارة وفحوى الكلام ولحنه)؛ كـ فهم عِلِّيَّة السرقة في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا}):

    (الثاني):
    من أنواع دلالة المفهوم.

    (الإيماء والإشارة وفحوى الكلام ولحنه):
    يعني لحن الكلام.

    (الإيماء والإشارة):
    هنا قرن بينهما، وإن كان المشهور عند الأصوليين الفصل، دلالة الإيماء مغايرة لدلالة الإشارة، وهذا هو الأظهر، لكن على ظاهر المصنف هنا أنه سوى بين الإيماء والإشارة وفحوى الكلام ولحنه، وحدّده بقوله:

    (كـ فهم عليّة السرقة)
    : وهذا ما يسمى بدلالة الإيماء.

    إذًا فرق بين دلالة الإشارة ودلالة الإيماء.

    دلالة الإشارة:
    هي أن يدل اللفظ على معنى ليس مقصودا باللفظ في الأصل، وإنما قُصد تبعا؛ يعني صار المدلول عليه -من خارج اللفظ- تابعا للملفوظ به، لكن هل هو المقصود؟

    الجواب: لا، إنما سيقت الآية أو سيق النص لبيان حكم يلزم منه الحكم الآخر؛ يعني دلّ على ذلك الخارج عنه؛ لأن الكلام في دلالة الالتزام، ليس في عين اللفظ، كله مفهوم مما يتعلق باللفظ، وليس نصا باللفظ، وإنما كله داخل في دلالة الالتزام، أمر خارج عن اللفظ دل عليه اللفظ.

    هناك في دلالة الاقتضاء دلالة التزام، لكن واضح أنه لا يمكن أن يُحكَم على المتكلم بصدق كلامه إلا بهذا التقدير، وكذلك من جهة الشرع ومن جهة العقل.

    أما دلالة الإشارة فلا، ليس عندنا ثم تقدير، وليس ثم محذوف، وإنما يُساق النص لبيان حكمٍ ما يلزم منه أمر خارج، وهو حكم شرعي آخر، فحينئذ يكون الذي سيق له اللفظ مقصودا بالذات، وما فُهم بالإشارة مقصودا بالتبع.

    نقول: بالتبع في الشرع مقصود؛ لأن لازم الحق حق، فكل ما لزم الكتاب والسنة نقول: هذا حق، ولا نقول: غير مقصود، وإنما نقول: مقصود بالحق، وهو حق؛ كما فهم علي -رضي الله عنه- من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}، كل آية سيقت لبيان حكم خاص، لكن تركيبا من الآيتين فهم علي -رضي الله عنه- أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، هل سيقت الآية لبيان هذا الحكم؟

    لا، وإنما بالإشارة دل اللفظ على أمر خارج غير مقصود من سياق اللفظ، إنما سيق اللفظ لبيان {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}: أن الحمل والفصال (الفطام) ثلاثون شهرا، وقال تعالى في الأخرى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}، أسقِط العامين من الثلاثين بقي ستة أشهر، إذًا أقل الحمل ستة أشهر.

    كذلك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ}، {ليلة} يصدق على كل جزء من أجزاء الليل، فمن أول جزء من غروب الشمس إلى طلوع الفجر نقول: هذا جزء من أجزاء الليل، ولفظ "الليلة" صادق على مجموع تلك الأجزاء، ففي أي جزء منها أوقع الجماع فهو حلال، ويلزم منه أنه إذا جاز له أن يوقع الوطء أو الجماع في آخر جزء قبل الفجر بدقيقتين أن يصبح جنبا، إذًا لو قال قائل: ما حكم من أصبح جنبا؟

    صيامه صحيح، من الأدلة هو هذا، وهناك نصوص واضحة بينة، لكن يُستدل بالقرآن على هذا، فهو دلالة الإشارة، نقول: دلت الآية بدلالة الإشارة على جواز صيام من أصبح جنبا، مع أنها لم تُسق لبيان هذا الحكم، وإنما بدلالة الالتزام فُهم هذا الحكم.

    أما دلالة الإيماء:
    فهي أن يقترن بالحكم وصف، لو لم يكن هذا الوصف علة لهذا الحكم لصار حشوا ولعبا؛ لأنه لا يُعدَل عن الاسم الجامد إلى المشتق إلا لحكمة؛ إلا لفائدة، لا يمكن أن يُقال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا}، ثم نقول: القطع هذا لم يترتب على السارق لكونه سارقا، أو السارقة لكونها سارقة؛ لأنه يمكن أن يقال: "الرجل والمرأة فاقطعوا أيديهما"، فيُؤتى باسم جامد ثم يُبين الشروط، لكن كونه يُشتق من السرقة وصف للمذكر، ويشتق من السرقة وصف للمؤنث، ويُرَتب عليهم الحكم الشرعي؛ دل على أن هذا الحكم مرتب على هذه العلة، وهي السرقة.

    إذًا دلالة الإيماء مفارقة لدلالة الإشارة.

    دلالة الإشارة يدل اللفظ على حكم لازمٍ للملفوظ به لم يكن مقصودا بالحكم وإنما قُصد تبعا.

    وأما دلالة الإيماء واضح أنها مفارقة لها؛ لأن الحكم هنا قد عُلّق على مشتق؛ اسم فاعل، اسم مفعول، لو لم نجعل الحكم مرتبا على هذه العلة لصار عبثا؛ لأنه يرد السؤال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}، فنقول: لو لم يكن الزنى هو علة الحكم الذي رُتب عليه لكان عبثا وحشوا، هذه دلالة الإيماء، وهذه يستخدمها الأصوليون في باب القياس؛ يعني يتوسعون فيها في باب القياس.

    (وفحوى الكلام):
    يعني ما يُفهَم من الكلام.

    (ولحنه):
    كذلك، عطف.

    (كفهم عليّة السرقة من قوله تعالى:
    {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا}): كفهم علية السرقة في ترتب الحكم عليها، من أين أخذناها؟ لأنه رتب الحكم على مشتق، وترتيب الحكم على المشتق يُؤذن بعلية ما منه الاشتقاق، فحينئذ كل حكم رُتب على وصفٍ -اسم فاعل، أو اسم مفعول- نقول: علة هذا الحكم هو كذا كما سيأتي في طرق استنباط العلة، لكن لا بد من التفصيل على ما ذكرناه، لكن فرق بين دلالة الإيماء ودلالة الإشارة.

  20. #100

    افتراضي رد: "المباحث اللغوية" للعلامة أحمد بن عمر الحازمي مصححة منقحة

    تابع المفهوم وأضربه:

    دلالة التنبيه:


    [المتن]:

    [الثالث: (التنبيه) وهو مفهوم الموافقة، بأن يُفهم الحكم في المسكوت من المنطوق بسياق الكلام، كتحريم الضرب من قوله تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}(1)، قال الجزري وبعض الشافعية: هو قياس، وقال القاضي وبعض الشافعية: بل من مفهوم اللفظ، سَبَقَ إلى الفهم مقارنا، وهو قاطع على القولين(2)].

    [الشرح]:

    (1)
    (الثالث: (التنبيه)، وهو مفهوم الموافقة، بأن يُفهم الحكم في المسكوت من المنطوق بسياق الكلام؛ كـ تحريم الضرب من قوله تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}):

    (
    الثالث: التنبيه): يسمى تنبيه الخطاب، ويسمى فحوى الخطاب، ومفهوم الخطاب، وهو الذي قال فيه: (وهو مفهوم الموافقة).
    المفهوم في اللغة: اسم مفعول من فَهِم، وهو إدراك معنى الكلام، فما يُستفاد من اللفظ فهو مفهوم.

    واصطلاحا: ما دل على الحكم لا في محل النطق، إذًا هو مقصود باللفظ ولم يتناوله اللفظ، إذا حفظت هذه العبارة تدرك معنى المفهوم.

    وهو قسمان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة، أشار إلى الأول بقوله: (التنبيه وإلى الثاني بقوله: (دليل الخطاب).

    مفهوم الموافقة:
    هو ما وافق المسكوت عنه المنطوق في الحكم؛ يعني لا يخالفه، قد يكون أولى، وقد يكون مساويا.

    كالتحريم في قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ}، هنا تحريم التأفيف مأخوذ من اللفظ؛ من النطق، وتحريم الضرب مأخوذ من المفهوم، إذًا باعتبار كون تحريم التأفيف منطوقًا به يقابله ما يصح أن يُطلق عليه أنه مسكوت عنه، لكنه أُلحق بالمنطوق، وصار مساويا له في الحكم.

    إذًا مفهوم الموافقة ما وافق المسكوت عنه المنطوق في الحكم؛ يعني الحكم واحد لم يخالفه، فتحريم التأفيف وضرب الوالدين نقول: الحكم واحد، المسكوت عنه -وهو ضرب الوالدين أو شتمهما- حكم مساو للمنطوق به، لكنه من باب أولى، فحينئذ نقول: المسكوت عنه قد يكون أولى بالحكم من المنطوق به؛ لأنه كما هو معلوم أن التأفيف أقل ضررا من الضرب، فنبَّه بمنع الأدنى من منع ما هو أولى منه، الأدنى الذي هو الـتأفيف منعه، إذًا من باب أولى وأحرى أن يُمنع ما هو أولى وأشد منه.

    وقد يكون مساويا كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا}، {يَأْكُلُونَ}: أصل الأكل في اللغة: الأكل المعهود، ما أكلها، حرقها، ما حُكمه؟

    التحريم، من أين أخذناه؟

    من مفهوم الموافقة؛ لأن الحكم هنا مُرتب على أكل أموال اليتامى، هذا ما أكل، إنما حرقها، أو أغرقها، هل هو أولى بالحكم -الذي هو الإغراق والحرق- من الأكل أو مساو؟

    مساو؛ لأن المقصود هو الإتلاف، لا يجوز إتلاف أموال اليتامى، سواء أكلها أم أغرقها، أم أحرقها، لمطلق الإتلاف، بأي إتلاف، ولكن نص على الأكل؛ لأنه هو الأشهر، أما الإحراق والإغراق فهو قليل.

    إذًا نقول: مفهوم الموافقة: ما وافق المسكوت عنه المنطوق في الحكم، ولذلك يسمى بفحوى الخطاب، ولحنه، والقياس الجلي، والتنبيه، ومفهوم الخطاب.

    وبعضهم خص الأوْلى بفحوى الخطاب، والمساوي بلحنه.

    تحريم ضرب الوالدين هذا أولى، إذًا مفهوم موافقة أولوي، هذا خصه بعضهم باسم فحوى الخطاب.

    وما كان مساويا؛ كإحراق أموال اليتامى سماه بلحن الخطاب، والمسألة اصطلاحية.

    قال: (التنبيه): يعني تنبيه الخطاب.

    (وهو)
    : مفهوم الموافقة.

    (بأن يُفهم الحكم في المسكوت من المنطوق بسياق الكلام):
    يعني بدلالة سياق الكلام؛ لاشتراكهما في علة الحكم، وهذه العلة تُدرك بمجرد فهم اللغة، فحينئذ إذا قال: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ}، العلة: أذى الوالدين، وهو مُحرّم مطلقا، والضرب وُجدت فيه العلة، بل هي أظهر، فحينئذ قال:

    (بأن يُفهَم الحكم في المسكوت عنه من المنطوق بسياق الكلام)
    : لماذا؟

    لاشتراكهما في علة الحكم؛ في أن كلا منهما -التأفيف وضرب الوالدين- اشتركا في علة واحدة، وهي أذى الوالدين، هذه العلة تُدرَك بفهم اللغة، ولذلك لا تحتاج إلى بحث ولا إلى نظر واجتهاد، أو تحقيق أركان القياس.

    ولذلك الأصح -كما سيأتي- أن الدلالة هنا دلالة لفظية؛ بمعنى أنها تُستفاد من اللفظ، وليست قياسية كما ذهب إليه البعض، لذلك نص هنا قال:

    (بسياق الكلام):
    يعني يُفهَم موافقة حكم المسكوت عنه للمنطوق -للملفوظ به- بدلالة السياق، ودلالة السياق؛ السباق واللحاق دلالة لفظية فحينئذ إذا فُهمت لغة العرب فُهم مفهوم الموافقة، وكذلك المخالفة.

    (كتحريم الضرب من قوله تعالى:
    {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ}): واضح أن الضرب حرام لاجتماعهما في علة واحدة، وهي الأذى.
    {لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}: يدل على نفي الظلم في مثقال الجبل من باب أولى وأحرى، الذي لا يظلمك في مثقال ذرة ما يظلمك فيما هو أعلى من ذلك.

    (2)
    (قال الجزري وبعض الشافعية: هو قياس، وقال القاضي وبعض الشافعية: بل من مفهوم اللفظ، سَبَقَ إلى الفهم مقارنا. وهو قاطع على القولين):

    اختلف الأصوليون في دلالة النص على مفهوم الموافقة هل هي لفظية أو قياسية؟

    (قال الجزري وبعض الشافعية: هو قياس):
    لكنه قياس جلي؛ يعني قطعي لا يحتاج إلى نزاع؛ ففي آية الوالدين يُقاس الضرب على التأفيف، حينئذ نقول: فقوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ}، لا يدل -من حيث هو بمفهومه- على تحريم الضرب، فيرد السؤال: ما حكم ضرب الوالدين؟

    نبحث، {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ}، التحريم هنا معلق على التأفيف، وعلته الأذية، فإذا وُجدت العلة في الفرع -الذي هو مجهول الحكم- بالأصل -الذي هو الضرب- إذا وُجدت وتحققت العلة ألحقنا الفرع بالأصل، هذا يحتاج إلى نظر وإلى بحث وإلى معرفة الأصل، وما هي العلة؟ وما دليل العلة؟ وهل هي مستنبطة أو مُجمَع عليها؟ إلى آخره؟ فلا بد من توفر أركان القياس، وتحقق الأصل والفرع، وحكم الأصل، والجامع، لا بد من تحقق هذه الأمور كلها حتى يصير قياسا.

    فحينئذ يُقاس الضرب على التأفيف بجامع الأذى في كلٍ.

    ويُقاس إحراق مال اليتيم على أكله بجامع الإتلاف في كلٍ، هذا قول، ويُنسب إلى الشافعي -رحمه الله-.

    (وقال القاضي):
    من الحنابلة.

    (وبعض الشافعية):
    وهو نص عن الإمام أحمد.

    (بل من مفهوم اللفظ):
    فحينئذ دلالة النص على مفهوم الموافقة دلالة لفظية، والمراد أنه مستند إلى اللفظ، وليس المراد أنه دل عليه اللفظ؛ لأنه مفهوم مأخوذ بدلالة الالتزام، أمر خارج، لم يُؤخذ من محل النطق، وإنما أُخذ لا من محل النطق.

    (سبق إلى الفهم مقارنا):
    مقارنا للمنطوق، منذ أن نطق المتكلم باللفظ فُهما معا؛ دلالة النطق ودلالة المفهوم، وليس أحدهما أسبق إلى الآخر؛ لأنه لو ثبت دلالة النطق وجُهل دلالة المفهوم لصار القول الأول، وهو القول بالقياس.

    وإذا كان المرجّح الثاني حينئذ نقول: لا بد أن يكون مقارنا للمنطوق، فلا يحتاج إلى بحث ونظر، بخلاف القياس فإنه يحتاج إلى تحقيق أركانه من النظر والبحث.

    وهذا القول الثاني هو قول جمهور الأصوليين، وينبني على هذا هل يصح النسخ بمفهوم الموافقة أو لا؟

    من قال: إنه قياس منع، ومن قال: إنه دلالة لفظية جوّز، إذًا يصح النسخ بمفهوم الموافقة.

    (وهو قاطع على القولين)
    : يعني سواء قلنا: قياس جلي أو دلالة لفظية.

    (قاطع على القولين): يعني يفيد القطع، ليس دائما، لكن قد يشتركان، قد يفيد القطع بنفي الفارق بين المسكوت عنه والمنطوق، إذا قيل: ما الفرق بين التأفيف وضرب الوالدين؟

    بل الثاني أولى بالحكم من الأول.

    وما الفرق بين أكل أموال اليتامى وبين إحراقها؟

    لا فرق، إذا قُطع بنفي الفارق، حينئذ صارت دلالة اللفظ على مفهوم الموافقة دلالة قطعية لا ظنية.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •