ليكن عندك خبيئة عند الله
الحمد والثناء...
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستقيموا على هُداه، واعلموا أنكم إلى الله سائرون، وإلى لقائه ذاهبون، وبين يديه يوم الحشر الأكبر موقوفون؛ قال عز وجل: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24]، في ذلك اليوم العصيب؛ {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9]، ويقول الإنسان: {أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 10 - 12].
في الصحيحين عن عَدِيِّ بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله يوم القيامة، ليس بينه وبينه تَرْجُمان، فينظر أيمنَ منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشْأَمَ منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه، فلا يرى إلا النار تلقاءَ وجهه، فاتقوا النار، ولو بشِقِّ تمرة، ولو بكلمة طيبة»، نعم - يا عبدَالله - تلتفت يمنةً ويسرةً بين يديك، الكل في ذهول ورعب، الرجال والنساء والأطفال قد اشتعلت رؤوسهم شيبًا، حُفاةً عُراةً غُرْلًا، الرئيس والمرؤوس، الكبير والصغير، الغني والفقير؛ {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].
في ذلك اليوم العصيب - يا عبدَالله - لا ينفعك أخوك ولا أمك ولا أبوك، ولا من في الأرض جميعًا من ذلك الهول ينجيك، فالله المستعان.
عباد الله: أُذكِّر نفسي وإياكم بوصية شريفة عظيمة، شافية كافية نافعة، ستجد فيها الحل والخلاص من هول ذلك اليوم وصعوبته؛ أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه، وهناد في الزهد، والخطيب في تاريخ بغداد، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه قال: "مَنِ استطاع منكم أن يكون له خَبْءٌ من عمل صالح، فَلْيَفْعَل".
والخبء هو العمل الْمُخَبَّأُ الذي لا يراه الناس، ولكنه يفعله مدخرًا له عند الله، "من عمل صالح فليفعل"، والمعنى أن من قدَر منكم على أن يخفيَ عملًا صالحًا يكون بينه وبين الله، فيمحو به ذنوبه، فليفعل ذلك، حتى يكون تأكيدًا لمعنى الإخلاص وطلب الأجر من الله وحده؛ قال بعض السلف: "كانوا يستحبون أن يكون للرجل خبيئةً من عمل صالح، لا تعلم به زوجته ولا غيرها".
وهذا عبدالله بن المبارك يقول: "ما رأيت رجلًا ارتفع مثل مالك بن أنس، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة".
ويقول وهب بن منبه رحمه الله تعالى: "يا بني، أخْلِصْ طاعة الله بسريرة ناصحة، يصدُقِ الله فيها فِعْلَك في العلانية، فإن من فعل خيرًا ثم أسرَّه إلى الله، فقد أصاب موضعه، وأبلغه قراره، وإن من أسرَّ عملًا صالحًا لم يُطْلِع عليه أحد إلا الله، فقد اطَّلع عليه من هو حَسْبُه، واستودعه حفيظًا لا يضيع أجره، فلا تخافنَّ على عمل".
وقال أحمد بن حنبل: "ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئة كانت له".
وقال ابن القيم رحمه الله: "الذنوب الخفيَّات أسباب الانتكاسات، وعبادة الخفاء أصل الثبات".
ألَا فاحرصوا - يا عباد الله - على العمل الصالح الذي تُخفونه عن أنظار خَلْقِ الله، وترفعونه إلى رب المخلوقين، الذي يعلم السر وأخفى، سبحانه وتعالى، والموفَّق من عباد الله منِ ادَّخر له أعمالًا صالحة، يخلص فيها بينه وبين ربه، ويدخرها ليوم فاقته وفقره، ويُخبِّئها بجهده، ويسترها عن خلقه؛ إما صلاة في ظلام الليل، أو صدقة في السر تطفئ غضب الرب، أو تلاوة لكتاب الله، أو مواساة مسكين، أو إغاثة ملهوف، أو صيام لا يعلم به أحد، أو تخصيص راتب شهري لأرملة أو مُطلَّقة أو مريض، أو قيام على يتيم، أو إعانة مريض ماديًّا ومعنويًّا، أو خدمة عجوز محروم أو شيخ عاجز، والله لا يضيع أجر المحسنين.
يا كرامُ، إنه بمثل هذه الأعمال الفذَّة، والنيات الخالصة، والتنافس الصادق؛ استحق أولئك الرجال أن يقول الله عنهم: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119].
قال أحد السلف: "لا يُحسِن عبدٌ فيما بينه وبين ربه، إلا أحسَنَ الله ما بينه وبين العباد، ولا يُفسِد ما بينه وبين الله، إلا أفسد الله ما بينه وبين العباد".
فأعمال السر لا يثبت عليها إلا الصادقون العارفون بالله تعالى؛ فهي زينة الخلوات بين العبد وبين ربه.
يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: "للعبد بين يدي الله موقفان؛ موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول، هوَّن عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفِّه حقه، شدَّد عليه ذلك الموقف".
ألَا فاتقوا الله يا عباد الله، وخافوا من الموقف العظيم واليوم العصيب، واعزموا على القيام بعمل صالح تُخفونه عن أعْيُنِ الخلق، فتجدونه غدًا عند رب كريم رحيم ودود؛ {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 6]، {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65].
فيا عباد الله: لقد أمرنا الله جل وعلا بالعمل الصالح، وجعله سببًا موصلًا إلى رضاه جل في علاه؛ فقال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
فالعمل الصالح هو الموافق لشرع الله، من واجب ومستحبٍّ، الخالص لوجهه تعالى من الرياء، ومَن جَمَعَ بين الإخلاص والمتابعة، نال ما يرجو ويطلب، ومن فاته ذلك، خسِر دنياه وأُخراه، وفاته القرب من مولاه، ونَيلُ رضاه.
ولذلك - يا عباد الله - حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الرياء، وسماه شركًا أصغرَ، وهو يقع من الإنسان في هيئة العمل أو أقوال اللسان؛ فعن محمود بن لبيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أخْوفَ ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، -قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جُزِيَ الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً»؛ (رواه أحمد إسناده جيد، رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني).
وهذا النوع من الشرك؛ قال عنه ابن القيم رحمه الله: "إنه البحر الذي لا ساحل له، وقلَّ من ينجو منه، فمن أراد بعمله غَيرَ وجهِ الله، ونوى شيئًا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته".
عباد الله: وأعظم وسيلة للتخلص من هذا الداء الخفي؛ داءِ الرياء، وهي - في الوقت نفسه - سبيل لإدراك المنزلة العالية في العمل الصالح - إخفاءُ العمل الصالح الذي يمكن إخفاؤه، وهذه الصفة العظيمة سبب في محبة الله تعالى؛ ففي صحيح مسلم أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يحب العبدَ التقيَّ، الغني، الخفيَّ».
والمراد بالغني غنيُّ النفس، والعبد الخفي: هو الذي عرف ربه، فعرفه الله جل في علاه، وحرَص أن يكون بينه وبين الله أسرار، فاغتنموا أعماركم، واعمُروا أوقاتكم بما ينفعكم؛ فإنكم في دار العمل، وغدًا توفَّون أجوركم عند ربكم، فإن الله شكور غفور، والله المستعان.
اللهم ارزقنا خشيتك ومحبتك والقرب منك، والبصيرة في دينك، والمداومة على طاعتك، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، سبحانك اللهم.
منقول