بسم الله وبعد:
فهذا مبحث مهم في تلخيص الأقوال في حال شريك بن عبد الله النخعي، وترجع أهميته إلى شخصيته فإنه من المكثرين الذين تدور عليهم أحاديث رسول الإسلام، وله الآلاف المؤلفة من الأحاديث التي يتوقف أمرها على البحث في راويها شريكٍ هذا،
وقد كنت أبحث عن حقيقته منذ أمد، وذلك لكثرة اختلاف النقاد فيه وتصحيح أكثرهم لأحاديثه، حتى تلك التي يتفرد بها .
وقد لخصت الحكم فيه بمناسبة البحث عن حديث طالما حيرني أمره وهو ما خرجه ابن خزيمة في صحيحه (626) وابن حبان في صحيحه ذكر ما يستحب للمصلي وضع الركبتين على الأرض عند السجود قبل الكفين (1912) وغيرهما من طرق عن يزيد بن هارون قال: أخبرنا [شريك] عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل بن حجر قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه "، وكذلك حسنه الترمذي، وصححه الحاكم والذهبي وابن خزيمة وابن حبان ، وقال البغوي: هذا حديث حسن، وقال يزيد بن هارون: لم يرو شريك عن عاصم بن كليب إلا هذا الحديث "،
وقد اختلف فيه النقاد بين موثق ومضعف وبين موثق له في أول أمره، ثم مضعف له بسبب اختلاطه:
فصحح له جماعة ، ووثقه العجلي وابن سعد وعبد الرحمان بن مهدي والنسائي وأبو داود وابن حبان والحربي والذهلي وأحمد ... وابن معين ورد على يحيى القطان تضعيفه له، بل وقدمه صالح بن أحمد وابن معين على زهير وجرير وإسرائيل وأبي الأحوص وغيرهم من الثقات ، ولم يصح أنه كان من المدلسين .
بينما تكلم فيه ابن القطان وغيره مطلقا ، وأعدل الأقوال فيه ما :
قال صالح جزرة والعجلي وغيرهما :" صدوق ولما ولي القضاء اضطرب حفظه "، وعليه فسيكون الكلام عن حديثه وضبطه في ثلاثة أوجه :
الوجه الأول: أن يكون ثقة وحديثه صحيحا لذاته :
فقد حسن له الترمذي والبخاري، وصحح له الحاكم والذهبي وابن خزيمة وابن حبان والبغوي، ووثقه جماعة أخرى ..
وبالتالي يكون حديثه صحيحا إذا توفر فيه أحد الشروط :
أولا: - إذا حدّث من كتابه وأصوله كما قال ابن رجب في شرح العلل قال يعقوب بن شيبة :" كتبه صحاح وحفظه فيه اضطراب"، وقال محمد بن عمار الموصلي:" كتبه صحاح فمن سمع منه من كتبه فهو صحيح، ولم يسمع منه إلا إسحاق الأزرق ".
وقال سفيان بن عبد الملك سألت ابن المبارك عن حديث زيد بن ثابت أنه قال في البيع بالبراءة يبرأ من كل عيب ؟ فقال: جاء به شريك على غير ما في كتابه ولم نجد له أصلا "، وإلا فقد قال ابن المبارك:" شريك أعلم بحديث الكوفيين من الثوري ".
ثانيا - إذا عُلم أن أحدا روى عنه قبل توليته القضاء والاختلاط: وهم أصناف :
الصنف الأول: المتقدمون من أصحابه : وهم أقرانه ومن هو قريب منه في السن ، وأما الصغار عنه فالغالب أنهم رووا عنه بعد كبره وتغيره، ويُرجع في ذلك لمعرفة التاريخ، وقد مر أنه وُلد سنة خمس وتسعين، ومات سنة سبع أو ثمان وسبعين ومائة ، (عاش 83) وَوَلي القضاء بواسط سنة (155) ومن المعلوم أنه لم يختلط عليه حفظه بعد توليه القضاء مباشرة، بل يكون بعد ذلك بأمد يُشغله عن مراجعة حديثه .
وعليه : فمن قاربه من أقرانه أو من هو دونه بشيء يسير فتُقبل روايته ، ويُعرف ذلك أيضا بالرجوع إلى تاريخ الراوي عنه .
وفي هذا نقل ابن رجب في شرح العلل رواية الأثرم عن الإمام أحمد وذكر فيه سماع أبي نعيم من شريك؟ فقال: سماع قديم وجعل يصححه"، وقال أحمد في رواية ابنه عبد الله:" قال لي حجاج بن محمد: كتبت عن شريك نحوا من خمسين حديثا عن سالم قبل القضاء ".
الصنف الثاني: رواية أهل واسط عنه وغيرهم من متقدمي أهل الكوفة: فإن روايتهم عنه صحيحة، فإنه عاش في الكوفة أولا وحدّث بها، ثم انتقل إلى واسط ثم وَلِي بها، ثم بدأ يتغير ورجع إلى الكوفة واليا أين ظهر تغيره، فمن سمع منه في مقدمه الثاني فهو ضعيف، وهم الأصاغر، ومن سمع منه أوّلا وفي واسط فهو صحيح أو حسن، كما قال ابن حبان،
فقد قال :" كان في آخر أمره يخطئ، تغير عليه حفظه ، فسماع المتقدمين عنه الذين سمعوا منه بواسط ليس فيه تخليط مثل يزيد بن هارون، وسماع المتأخرين منه بالكوفة فيه أوهام كثيرة".
وعليه فالرواة عنه طبقات لا بد من معرفتهم :
فمن الطبقة الأولى: والله أعلم: إسحاق الأزرق وهو أرواهم وألزمهم له، وهكذا وكيع وأبو نعيم وعيسى بن يونس وابن مهدي وسفيان الثوري وعلي بن قادم وعباد ويزيد بن هارون وسعيد بن سليمان الواسطي ..
ومن الثانية : سعيد بن منصور وعبد الله بن عمرو بن حسان والحسين بن محمد المروذي وعلي بن جحر وحجاج ومحمد بنُ الأصبهانِيِّ...
ومن الثالثة: ما حسّن البخاري له حديثا من رواية قتيبة عنه كما في سنن الترمذي (1366)، وقال البخاري والترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث أبي إسحاق إلا من هذا الوجه من حديث شريك "، عنه قتيبة ، ويُلحق به إسماعيل بن موسى ومحمد بن عمر الرومي وطلق بن غنام ...
فإذا حدث اختلاف بين أصحاب الطبقات قدّمنا الأولى منهما :
وفي هذا نقل ابن أبي حاتم 156- وسُئِل أبُو زُرعة عَن حدِيث رواه أبُو نُعيم عن شرِيك عن إِبراهِيم بنِ جرِير عن قيسِ بنِ أبِي حازِم عن جرِيرٍ:" رأيتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يمسحُ على خُفّيهِ ".
قال : ورواهُ ابنُ الأصبهانِيّ عن شرِيك عن إِبراهِيم بنِ جرِير عن أبِيهِ : أنَّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم توضّأ ومسح على خُفّيهِ ".
فقال أبُو زُرعة : الحدِيثُ حدِيثُ أبِي نُعيمٍ ..".
وإن كانا من نفس الطبقة فالحديث محفوظ من الطريقين :
قال ابن أبي حاتم : وسئل أبو زرعة عن حديث اختلف الرواة عن شريك.
فروى أبو نعيم عن شريك عن سماك عن موسى بن طلحة عن أبيه.
ورواه إسحاق بن يوسف الأزرق عن شريك عن عثمان بن موهب عن موسى بن طلحة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" يستر المصلي مثل مؤخرة الرحل "، فقال أبو زرعة : حديث سماك أشبه من حديث عثمان ، إلا أن يكون روى عنهما جميعا ".
الصنف الثالث : قومٌ ُصرحوا بأنهم تركوا التحديث عنه بعد أن اختلط: وممن فعل ذلك سفيان الثوري، فإنه لما ولي القضاء قال عنه: مسكين ذبحوه .. وترك الرواية عنه .
الصنف الرابع : قوم مشايخ من أهل بلده : كما قال ابن المبارك :" شريك أعلم بحديث بلده من الثوري، فذكر هذا لابن معين ، فقال : ليس يقاس بسفيان أحد ، لكن شريك روى منه في بعض المشايخ "،

وقال الدارمي عن يحيى :" شريك أحب إلي في أبي إسحاق من إسرائيل وهو أقدم"، وكذلك قال أحمد :" إنه أضبط عنه وأقدم سماعاً ".

وقال عثمان بن سعيد قلت ليحيى بن معين :" جرير أحب إليك في منصور أم شريك ؟ قال : جرير أعلم به ، قلت : فشريك أحب إليك في منصور أو أبو الأحوص ؟ قال : شريك أعلم به "، ويُلحق بذلك :

الصنف الخامس: قوم قدموا على بلده : فعن شريك قال :" قدم علينا سالم الأفطس فأتيته ومعي قرطاس فيه مائة حديث ، فسألته عنها ؟ فحدثني بها وسفيان يسمع ، فلما فرغ قال لي سفيان : أرني قرطاسك، قال : فأعطيته إياه فخرقه، فرجعت إلى منزلي فاستلقيت على قفاي فحفظت منها سبعة وتسعين حديثاً ، وذهبت عني ثلاثة، قال: وحفظها سفيان كلها ".
فقد صرح بأنه يحفظ - صدرًا - أحاديث شيخه سالم .

- ويُستثنى من ذلك الأعمش فإنه يخطئ عليه كما قال أبو داود والله أعلم ، وليس ذاك بمطرد، لأن ابن عدي قد تتبع كل ذلك وما لم يذكره فهو محتمل التحسين والعبرة بالقرائن .

الصنف السادس: وأما غير أهل بلده فيُرجع إلى القرائن السابقة واللاحقة والله اعلم .

الوجه الثاني: أن يكون حديثا ضعيفا : وذلك إذا :

1 - عُلم أن الراوي عنه أخذ بعد الاختلاط والقضاء : فقد ولي القضاء بواسط سنة (155) ثم وُلِّي بالكوفة في مقدمه الثاني.
وممن روى عنه بعد الاختلاطِ: المتأخرون ومن رآه بعد مقدمه الثاني، كيحيى القطان فإنه قال:" أتيته بالكوفة ، فأملى علي ، فإذا هو لا يدري ".
وربما منهم أبو أحمد ومنجاب بن الحارث :
روى منجاب نا شريك عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم احتجم وهو صائم محرم ".
بينما رواه أبو أحمد قال: حدثنا شريك عن خصيف عن مقسم عن ابن عباس قال: «احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم محرم».
قال أبو حاتم في علله :" فحدّث شرِيكٌ هذا الحدِيث مِن حِفظِهِ بِآخِرةٍ ، وقد كان ساء حِفظُهُ فغلِط فِيهِ ".
وقد خرجه البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، واحتجم وهو صائم "، ففرق بينهما كل في يوم .
2 - إذا عُلم أن الحديث فيه شذوذ ومخالفة أو أنكره عليه الحفاظ كابن عدي وغيره فإنه قد تتبع ذلك .
الوجه الثالث : أن يكون حديثه حسنا ما لم يخالف : وذلك إذا:
1 - حدّث في غير بلده والله أعلم : وفي هذا يقول ابن أبي حاتم: قلت لأبي زرعة: شريك يحتج بحديثه؟ قال: كان كثير الخطأ، صاحب حديث، وهو يغلط أحيانا، فقال له فضلك الصائغ: أنه حدث بواسط بأحاديث بواطيل، فقال أبو زرعة: لا تقل بواطيل، وقال عبد الرحمن: وسألت أبي عن شريك وأبي الاحوص أيهما أحب إليك؟ قال: شريك وقد كان له أغاليط ".
2 - إذا لم يتميز الرواة عنه أقبل الاختلاط أم بعده : وخلاصة القول فيه ههنا، ما قال ابن عدي بعد أن ذكر ما أنكر عنه :" وفي بعض ما لم أتكلم على حديثه مما أمليت بعض الإنكار والغالب على حديثه الصحة والاستواء والذي يقع في حديثه من النكرة إنما أتي فيه من سوء حفظه لا أنه يتعمد في الحديث شيئا مما يستحق أن ينسب فيه إلى شيء من الضعف ".
والحديث المذكور قد رواه شريك عن أهل بلده ، كما روى عنه ههنا يزيد قبل الاختلاط فالحديث بذلك صحيح لذاته كما قال ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي والبغوي ....
ومع ذلك فله شواهد عديدة ذكرتها في البحث المذكور وبالله التوفيق .

كتبه أبو عيسى زياني