مع أنه قد وقع اختلافٌ في تعريف البدعة المذمومة شرعًا: «كل بدعة ضلالة»، والتي جاء التبرؤ من صاحبها: «من رغب عن سنتي فليس مني»؛ إلا أنه اختلافٌ - إذا أراد صاحبُ التعريف هذه البدعةَ المستشنعةَ في الشرع - لا يتجاوز الاختلافَ في الألفاظ لا في المعاني، ولا يتعدَّى الاختلافَ في التعبير عن تعريفها، دون الاختلاف في حقيقتها.

وخلاصة القول في التعبير عن هذه الحقيقة المتفق عليها، هو أن هذه البدعة لا تخرج عن أن تكون: كل أمرٍ يُنسب إلى الشرع، يُقطَعُ بعدم صحةِ نِسْبَـتِـهِ إليه.



وعلى هذا التعريف يتبين أن تبديع المقالات: لا بد فيه من أمرين:

(1) أن تكون تلك المقالة مما للشرع فيها مقال، أو أن لا تكون كذلك، فتكون من المسكوت عنه (كقضايا العلوم الكونية التي لم يتعرض لها الشرع نفيًا أو إثباتًا)، لكنها تُنسب من بعضهم إلى الشرع.

(2) أن يكون مقطوعا بعدم صحة نسبتها إلى الشرع.

- فما لم يكن من شرعنا (أي: لم يتعرض له الشرع نفيًا أو إثباتًا)، ولا نُسب من قائله إلى الشرع = لا يكون بدعةً شرعية أبدًا؛ حنى لو كان باطلاً في نفسه.

- وما ظننا عدم صحة نسبته إلى الشرع (ولم نقطع بذلك) = لا يكون بدعة، كعامة اختلاف الفقهاء؛ إلا النادر، من معدود زلاتهم المقطوع ببطلانها.

هذا هو معيار (البدعة) المذمومة المستنكرة في الشرع، وهو معيار لا يتغير باختلاف الأزمان، ولا يتبدل مهما تباينت الأحوال.

وإن كنت أعتذر عن عدم بسط الاستدلال لهذا التعريف والضابط؛ استغناء بإشارات دقيقة وردت في كلامي السابقة، واكتفاء بالتأصيل العلمي الذي أرجوه لدى القارئ الذي أُوجّهُ له مثل هذا المقال! ولأن منازعة بعضهم في هذا التعريف أو في غيره، ممن كُتب المقال في تصحيح تصوراتهم عن البدعة والمبتدع، هو وحده مما سيفتح عليهم (لو تنبهوا) جبهة جديدة من الاعتراضات عليهم، وعلى ممارساتهم في التبديع التي جاء هذا المقال ليناقشها!



وهنا يحق لنا أن نسأل:

هذا الثبات في ضابط (البدعة)، وهو الثبات المبني على وضوح الضابط ودقته وقوة مأخذه ودليله من أدلة الشرع، هل هو متوفِّرٌ في وصف (المبتدع) أيضًا؟ أو قريبٌ منه؟

والحقيقة أن الجواب عن ذلك هو موضوع بقية المقال:

وقبل الكلام عن ضابط تبديع الأشخاص ووصفهم بوصف (المبتدع) يجب أن نستحضر:




أولاً: أنه لا يُوصف كل من وقع في بدعة بأنه (مبتدع)، ولم يقل بهذا أحدٌ يُعتدُّ به؛ مع أنه يصح لغةً أن يُقال عن كل من وقع في أي بدعة بأنه مبتدع! لكن العلماء ألْغَوْا هذه الدلالة اللغوية؛ لأن التزامها (وإن كان صحيحا لغةً، ومنضبطًا في الاطراد)؛ إلا أن نتيجته هي أنه لن ينجو من وصف (المبتدع) أحدٌ، ولا الـمُبدِّعُ نفسُه؛ فلا يكاد يخلو عالمٌ من زلةٍ مقطوعٍ بعدم صحة نسبتها إلى الشرع.

وهذا الخروج المحمودُ والواجبُ عن الاستعمالِ اللغويِّ المطّردِ لإطلاق وصف (المبتدع)، وهو خروجٌ إجماعي متفقٌ عليه (كما سبق) = هو أول سببٍ جعل هذا الوصف اجتهاديًّا؛ لأنه خرج عن ضابط اللغة المنضبط، إلى ضابط عرفي آخر.



ثانيًا: أنه لا يوجد في الشرع نص واحد ينص على: (المبتدع)، من هو؟ فلا توجد آية أو سنة تذكر (المبتدع) بهذا الاسم الخاص وبمعناه الخاص الوارد في كُتب العقائد، ولا وَرَدَ في الكتاب والسنة ذكرٌ لصفات (المبتدع) التي تُبيّنُ شرائط تسمية الأشخاص المعيّنين به.

فالقرآن الكريم لم يذكر (المبتدع) أصلاً بهذا الوصف، وأما السنة فورد في بعض الروايات ذِكْرُها (صاحب البدعة) أي (المبتدع). ومن ذلك هذه الروايات، والتي هي أحسن ما في الباب (وليس فيها حسن، كما يأتي):

- حديث: «أَبَى الله أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ صَاحِبِ بِدْعَةٍ، حتى يَدَعَ بِدْعَتَهُ».

- وحديث: «حلت شفاعتي لأمتي، إلا صاحب بدعة».

- وحديث: «إن الله احتجر [وفي رواية: احتجز، وفي رواية: احتجب] التوبةَ عن كل صاحب البدعة».

- وحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة (رضي الله عنها): يا عائشة، {إنَّ الّذِينَ فَـرَّقُوا دِينَهُم وَكانُوا شِيَعًا}، هم أصحاب الأهواء والبدع. يا عائشة. إن لكل صاحب ذنب توبة؛ إلا أصحاب البدع، ليست لهم توبة؛ فهم مني براء، وأنا منهم برئ».

- وحديث: «من وقّر صاحب بدعة، فقد أعان على هدم الإسلام».

= وكلها أحاديث ضعيفة مناكير، وإن خُولف في بعضها بالتصحيح!

ومع ذلك فلو كانت كلها صحيحة (كما ذهب بعض العلماء خطًأ منهم إلى تصحيح بعضها) فليس منها حديثٌ واحدٌ يذكر شروط وصف الراوي بالابتداع، فلا دليل فيها على ضابط الوصف.

حتى حديث عائشة (رضي الله عنها) السابق: «{ إنَّ الّذِينَ فَـرَّقُوا دِينَهُم وَكانُوا شِيَعًا}، هم أصحاب الأهواء والبدع» لا يذكر هذا الحديثُ ضابطًا للتبديع أصلاً، ولذلك فلا يستعمله أحد في التبديع قط؛ إلا بعد أن يكون قد بدّع وانتهى من التبديع قبل استعماله! أي لن يمكنه التبديع به إلا بعد أن يكون قد حدّدَ المبتدعَ من السني، والجماعةَ من المفارق لها، ثم – بعد ذلك - وَصَفَ المبتدعَ بأنه مفارقٌ للجماعة.

مما يعني أن تبديع الأشخاص أمرٌ اجتهادي بامتياز! إذْ أيُّ أمرٍ أولى بالاجتهاد من أمرٍ لا يأتي له في الشرع ذِكرٌ البتة!!



ثالثًا: وحتى يزداد يقيننا في كون وصف (المبتدع) أمرا اجتهاديًا بامتياز، لم يقتصر دليل اجتهاديته على كون الشرع لم يذكر ضابطه في شيء من نصوص الوحي، بل علينا أن نَتذكَّـرَ هذه الحقيقة أيضًا: وهو أن وَصْفَ الابتداع وصفٌ خارجٌ عن الأوصاف الشرعية الأربعة (التي وردت في الشرع)، والتي عليها مدار الأحكام في الدنيا.. وفي الآخرة، وهي:

(1) المؤمن: (وهو العدل: من غلبت حسناته سيئاته).

(2) المسلم الفاسق: (وهو من غلبت سيئاته حسناته).

(3) المنافق: من أظهر الإسلام وأبطن الكفر.

(4) الكافر: من أظهر الكفر علانية.

و(المبتدع) قد يكون مؤمنًا (إذا كان متأولا)، وقد يكون فاسقًا (إذا كان معاندًا، أو فاسقًا بمعصية غير البدعة مما يُفسق به المسلم: مبتدعًا كان أو غير مبتدع)، وقد يكون منافقًا، وقد يكون كافرًا (كالمرتد: إذا ارتد كما قد يرتد السني، وإذا كانت بدعته لا تقبل إعذارًا بجهل أو تأول وتوجب التكفير: كالنصيري واليزيدي المعتقد بالعقائد الشركية الناقضة لصريح دلالة الشهادتين)، كما بينت ذلك في كتابي (التعامل مع المبتدع: بين ردّ بدعته، ومراعاة حقوق إسلامه).

فإذا خرج المبتدع (حتى إن اتفقنا على استحقاق المعيّنِ الوصفَ به) عن أن يكون معدودًا بمجرد وصفه هذا في (المؤمنين)، وفي المسلمين (الفساق)، وفي (المنافقين)، وفي (الكافرين)، ولم يكن قسمًا خامسًا منهم (منزلة بين المنزلتين!!)، بل إنه قد يكون أي واحد من هؤلاء (كما سبق) = فهذا يعني أن هذا الوصف ليس حكمًا مؤثرًا بذاته في الأحكام (أحكام الدنيا وأحكام الآخرة)، وإلا لما خرج عن هذه الأوصاف الشرعية جميعها.

وأما تسمية بعض العلماء للمبتدعة بـ(فساق التأويل)، فهو نفسه كوصف (المبتدع) نفسه، لا يختلف عنه. فهو وصفٌ يُـخرج المبتدع بتأويله عن أن يكون بمطلق بدعته فاسقًا؛ ولذلك قيدوه بقولهم (فساق التأويل)، ولم يُطلقوا القول بتفسيقه. وأما من ركب المجرّة وأطلق القول بـ(التفسيق) على المبتدعة، دون مراعاة التأوّل وعدمه، فقد أخطأ، عالمـًا كان أو جاهلاً، وخالف الشرع (نقلَه وعقلَه)، وخالف أيضًا جمهور أهل العلم (بل هو عندي خلاف لإجماعهم: رغم دعاوى الخلاف المحكية بغير تحرير)؛ فليس لمن أطلق القول بتفسيق المبتدعة المتأولين حظٌّ من اجتهادٍ أو من تقليدٍ معتبرٍ!!



رابعًا: ومما يدل أيضًا على مقدار اجتهادية هذا الوصف (المبتدع) سوى البرهانين السابقين: اختلاف العلماء في ضابطه الاختلاف الكبير، وتباين آرائهم فيه التباين الواضح، والذي يصل في بعض مقالاته حدَّ الاضطراب والتهاتر، أو الضعف والتهافت!! فهو اختلافٌ كبير (لا أي اختلاف)، يدل على خفاء ودقة، أو على جواز تعدُّدِ معياره وعلى صحةِ اختلاف ضابطه! و(الخفاءُ والدقة) و(جوازُ تَعدُّدِ المعيار) كلاهما سببان كافيان لاعتبار الأمر اجتهاديًّا بامتياز.

وباعتبار السلفية المعاصرة هم من أكثر المهتمين بشأن البدعة والمبتدعة، حيث نَصّبوا أنفسهم حراسًا للسنة، ووضعوا على أنفسهم سياجًا يحصرون أهل السنة فيه (وإن كان داخل هذا السياج أسوجةٌ أخرى، يُخرجُ بها بعضُهم بعضَهم من السنة): فإن آخر ما تمخّضَ عنه الاجتهادُ الحديثُ لهم في بيان من يستحق التبديع، بعد تقريرهم أن وقوع مطلق البدعة من شخص لا يوجب وحده تبديعه (وهذا مما يوافقهم عليه غيرهم) = هو أن وصف (المبتدع) لا يستحقه إلا من وُجد فيه أحد أمرين:

(1) من خالف في مصادر التلقي الشرعية التي أجمع السلف عليها زيادة أو نقصًا، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

(2) من خالف في المنهجية الإجماعية للتعامل مع هذه المصادر: كمن قدّم القياس على النص، والعقل على النقل.

ولهم في ذلك اختلافات، فمنهم: من يضيف إلى هذين الأمرين أمرًا ثالثًا، أو رابعًا أيضًا، أو يجعلهما أو أحدهما هو الضابط الصحيح وحده، أو وحدهما:

(3) من ارتكب بدعة مشهورة في الابتداع، لها صفةٌ رمزيةٌ في الدلالة على التمحض في البدعة، كما يقولون! ويضربون على ذلك مثلا بقولهم: كـ(بدعة المولد) عند الصوفية، وكـ(بدعة القول بخلق القرآن) عند أهل الكلام.

وقد يُشْبِهُ (عند بعضهم) هذا الضابطُ الضابطَ الآتي، وقد يختلف عنه (عند آخرين):

(4) من اتبع بدعة مشتهرة عند أهل العلم بالسنة بمخالفتها للكتاب والسنة: كبدعة الخروج، والروافض، والقدرية، والمرجئة.

وهذا الضابط الأخير هو في الحقيقة من أضعف الضوابط؛ لأنه ليس ضابطًا أصلاً! حيث إنه لا يُبيّنُ الضابطَ الذي بنى عليه السلفُ وصفَهم للشخص بكونه مبتدعًا، ولذلك فإنه لن يُمْكِـنَـنا تطبيقُه على ما يستجدّ من البدع وما يُستحدَث من الأهواء في العصور التي جاءت بعد السلف الصالح؛ ولأنه ضابطٌ يلزم منه الدَّور؛ فإننا إن قلنا: ما الذي جعل السلف يخصون مرتكب هذه البدع خاصة دون غيرها بوصف (المبتدع)؟ سيكون الجواب بهذا الضابط: لأن السلف خصوا مرتكب هذه البدع دون غيرها بوصف (المبتدع)! فضلا عن المنازعة القديمة في بعض تلك المقالات، كإرجاء الفقهاء (كما يسمونه): هو يُعدّ من البدع؟ أم يُعد مذهبا من مذاهب السلف في بيان حقيقة الإيمان؟

ولست الآن في مجال نقاش هذه التقريرات؛ إلا بقدر إثبات كونها مجردَ اجتهاداتٍ ظنيةً، يجب أن نلحظ مأخذَ الاجتهاد فيها، لكي يكون اختيارنا منها مبنيا على فقهٍ صحيحٍ للمسألةِ موضوعِ الاجتهادِ. وإلا فأين هو النص الذي يذكر هذه الأمور الأربعة أو أحدها (مما سبق آنفًا)؟! أين هو النص الذي يقول لهم (بوجه من جوه الدلالة الصحيحة: الظاهرة أو الخفية): هذا هو الذي يستحق وصف (المبتدع) دون غيره من مطلقِ مرتكب البدعة؟! إذ لا يخفى أنه لا وجود البتةَ لنصٍّ في القرآن أو في صحيح السنة أو في المختلف في تصحيحه منها أو في آثار السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم = ما يذكر أحد هذه الضوابط أو غيرها!

كل هذا مما يقطع بكون هذا الوصف (المبتدع) ليس مصطلحًا شرعيًا - واردًا في الشرع – (بخلاف البدعة؛ فالبدعة لفظ له دلالة شرعية)، ولا يتضمن وصفُ (المبتدع) بذاته حكما شرعيًا مطلقًا بإيمانٍ أو فسقٍ أو نفاقٍ أو كفرٍ (كما سبق)، ولا مصطلحًا علميًا متَّفقًا على دلالته وعلى المستحِقّ لوصفه (كما بيناه آنفًا).



وكل هذا كان يجب أن:

(1) يُخفف (في أقل تقدير) من كثرة استعماله، بضوابط (نحن وضعناها، لا الشرع) وبغير ضوابط (مع كثرة الاختلاف وضبابية الرؤية)، كما نشاهده اليوم، وكما في ركام الصراع الطائفي الموجود في كثير من تاريخنا العقائدي؛ لأن أمرًا بهذا القدر من الإغراق في الظنية والاجتهاد ومن الخفاء الداعي لشدة الاختلاف فيه، لا يستحق كل تلك الحفاوة والاستهتار باستعماله.

(2) نسأل أنفسنا: ما سبب تصحيح هذا الضابط أو ذاك؟ ما دام هذا اللفظ (المبتدع) لم يضع الشرع له الضوابط التي ندّعيها أصلاً!!

والجواب سيكون في مثل هذه الحالة التي لا ترجع إلى نص الشرع سيكون جوابًا واحدًا؛ إن أردناه جوابًا صحيحًا: وهو أن ضابط وصف (المبتدع) هو المصلحة! والمصلحة وحدها، دونما سواها!!

وبغير هذا الجواب سيكون أي جواب غيره كذبًا على الشرع: بنسبة ما لم يأت فيه إليه، أو تَـحَـيُّـرًا وتخبُّطا في الجواب: يدل على جهلٍ وهوًى مُسْتَـحْكِمَين ِ!



فإن سألتَ لكي تفهم معنى هذا التقرير:

ما هي هذه المصلحة التي جاء وصف (المبتدع) لتحصيها؟

فسأقول: لا شك أن مصلحة هذا الإطلاق تحوم حول أمرين اثنين:

الأول: حماية الناس من الاغترار بذلك المذهب الباطل، من خلال التنفير من دعاته ومعتقديه، بوصفهم بوصف الابتداع (مبتدعة، أو أصحاب بدع، أو أهل الأهواء).

الثاني: عقوبة لصاحب البدعة من خلال التشهير باعتناقه لتلك المقالة الباطلة من خلال هذا الانتقاص لقدره بهذا الوصف؛ إذْ لعل هذه العقوبة تعيده إلى رُشده، وتدعوه إلى مراجعة رأيه وتغيير مقالته.

فإن قلنا بعد هذا التقرير: إن وصف (المبتدع) وصفٌ مصلحيٌّ، أي: إنما يُطلَـقُ لتحصيل مصلحة، ولا يُطلق إلا عندما يكون سببًا لتحصيل منفعة = فيجب أن نعلم بأن المصلحة من طبيعتها أن تختلف وسائل تحصيلها باختلاف الأحوال، مما يجعل هذا الوصف وصفًا تختلف صحةُ استعماله باختلاف الأحوال والأزمان، ولا يكون له معيار ثابت في كل عصر وظرف؛ فقد يصح ضابطٌ له في حال وزمان، ولا يصح في حالٍ وزمانٍ مختلفين.

وبالنظر إلى المصلحتين السابقتين: فلا شك أنهما قد تتحققان في زمننا بالضابطين السابقين اللذين تمخّضَ عنهما تقريرُ السلفية المعاصرة لمن يستحق وصف (المبتدع) وهما: مخالفته في مصادر التلقي، وفي المنهجية الإجماعية للتعامل مع هذه المصادر، وقد لا تتحقّق المصلحة بهما في زمنٍ آخر أو في ظرفٍ آخر وبلدٍ آخر.

وإلى ذلك قد تشير عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية عندما قال عن الأشعرية: «وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام عامة الطوائف؛ فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهم يُعدُّون من أهل السنة والجماعة، عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم». [بيان تلبيس الجهمية: 3/538].

وقدمت كلامَ شيخ الإسلام بأنه (قد يشير...)، مع قوة دلالته على ذلك؛ لأنه لا يُـحتج بكلامه ولا بكلام غيره من أهل العلم، وإنما يُستوضَحُ بكلام أهل العلم ما يَـخفى علينا من العلم، أو يُستأنس به، ثم تُكشف به حُجبُ التعصب أيضًا!



وكنت في سبيل تقريب هذا التقرير إلى عقول السامعين أقول لهم:

- أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ، كما يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حتى لَا يُدْرَى ما صِيَامٌ ولا صَلَاةٌ ولا نُسُكٌ ولا صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى على كِتَابِ الله عز وجل في لَيْلَةٍ، فلا يَبْقَى في الأرض منه آيَةٌ. وَتَبْقَى طَوَائِفُ من الناس: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَالْعَجُوزُ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا على هذه الْكَلِمَةِ: (لَا إِلَهَ إلا الله)، فَنَحْنُ نَقُولُهَا». وفي بقية الحديث: أن حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) - وهو راوي الحديث - أخبر أن هؤلاء ينجون من النار بتلك الشهادة، رغم جهلهم المطبق بمباني الدين العظام وبأحكامه جملةً وتفصيلا. مما يعني أن هؤلاء ما زالوا مسلمين، رغم هذا الجهل المطبق، والبعد الكبير عن العلم بأركان الدين وأحكامه!

- فلو افترضنا أنه وُجد في ذلك الزمان شيعة إمامية (روافض)، وهم يشهدون الشهادتين، ويصلون ويزكون ويصومون ويحجون، ويعلمون من أحكام الدين: ما وافقوا فيه أهل السنة من الأحكام، وما خالفوهم فيه.

= فأي الطائفتين ستكون أولى بوصف (أهل السنة)؟ وأيهما الأولى بوصف (المبتدعة)؟

ولا شك أن هذا المثال لم يكن ضربه لاحتمال وقوعه، ولكنه ضُرب لنفهم من خلال تصوُّرِه معنى أن المعيار المصلحي لوصف (المبتدع) معيار يجب أن يختلف باختلاف الأحوال.. فقط.

فإن كان معيار وصف الأشخاص والجماعات بالابتداع وصف مصلحي (كعقوبة المبتدع سواء)، وهو لذلك يختلف باختلاف الأحوال المؤثرة في تقدير المصلحة والمفسدة = أفلا يجب علينا أن نراعي اختلاف حال المسلمين اليوم عما كانوا عليه في زمن السلف الصالح: من جهة ظهور العلم بالدين وقلة الجهل في زمنهم، وقوة السنة وأهلها، وقيام الحجة على عامة الناس بوجود فقهاء الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المتبوعين، وقوة المسلمين وانتصارهم وضعف عدوهم وانهزامه.. وغير ذلك من الفروق الشاسعة بين زمننا وزمن سلفنا الصالح؟ أفلا يجب أن تكون هذه الفروق سببًا لتغير وسائل تحقيق مصلحة الدين، ومن بينها وصفُ الأشخاص والجماعات بالابتداع؟

هو سؤال أطرحه، لكي يتأمله كل من كانت غيرته على الدين والأُمة الإسلامية غيرةً حقيقية، وليست غيرته تعصبًا لجماعة وطائفة على حساب الدين والأمة!