قال الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر: 18] .
قال ابن القيم
في اغاثة اللهفان ج1 ص84:
لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصالحات التى تنجيه، أم من السيئات التى توبقه؟
قال قتادة: "ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد".
والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها.
وفى محاسبة النفس عدة مصالح منها: الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مقتها فى ذات الله .
وقد روى الإمام أحمد عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس فى جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا".
وقال أيوب السختياني: "إذا ذكر الصالحون كنتُ عنهم بمعزل".
قال أبو حفص: "من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها فى جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها فى سائر أوقاته، كان مغرورا، ومن نظر إليها باستحسان شىء منها فقد أهلكها".
فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء؛ فهى تجري بطبعها فى ميدان المخالفة.
فالنعمة التى لا خطر لها: الخروج منها، والتخلص من رقها، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله ، وأعرف الناس بها أشدهم إزراء عليها، ومقتا لها.
;عن الصلت بن دينار: حدثنا عقبة بن صهبان الهنائى قال: "سألت عائشة رضى الله عنها عن قول الله :
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الذين اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالَخْيَراتِ بِإِذْنِ اللهِ [فاطر: 32] . فقالت: يا بنى، هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضي علي عهد رسول الله ، شهد له رسول الله بالجنة والرزق، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلى ومثلكم، فجعلت نفسها معنا".
قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج: حدثنا شريك عن عاصم عن أبى وائل عن مسروق، قال: دخل عبد الرحمن علي أم سلمة ، فقالت:
"سَمِعْتُ الَّنبيَّ صلي اللهُ وسلم يقول: إِنَّ مِنْ أصْحَابى لمَنْ لا يَرَانِى بَعْدَ أَنْ أَمُوتَ أَبَدا
فَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحمنِ مِنْ عِنْدِهَا مَذْعُوراً، حَتَّى دَخَلَ عَلَي عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ. فَقَالَ لهُ: اسْمَعْ مَا تَقُولُ أُمُّكَ، فَقَامَ عُمَرُ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى أَتَاهَا فَدَخَلَ عَلَيهَا فَسَأَلهَا، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكِ بِاللهِ، أَمِنْهُمْ أَنَا؟ قالَتْ: لا، وَلَنْ أُبَرئَ بَعْدَكَ أَحَداً
فسمعت شيخنا يقول: إنما أرادت أني لا أفتح عليها هذا الباب، ولم ترد أنك وحدك البرئ من ذلك دون سائر الصحابة.
ومقت النفس فى ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد به من الله سبحانه فى لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو به بالعمل.
ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله عليه. ومن لم يعرف حق الله عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهى قليلة المنفعة جدا.
فمن أنفع ما للقلب النظر فى حق الله على العبد. فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزدراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي الله، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
فمن نظر فى هذا الحق الذى لربه عليه علم علم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك.
فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله وبنفوسهم، وهذا الذى أيأسهم من أنفسهم، وعلق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.
وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون فى حقهم على الله، ولا ينظرون فى حق الله عليهم. ومن هاهنا انقطعوا عن الله، وحجبت قلوبهم عن معرفته، ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.
فمحاسبة النفس هو نظر العبد فى حق الله عليه أولا، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيا؟ وأفضل الفكر الفكر فى ذلك؛ فإنه يُسَيِّر القلبَ إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلا خاضعًا منكسراً كسراً فيه جبره، ومفتقرًا فقراً فيه غناه.
وذليلاً ذلاً فيه عزه، ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل؛ فإذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى.
ومن فوائد نظر العبد في حق الله عليه
أن لا يتركه ذلك يُدِلُّ بعمل أصلا كائنا ما كان، ومن أدلَّ بعمله لم يصعد إلى الله كما ذكر الإمام أحمد عن بعض أهل العلم بالله أنه قال له رجل: "إني لأقوم في صلاتى؛ فأبكى حتى يكاد ينبت البقل من دموعى؛ فقال له: إنك إن تضحك وأنت تعترف لله بخطيئتك خير من أن تبكى وأنت مدل بعملك. فإن صلاة المُدلِّ لا تصعد فوقه. فقال له: أوصنى، قال: عليك بالزهد فى الدنيا، وأن لا تنازعها أهلها، وأن تكون كالنحلة إن أكلت أكلت طيبا، وإن وضعت وضعت طيبا، وإن وقعت على عود لم تضره ولم تكسره، وأوصيك بالنصح لله عز وجل نصح الكلب لأهله، فإنهم يجيعونه ويطردونه ويأبى إلا أن يحوطهم، وينصحهم".