بسم الله الرحمن الرحيم


في رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قلتُ يا رسولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً قالَ: ( الأَنبياءُ ثمَّ الأَمثلُ فالأَمثلُ ؛ يُبتلَى الرَّجلُ علَى حسَبِ دينِهِ ، فإن كانَ في دينِهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ علَى قدرِ دينِهِ ، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي علَى الأرضِ وما علَيهِ خطيئةٌ ) ( الراوي: سعد بن أبي وقاص المحدث: الترمذي - المصدر: سنن الترمذي - الصفحة أو الرقم:2398 خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح ).


ومعنى الحديثِ أن الأنبياءَ هُم الأكثرُ إبتلاءاً ليس بنوع المصائب التي يُبتلون بها وإنما بالسببِ أو بالعلةِ التي يُبتلون من أجلها، فنجد أن هنالك الكثيرُ من الناس يُبتلون بمصائبٍ شديدةٍ لم يُبتلى بها كثيرٌ من الأنبياء، كالقتل وإنتهاك الحرمات والتعذيب والتنكيل بالجسد، فهل يعني هذا أن هؤلاء الناسُ هم أشدُ إبتلاءاً من الأنبياءِ؟!!!.

الجواب بالتأكيد لا، فالأنبياءُ هم أطهرُ البشرِ وأنقاهم وأخلصهم خيراً وعفةً وهم الطاهرون والمعصمون من إقتراف الذنوبِ و المعاصي وتَعمُدِها، بينما البشرُ من هم دونهم في الطهارة والنقاء هم ليسوا معصومين من إقتراف الذنوب والمعاصي، ما يعني أن هنالك فارقٌ كبير في علةِ إبتلاءِ الأنبياء وغيرهم من البشر بالمصائب، فاللهُ عزوجل يبتلي الأنبياءَ بالمصائب والشدائد إمتحاناً وإختباراً لإيمانهم بالله ولحبهم له سبحانه و تعالى وليس عقاباً لهم على الذنوب، وإن كان اللهُ عزوجل يُعاقب أنبيائه عندما يُخطئون أخطاءاً من غير قصدٍ وتعمدٍ كنسيانِ يوسف عليه السلام الإستعانة والإستغاثة بالله عزوجل عندما أراد الخروج من السجن وإستغاث بسيد رفيقه في السجن، وكنسيان آدم وزوجه حواء عليهما السلام ما نهاهما الله عنه وأكلهما من الشجرة، وكنسيان سليمان عليه السلام من قول (إن شاء الله)عندما عزم الطوف على سبعين امرأة من نسائه في ليلة واحدة من أجل أن تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله، وكترك يونس عليه السلام قومَهُ مُغاضباً لهم لأنه ضجر منهم ولم يصبر على أذاهم وعلى تكذيبهم له وعلى إصرارهم على الكفر مع عدم قصده مُخالفةِ أمرِ الله عزوجل ولكنه تركهم من دون أن يأمره اللهُ بذلك فكان ذلك خَطأَهُ.

فالله عزوجل يتجاوز عن أخطاء البشر من نسيان وأخطاءٍ غير مقصودةٍ ومما أُستكرهوا عليه لقوله عليه الصلاة والسلام: ( إن اللهَ تعالى تجاوزَ لي عن أُمّتِي الخطأ والنسيانَ وما اسْتَكْرهوا عليه) ( الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: النووي - المصدر: المجموع - الصفحة أو الرقم: 6/309 خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح)


ولكنه عز وجل يُعاقب أنبيائه على هذه الأخطاءِ عتاباً وتصويباً لهم لأنهم صفوةُ وخيرُ وقدوةُ البشرِ فيُطهرهم حتى مما كان منهم من نسيانٍ أو خطأ غير مقصودٍ في الدنيا. بينما اللهُ عزوجل يبتلي باقي البشر بالمصائب والشدائد عقاباً لهم على ذنوبهم لقوله عليه الصلاة والسلام: ( ما يُصيبُ المُسلِمَ، مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حُزْنٍ ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتى الشَّوْكَةِ يُشاكُها، إلا كَفَّرَ اللهُ بِها مِن خَطاياهُ ) ( الراوي: أبو هريرة المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 5641 خلاصة حكم المحدث: صحيح ) (والنصب: التعب. والوصب: المرض) أو عقاباً وإبتلاءاً لهم كلاهما معاً، عن عائشة رضي الله عنها قالت: فإني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال ( ما من مسلمٍ يشاكُ شوكةً فما فوقَها ، إلا كُتبتْ له بها درجةٌ ، ومُحيَتْ عنه خطيئةٌ ) ( الراوي: الأسود بن يزيد المحدث: مسلم – المصدر : صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2572 خلاصة حكم المحدث: صحيح )،


ولذلك هم أقل إبتلاءاً وإمتحاناً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام جميعاً لأن المصائب التي تُصيبهم هي ليست لقصد إمتحانهم فقط بل لإمتحانهم وعقابهم بينما تلك التي تصيب الأنبياءَ هي لقصد إمتحانهم فقط، ما يعني أن جميعَ مصائبِ الأنبياءِ هي إمتحاناً لهم بينما بعضُ مصائبِ دونهم من البشر هي لإمتحانهم والبعض الآخر لعقابهم فكان ذلك أقل إبتلاءاً من إبتلاءِ الأنبياءِ.

ومثالُ ذلك أن يأمر الحاكمُ بسجنِ بريءٍ لم يقترف ذنباً فيكون لذلك وقعٌ وألمٌ شديدٌ على النفسِ لأنه لا يستحق العقوبة، أو أن يُعاقب على مُخالفاتٍ معفيٌ عنها ولا يؤاخذُ الناس بها فيُعاقبُ عليها بدلاً أن يُعفى عنه فيكون لذلك وقعٌ وألمٌ شديدٌ على النفس، فإذا صبر ورضي وسَلمَ بذلك ولم يعترض على ذلك لأن الله عزوجل أراد وشاء ذلك، كان هذا من عزم الأمور ومن قوة الإيمان بالله عزوجل الغير مشروط بمنفعة أو مصلحة دنيوية وكان كذلك من أوثق وآكد العباداتِ لأن العبدَ ينقادُ ويخضعُ ويذعنُ لإرادة الله عزوجل حتى فيما يكره أو فيما لا يعلم الحكمة منه وذلك لعلمه ويقينه بأنه عبدٌ مخلوقٌ مملوكٌ لخالقٍ ومالكٍ عظيم إن يشأ يُعذب عباده وإن يشأ يرحمهم وما لهم من دون الله من ولي ولا نصير، قال تعالى ( رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ) (الإسراء:54)،


وقال تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الملك: 28)، ولكنه سبحانه و تعالى كتب على نفسه الرحمة، قال تعالى ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (الأنعَام: 54)، وحرم على نفسه الظُلمَ، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، فيما روى عن اللهِ تبارك وتعالى أنَّهُ قال ( ياعبادي ! إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا . فلا تظَّالموا ) (الراوي: أبو ذر الغفاري المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2577 خلاصة حكم المحدث: صحيح) وهكذا هُم الأنبياء الطاهرون يُبتلون بالمصائب وبالشدائد لا لذنبٍ اقترفوه وهم عابدون مخلصون لله عزوجل فلا تزيدهم هذه المصائب رغم ألمها وشدتها على نفوسهم إلا قُرباً من الله عزوجل ومحبةً وإخلاصاً له، ولا تزيدهم معاتبةُ الله لهم على ترك الأولى ومعاقبته لهم على الأخطاء الغير مقصودة إلا لوماً لأنفسهم، قال تعالى عن يونس عليه السلام (فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء: 87)،

وقال تعالى عن آدم عليه السلام ( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف: 23) وإستغفاراً وإستغاثةً به ولجوءاً إليه، قال تعالى عن نوح عليه السلام (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) (هود:47)، وقال تعالى عن داود عليه السلام (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) (ص:24) .


أما إذا أمر الحاكمُ بسجنِ مُذنبٍ على عقوبة إرتكبها وإقترفها فإنه لا يشعر بالظلم والألم بذلك لأنه إقترف ذنباً إستحق عليه العقابَ. وكذلك هم البشر فإن المصائب التي تصيبهم هي بسبب ذنوبهم التي يقترفوها فهم ليسوا معصومين من الذنوب، قال تعالى (وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) (النساء: 79)، وقال تعالى (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء:16)، وقد يكون من المصائب التي تصيبهم إبتلاءاً وإمتحاناً لهم، قال تعالى (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2)، وقال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35 ).

فضلاً عن ذلك، الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أرجحُ الناسِ عقلاً فإتهامهم بالجنون والسحر أشدُ إيلاماً لهم من باقي البشر، قال تعالى عن الكافرين في نوح عليه السلام (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ ) (المؤمنون: 25)، وقال تعالى عن الكافرين في الرسول صلى الله عليه وسلم (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ) (الصافات: 36 )، وقال تعالى عن فرعون في موسى عليه السلام (فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (الذاريات:39 )، وقال تعالى عن الكافرين في صالح عليه السلام (قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ) (الشعراء: 153).

وهم عليهم الصلاة والسلام أصدقُ الناسِ لساناً فإتهامهم بالكذب وبقول الشعرِ أشدُ إيلاماً لهم من باقي البشر، قال تعالى عن الكافرين في الرسول صلى الله عليه وسلم (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ) (الأنبياء:5). وهم أكثرُ الناسِ عزةً وأنفةً فالسخرية منهم والإستهزاء بهم أشدُ إيلاماً لهم من باقي البشر، قال تعالى (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُطزُوًا أَهَٰذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ هُمْ كَافِرُونَ) (الأنبياء: 36)، وقال تعالى (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (الأنبياء: 41).

ولذلك قيل في الحديث الشريف (يُبتلَى الرَّجلُ علَى حسَبِ دينِهِ)، وأساسُ دينِ الإسلامِ هو أن تشهد بوحدانية الله عزوجل وبنبوة وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فتنقاد وتطيع أوامرَ اللهِ ورسولهِ دون إعتراض لعلمك ويقينك بأن الله سبحانه و تعالى حكيمٌ عليمٌ لا يأمر بشيءٍ إلا لحكمةٍ وأنه عزوجل مالكٌ لكل من في السموات والأرض فلا يحق للعبدِ المملوكِ أن يعترض على مشيئة وإرادة مالكِهِ.

ما يفيد أنه كلما كان دينُ العبدِ راسخاً أكثر كلما زاد تسليمه ورضاه بمشيئة الله عزوجل وإرادته حتى ولو خالفت إرادةُ اللهِ ومشيئتُهُ المنطقَ والمعقولَ الظاهرَ المحسوس ووافقت المنطقَ والمعقولَ الباطنَ الغيبيِ فإرادةُ ومشيئةُ اللهِ لا يُمكن إلا أن توافق الفطرةَ السليمةَ.


فالمنطق والمعقول الظاهرُ في الدنيا المحسوسة التي نحيا فيها يقتضي أن يوافق الجزاءُ جنسَ العملِ فعملُ الخيرِ يُجازى بالنعيم والخير و السراء وعملُ الشرِ يُجازى بالمصائب والشر والضراء ولذلك نجد من الكافرين من كان يظن أن اللهَ يُحبه لما فيه من نعيمٍ ورخاءٍ وسعادةٍ، قال تعالى عن قول الكافرين للمؤمنين (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا) (مريم: 73-74)، وقال تعالى عن قارون (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي ۚ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا ۚ وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص:78).

ولكنّ المنطقَ والمعقولَ الغيبي يقول أن هذه الحياةَ الدنيا فانية وحقيرةٌ لا تساوي شيئاً عند الله عزوجل ولو كانت تساوي جناحَ بعوضةٍ ما سقى كافراً منها شُربةَ ماءٍ ولخصَّ المؤمنين فقط بالنعيم فيها، وأنها دارُ إبتلاءٍ وإمتحانٍ وما من نبيٍ أو مؤمنٍ يُبتلى فيها بالمصائب إلا جزاهُ اللهُ خيرَ ثوابٍ على إيمانه وصبره فيكون بذلك الجزاءُ من نفس جنس العمل، فجزاءُ الخيرِ من إيمانٍ وصبرٍ هو الفوزُ بجناتِ النعيمِ وأي ثوابٍ أعظم من هكذا ثواب!!!

وبذلك تكون إرادةُ ومشيئةُ اللهِ عزوجل وافقت الفطرة السليمة. ولكنّ لا يؤمن بذلك إلا من كان على إيمانٍ ويقينٍ قاطعٍ بأن الله عزوجل حقٌ وبأن دينَ الإسلامِ حقٌ، فعلى قدرِ اليقينِ يكون الإبتلاءُ والإمتحانُ فكلما زاد اليقينُ والإيمانُ بالله عزوجل كانت المقدرةُ والصبرُ على المصائب والشدائد أكبرُ كيقينِ وإيمان الأنبياءِ، وكلما قَلَّ اليقينُ والإيمانُ بالله عزوجل كانت المقدرةُ والصبرُ على المصائب والشدائد أقلُ كيقينِ وإيمانِ المؤمنين وهذا هو المقصود بقول (يُبتلَى الرَّجلُ علَى حسَبِ دينِهِ).

وإذا قيل أن هنالك من الأنبياءِ من قُتِل كزكريا ويحي عليهما السلام على يدِ قتلةُ الأنبياء (لعنةُ اللهِ عليهم)، فهل يعني هذا أنهم ليسوا مكرمين عند الله عزوجل؟!!! الجواب طبعاً لا، فالأنبياء كلُهم إخوةٌ وجميعهم مشتركون في طهارة القلبِ وصلاحِ الجوارحِ وفي العصمة من إقتراف الذنوب والمعاصي لأن الله سبحانه وتعالى وصفهم في القرآن الكريم وفي الأحاديث الشريفة على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم بعموم لفظ (الأنبياء) وخصَّ بالذكرِ عدداً منهم، ولكنهم متفاضلون في المنزلة والمكانة عند الله عزوجل، قال تعالى (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ۖ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) (الإسراء:55)،

فمن كان كريماً ووجيهاً عند الله عزوجل كالحبيب المصطفى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأولوا العزمِ من الرسلِ إبراهيم ونوح وموسى وعيسى عليهم السلام جميعاً فإن الله الملك العظيم القوي العزيز يحفظهم ويصونهم من كيدِ أعدائهم فمن يُجار من اللهِ الملكِ العظيمِ مالكِ المُلكِ لا يخشى ذُلاً ولا هلاكاً، قال تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة: 67)، وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (الأنبياء: 70)، وقال تعالى عن نوح عليه السلام (وَنُوحًا إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُ مْ أَجْمَعِينَ) (الأنبياء: 76-77)،


وقال تعالى عن موسى عليه السلام (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا ۚ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) (الأحزاب: 69)، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) (آل عمران: 45).

أما من قدَّرَ اللهُ عليه القتلَ من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيرجعُ إلى مشيئةِ اللهِ عزوجل وحكمته فسبحانه وتعالى لا يُسئل عما يفعل وهم يُسئلون، ولكن من الحكم الظاهرة لمقتلِ الأنبياءِ هو تبيين الله عزوجل للناس أن الدنيا دارُ إبتلاءٍ وإمتحانٍ وليست دارُ رخاءٍ ونعيمٍ فلو كانت كذلك لما قُتِلَ فيها نبيٌ من أنبياء الله، وكذلك لكي يقتدي بهم المؤمنون ويعلموا أن القتلَ في سبيل الله نعمةٌ وتشريفٌ وتكريمٌ ولو كانت غيرَ ذلكَ لما قُتل نبيٌ وهم أكرمُ الناس عند الله عزوجل، فلا يهنْ ولا يضعفْ المؤمنون في طلب الشهادة في سبيل الله. فأولئك الأنبياءُ الذين قُتلوا على يد أعدائهم هم رضوا بإبتلاء وإمتحانِ اللهِ لهم ولم يحزنوا على ما أصابهم لأنهم مؤمنون باللهِ عزوجل ومُضحون في سبيل اللهِ حُباً وإخلاصاً لله عزوجل، فلماذا نعترض ولا نرضى نحن البشرُ؟!!!

والخلاصة أنه على العبدِ المؤمن أن يقتربَ من اللهِ عزوجل بإتقاءِ غضبهِ بأداء الفرائض والواجبات وترك المعاصي والمنكرات وبطلب رضاه ومحبته عزوجل بأداء النوافل والمُستحبات حتى يصيرُ حبيباً لله عزوجل، (وفي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقولُ اللهُ تعالى : من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربةِ ، وما تقرب إليّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افترضته عليه ، ولا يزالُ عبدي يتقربُ إليّ بالنوافلِ حتى أحبَّه ، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به وبصرَه الذي يُبصِرُ به ويدَه التي يَبطشُ بها ورجلَه التي يمشي بها ، فبي يسمعُ وبي يُبصرُ وبي يَبطشُ وبي يمشي ، ولئن سألني لأُعطينه ولئن استعاذني لأُعيذنه ، وما ترددت في شيءٍ أنا فاعلُه ترددي في قبضِ نفسِ عبدي المؤمنِ يكرهُ الموتَ وأكرهُ مساءتَه ولابدَّ له منه.) ( الراوي: أبو هريرة المحدث: ابن تيمية - المصدر: مجموع الفتاوى - الصفحة أو الرقم: 25/316 خلاصة حكم المحدث: صحيح )،


فإذا ما صار المؤمنُ حبيياً لله عزوجل صار كريماً عنده عزوجل، قال تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13) فلا يخشى عندئذٍ شيئاً أبداً ويطمئنُ بحبِ اللهِ لهُ حتى إذا ما قَدَّرَ اللهُ عليه شراً أو مكروهاً لطف به ورَفقَ به كما يلطُفُ ويرفِقُ بأحبائه وأوليائه الأنبياءَ، قال تعالى عن يوسف عليه السلام (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف: 100)، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


المؤلف: خالد صالح أبودياك.