الرجوع إلى الحق < لأن أكــون ذنَباً في الحق ، أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل > ..
حكــمٌ مرقومةٌ في تضاعيف تجارب الحياة يُسطرها أهلُ العلمِ والفضل والدراية بموارد الخطاب ، ودلالات الألفاظ ، وتـُــفهم على مراد سياقة المعاني البلاغية ، ومقايسة الفاضل والأفضل ..
ومن ذلك حكمةٌ مشهورة ، ودرَّة مسطورة .. قول الإمام الثقة < عبيد الله بن الحسن بن حصين التميمي العنبري > قاضي البصرة، وهو من رجال مسلم، المتوفى رحمه الله تعالى سنة 168 :
(لأن أكون ذنَباً في الحق ، أحب إلي من أن أكون رأساً في الباطل ) ..
قالها لـمَّـا أخطأ في مسألة من العلم جانب فيها الصواب ؛ فعاد إلى الحق مسلماً به ، مخبراً برجوعه لصواب الحق وأهله ..
قال الإمام الشاطبي - رحمه الله - في كتابه الاعتصام بعد حكاية الرجوع عن الخطأ : ( فإن ثبت عنه ما قيل فيه ، فهو على جهة الزلة من العالم ، وقد رجع عنها رجوع الأفاضل إلى الحق ) ..
وهذا الرجوع : مخبر عن دين متين ، واعتراف بالحق والعلم والفضل لأهله .. والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، والمتمادي في الباطل لم يزدد من الصواب إلا بعداً .. وعلى هذه الفضيلة سائر أهل العلم والفضل ، والمنقول في ذلك يفوق الوصف والحصر ..
وتناقلها كبار أهل الحكمة والعلم منقبةً مميزة لذلك الفاضل الكريم ، وجعلوها درساً مقرراً لكل طالب علم وحق في رحلة حياته الطلبية : أن يكون راجعاً إلى الحق والصواب متى ما لاح له وبان ..
ومن ضمائمها وأشباهها : ما جاء في ترجمة ابن عباد ؛ لما غلب على دياره في أواخر عهد الأندلس النصارى ، وأراد الاستنجاد بابن تاشفين الأمير المسلم عليهم .. فحذره بعض قومه من مغبة الاستعانة بابن تاشفين ؛ لِـمَـا في ذلك من التخوف أن يزول ملكُه على يد أمير المرابطين ، فقال كلمته العظيمة - رحمه الله - : ( لئن أكون ذنبــًا في الحق ، أحب إلي من أن أكون رأسًا في الباطل ، أرعى الإبل لابن تاشفين ، خير لي أن أرعى الخنازير للفونسو !! ) ..
يقول الـكاتب الإسلامي الكبير محمد أحمد الراشد في كتابه الفذ < العوائق > (121) :
( قيادة الباطل مثلبة، كما أن < جندية !! > الحق منقبة :
فقيادة الباطل ليست بشيء، ولا لها في العرف والإسلامي قيمة، وإنما هي مجردة من الفضائل، حتى إن نفس صاحب المروءة لتعافها فطرة، وتعتبر إيرادها موضوع مساومة وثمن تأييد من أكبر الإهانة .
وهذا النور أوقده قاضي البصرة المحدث الثقة عبيد الله بن الحسن العنبري المتوفى سنة 168 هـ ، فكأنه قد دعي إلى خروج عن الطاعة بتمنية من خلابات الرئاسة، فأبى وقال :
( لأن أكون ذنباً في الحق، أحب إلى من أن أكون رأساً في الباطل ) ..
حسن الحملي.