المظاهر التي تزيد في الغثاء :
وهذه الخاتمة نعرض فيها لبعض مظاهر تزيد من الزبد ، وتزيد من ظهور الغثاء ، وإذا كان المفسرون واللغويون قالوا لنا : إن الغثاء والزبد أشياء تراها متفرقه كثيرًا وظاهرة ، لكنها وإن كانت تبهر العين أو تأخذ بالعين من جهة النظر ولا قيمة لها ، فهي أيضًا تحتاج إلى إزالة ، إذا أردت أن تستفيد من ماء فيه زبد وفيه غثاء فلا بد أن تزيل ما علق به من الشوائب
ولهذا نقول لا بد أن ننظر إلى هذه المظاهر :

1 – النظر إلى الأمور من جهة واحدة :
أول مظهر من تلك المظاهر :
النظر إلى الأمور من جهة واحدة ، كيف يكون ذلك ؟

من طبيعة بعضهم أنه يرى هم الدعوة أو يرى الإصلاح من جهة واحدة فقط ، ذهنه تربى عليها ، أو أكثر من السماع في هذا الموضوع ، فيرى أن الإصلاح في هذه الجهة فقط دون غيرها . وهذا من نتائج الضعف في البناء والتقليد ، فهذه المجتمعات اليوم وهذه الأمور المشتبكة المتخالفة ننظر فيها إلى الأمور من جهات متعددة ، فالذي ينظر إلى الأحوال من جهة واحدة لا بد أن مخطئ .
ومن أسباب النظر من جهة واحدة أن يكون المرء عاش مع من يملي عليه هذا الفهم ، فينظر إلى الأمور بهذا الفهم ، فيقضي سنين وهو لا يسمع إلا هذا التصور ، أو يخالط مجموعة يرددون هذا التصور ، حتى أصبح بعد مرور السنين عنده حقيقة لا تقبل النقاش .

وهذا من نتيجة أن يكون في إطار واحد ، وهذا خلل في البناء ، ومظهر من المظاهر التي ينبغي علاجها .
ولا شك أن الدعوة التي يمارسها أولئك مطلوبة ، وما هم عليه من الخير لا يُجحَد ، لكن الذي يكون فيه النظر من جهة واحدة ، ويحكم على الأمور من جهة واحدة ، بل ويُلزِم الناس بهذا النظر ؛ لا شك أن هذا غير مرضي ؛ لأن وجهات الأمور مختلفة ، والله – جل وعلا – أمرنا بأن نزن بالقسطاس المستقيم
2 – الاستعجال :
من مظاهر الزبد ومن المظاهر التي تزيد من الغثائية : الاستعجال ، إن الدعوات لا تقاس أعمارها بالسنين ، وفي الإصلاح والدعوة لا يقاس كم مضى من سنوات ، فكما ذكرت قبل : كم مكث نوح عليه السلام من السنوات ؟ ألف سنة إلا خمسين عامًا ، والنتيجة : ما آمن معه إلا قليل . محمد بن عبد الله – عليه الصلاة والسلام – مكث ثلاث عشرة سنة في مكة ، ومكث عشر سنين بعد الهجرة ، وكانت حصيلته في الدعوة في العشر سنين أعظم من ثلاث عشرة سنة ، بل كانت أعظم وأعظم وأعظم ؛ ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [ الفتح : 1 ]
جاءته الجموع والوفود مسلمة . أول الرسل نتيجة دعوته قليل ؛ قال بعض المفسرين : كانوا اثني عشر ما بين رجل وامرأة ، وأكثر ما قيل : إنهم بضعة وسبعون ، والنبي – عليه الصلاة والسلام – محمد مكث ثلاثًا وعشرين سنة ولكن كانت النتيجة أعظم من ذلك بكثير ، كانت النتيجة أعظم وأعظم وأعظم .

هذا يعطينا أن النظر في الدعوة إلى ما يجب ، لا إلى النتيجة ، ولهذا من المآخذ على الدعوات المعاصرة الاستعجال ، جاء بعض الصحابة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو في منى فقالوا له : يا رسول الله ، إن شئت لنميلن على أهل منى بأسيافنا . قال : لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ أخرجه الإمام أحمد رقم 15798 )
ففي هذه الظروف الحالية لا بد من الصبر على الدعوة .
والاستعجال له صور كثيرة متعددة تختلف ما بين بلد إلى آخر ، فمن عوائق البناء الاستعجال ، من عوائق البناء أن يتحمس المتحمس الداعية أو الشاب بتصرف أو بقول أو بفعل ثم تكون النتيجة ضده ، وضد مجموعته ، وضد الإسلام ، وضد الدعوة ، هذه من مظاهر الاستعجال ، ويمارسها بعضنا في كل يوم في دعوته للأفراد ، حيث يستعجل تحصيل النتائج .
3 – التعصب :
من تلك المظاهر التي تزيد من الغثائية : التعصب .
الدعاة والمصلحون اليوم يعيب بعضهم التعصب للمذاهب الفقهية التي ينتمي أصحابها إلى أئمة ؛ مذهب أبي حنيفة ، مذهب الشافعي ، مذهب مالك ، مذهب الإمام أحمد ، والإمام أحمد والشافعي ومالك وبقية أئمة الإسلام هؤلاء أئمة في الإسلام ، ومع ذلك من يتعصب لأقوالهم يعيبونه ويعيبون المقلد ، لكننا نرى تعصبًا لأقوال بعضهم لبعض ، تعصبًا لأفكار بعضهم لبعض ، فكيف يتفق هذا مع هذا ؟
نرى تقليدًا ، نرى التعصب على مصراعيه ، بحيث إنه لا يقبل كلمة حق إلا إذا جاءت ممن يرضاه ، واعجبًا ! كيف قال يهودي لأحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم تُنَدِّدُونَ ، وفي بعض الروايات : إنكم لأنتم القوم ، لولا أنكم تنددون ؛ تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . فأبلغ الصحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال عليه الصلاة والسلام : « قُولُوا : مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ » أخرجه النسائي ( رقم 3773 ) ، والإمام أحمد ( رقم 23339 )
يهودي عاب على المسلمين في عهد النبي – عليه الصلاة والسلام – كلمة يقولونها ، والنبي عليه الصلاة والسلام ما رفض هذا القول لأنه من يهودي ، بل قال : « قُولُوا : مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ » ، قال إمام هذه الدعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهّاب في مسائل كتاب التوحيد لما ساق هذا الحديث : “فهم الإنسان إذا كان له هوى” .
لكن الجهة المنقودة هل تتعصب لنفسها وتقول : لا أقبل الحق إلا من جهتي ؟ لا شك أن هذا من غير الشريعة ، بل الشريعة جاءت بقبول الحق ممن جاء به .
ونحن نرى اليوم أن الجهات المتعددة التي تعمل للإسلام وتدعو ، على اختلاف ما بينها ، وعلى قربها وبعدها من السنة ، نجد أن هذه الجهات لا تأخذ بهذا التوجيه ، فالذي هو من الفئة الأخرى وضد آرائنا لا يقبل منه صرف ولا عدل ! لا تقبل منه كلمة ! لا يقبل منه نقد ! بل إذا نقد قدح ، والنبي عليه الصلاة والسلام ما قدح في اليهودي ، بل قبِل ما قاله وقال : « قُولُوا : مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ »

فنريد أن نأخذ من هذه الظاهره الصحية عندنا في البناء الدعوي المستقبلي : أن نتجاوز التعصب للفرد ، أن نتجاوز التعصب للداعية ، أن نتجاوز التعصب للعالم ، أن نتجاوز التعصب للدعوة وللفئة وللجماعة ، أن نتجاوز ذلك إلى ما هو أغلى وأهم ، ألا وهو التعصب للحق ، نبحث عن الحق ، الله – جل وعلا – أعطانا عقولًا ، أعطانا مدارك ، وبناء الدعوة إذا كان فيه التعصب وعدم الانفتاحية وفيه الانغلاقية الموجودة الآن ؛ فإنه لن يكون بناءً صحيحًا ، بل لا بد أن نفتح الأمور ، وأن نقبل النقد ممن جاء به إذا كان صحيحًا ، ونناقش في قنوات مفتوحة على أوسع مجال ، من جميع الجهات ؛ لأن هذا فيه صلاح وإصلاح ، والنظر والمناظرة والمحاجة والمجادلة بالتي هي أحسن كلها لها أصولها الشرعية المعلومة .
4 – طلب الكمال :
من المظاهر التي تزيد الغثائية طلب الكمال في الأشخاص ، أو طلب الكمال في الدعوات ، أو طلب الكمال في أنواع التربية ، مثال ذلك ألا يقتنع بأحد ، أو ألا يرضى بفعل لو كان في نفسه خيرًا ومصلحة شخصية ، لا يرضى به إلا إذا كان كاملًا لا نقص فيه .
وهذا غلط ، بل النقص يُسدد ويُكمل .
إذا كان ثم نقص نرضى بأصل العمل ، بشرط أن يكون الأصل العلمي على وفق طريقة السلف الصالح ، ألا يكون عملًا بدعيًّا ، ألا يكون عملًا مخرجًا عن طريقة أهل السنة ، أن يكون العمل في أصله صحيحًا ، فإذا كان العمل في أصله صحيحًا فإن طلب الكمال في العمل الدعوي غير واضح ، بل لا بد أن يكون ثم وثم وثم من الثغرات .
فالذي ينبغي أن نتكامل ، بمعنى أن ينصح بعضنا بعضًا ، وأن نفرح بالنقد ، فإذا قيل : في دعوتك من العيب أو النقص كذا ، في دعوتك كذا وكذا وكذا ، تقول : إذن ندرس هذه الأمور ونرى ؛ فما كان فيها من حق نزيله .
فيجب ألا نربي أنفسنا وشبابنا على التعصب وعلى البعد عن قبول غير ما نقتنع به ، لا شك أن الإيمان يتبعض ، وكذلك أمور الإيمان تتبعض ، ومن دعاكم إلى خير فأجيبوه ، والله جل وعلا قال : ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [ المائدة : 2 ] .
فلهذا ترى من طريقة الراسخين في العلم في هذه البلاد أنهم يسددون النقص إذا كان موجودًا ، إذا وجدوا من يدعوهم ، أما أن يتصور واحد منا أنه لا دعوة إلا على وجه الكمال ، أو لا يقبل دعوة مطلقًا ، فهذا ينتج عنه أن نقبل بتسلط أهل الباطل وأن نقبل بانتشار الفساد ؛ لأنه إما هذا أو ذاك ، فما يجب هو أنه من كان مصيبًا في شيء نصوبه فيه ، ومن كان مخطئًا في شيء ننصحه حتى يتخلص من أنواع الخطأ في دعوته وفي أسلوبه أو في آرائه ، ونكون أكثر واقعية في عملنا الدعوي .
إن طلب الكمال في الأشخاص ، طلب الكمال في المجموعات ، طلب الكمال فيما تراه ؛ هذا غير واضح ، ولكن المرء يوازن فيما يأتي وفيما يذر ، ويراعي في تقييمه للأمور ما يراه من أحوال ومجتمعات ، وإذا كان الناس قريبين إلى الحق والهدى أو كانوا أعظم اتصالًا بالسنة وبالتوحيد فهم على خير ، وما كان فيهم من نقص فإنه يسدد .
هذا وأسأل الله جل وعلا أن يبصرنا ، وأن يجعلنا من الدعاة إلى دينه ، وألا يجعلنا ممن يتخلفون عن الدعوة بأسباب موهومة ، وأن يجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، اللهم أصلح قلوبنا ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، اللهم أصلح قلوب أحبابنا وقلوب ذرارينا ، وأصلح قلوب أقاربنا ، وأصلح قلوب المسلمين ، اللهم وفق ولاة أمر المسلمين إلى الأخذ بالدعوة إلى دينك على ما تحب وترضى ، اللهم وألف بين قلوب المؤمنين ، واجعلهم متعاونين على البر والتقوى ، اللهم نسألك أن تعيذنا من مضلات الفتن ، وأن تعيذنا من الفساد ، وأن تعيذنا من المنكر ، وأن تعيذنا من كل ما لا ترضاه ، اللهم أعذنا ، وأعذ أحبابنا ، وأعذ من دعا لنا ، وأعذ جميع المسلمين ، اللهم واحفظ مجتمعاتنا من كل سوء ، اللهم من أرادنا ، أو أراد المسلمين بسوء في ديننا ، أو في أعراضنا ، أو في أخلاقنا ، أو في أي أمر من أمورنا ، اللهم فأشغله بنفسه ، اللهم لا تجعل له طريقًا علينا ، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ، ويعافى فيه أهل معصيتك ، ويؤمر فيه بالمعروف ، وينهى فيه عن المنكر ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
http://salehalshaikh.com/wp2/?p=737