عبد الله الطنطاوي
tantawi38@gmail.com
قال مصعب لأخيه فؤاد:
- كلام الأستاذ واضح.
فردَّ عليه أخوه فؤاد:
- إذا كان كلام الأستاذ كما فهمته أنا، فهذا يعني أن أتصدّق على الفقراء بكل الأشياء الجميلة التي عندي.. وأن تتصدق أنت بكل الأشياء الحلوة التي عندك.. وأن يتصدق أبونا بهذا القصر الذي نسكن فيه، وبالمرسيدس التي عنده، لأن هذه كلها أشياء نحبها، كما نحب غيرها..
فقاطعه مصعب:
- على مهلك يا فؤاد، فأنت تريد أن تجردنا من كل أشيائنا التي نحبها.
قال فؤاد في سخرية:
- طبعاً.. ألم يقل الأستاذ ذلك؟
فأجاب مصعب وهو يبتسم:
- لا يا أخي.. الأستاذ كان يشرح الآية الكريمة: )بسم الله الرحمن الرحيم: لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبون( صدق الله العظيم.
فلكي تنال الثواب يا فؤاد، عليك أن تتصدق من الأشياء التي تحبّها، لا من الأشياء التي تكرهها وتريد أن تتخلص منها.
فقال فؤاد ساخراً:
- يعني.. إذا جاء شحاذ مثلاً، فسوف أخلع له بذلتي الجديدة، وقميصي الجديد، وحذائي الجديد، وأقدمها لحضرة الشحاذ أفندي، حتى أنال الثواب.
ثم نظر فؤاد نحو أخيه نظرة تحدّ وقال:
- قل لي يا مصعب.. هل الأستاذ يفعل مثلما يقول؟
هل الأستاذ أسامة يتصدّق على الفقراء بما عنده من أشياء جميلة يحبّها؟
أدرك مصعب أن مثل هذا النقاش مع فؤاد لن يفيد، فقال:
- ما رأيك في إطفاء النور لننام، وغداً تناقش الأستاذ في هذا.
وقام مصعب إلى مفتاح النور ليطفئ الثريا، فصرخ به فؤاد:
- اترك النور، ونم إذا كنت تريد أن تنام..
- وأنت؟
- أنا؟ أنا ما نعست.. عندما أنعس أطفئ النور وأنام.
قال مصعب:
- ولكن الساعة صارت..
فصرخ فؤاد:
- دعني منك، ومن ساعتك..
فما كان من مصعب إلا أن يعود إلى سريره وهو يقول في همس:
- سامحك الله يا فؤاد.. لا مذاكرة، ولا مطالعة، ولا صلاة أو..
فصرخ فؤاد من جديد:
- ألا تنام وتتركني من محاضراتك؟
قال مصعب:
- تصبح على خير..
سحب مصعب اللحاف فوق رأسه، وراح يفكر في حال أخيه فؤاد، هذا الولد الشقي الذي لا يحب إلا نفسه، الكسول الذي لا يؤدي واجباته المدرسية، الذي ينفق أوقاته في اللعب مع أولاد الحارة، وفي الجلوس الطويل أمام شاشة التلفزيون، وإذا نام لا يستيقظ، ويحاول أن يستأثر بكل ما تصل إليه يداه، ولا يستحيي أن يستخدم أمه، فيطلب منها أن تأتيه بكأس ماء، أو شاي، وما أشبه ذلك.
وسأل مصعب نفسه:
"ترى.. ماذا أستطيع أن أفعل، من أجل تخليص فؤاد من هذه العادات السيئة التي جعلت رفاقه في الحارة ينفرون من اللعب معه، وهو يفرض نفسه عليهم، بما أوتي من وقاحة وقلة إحساس، كما جعلت زملاءه في الصف يتحاشونه (أي يبتعدون عنه) لما فيه من غلظة وتكبر.. حتى أولاد أعمامه وأخواله صاروا يضيقون بوجوده بينهم إذا جاؤوا لزيارتنا، ويتمنون لو يتركهم ويذهب إلى غرفته، ويغلق عليه بابها، حتى لا يروه ولا يسمعوا صوته."
واسترسل مصعب في هذه الأفكار، حتى أسلم عينيه للنوم، ولم يستيقظ إلا على رنين الساعة المنبهة التي توقظه على صلاة الفجر.
بعد أن صلّى مصعب، وقرأ ما تيسر من القرآن الكريم، حاول إيقاظ أخيه فؤاد، فقد جهز الإفطار، واقترب موعد المدرسة، ولكن فؤاداً أبى أن ينهض من سريره، وزعم أنه مريض ولا يستطيع الإفطار ولا الذهاب إلى المدرسة.
وفي المدرسة، سأل الأستاذ أسامة عن تلميذه فؤاد، فقال له مصعب:
- فؤاد مريض.
فقال الأستاذ متضاحكاً:
- مريض أم متمارض يا مصعب؟
وضحك تلاميذ الصف التاسع، وغضّ مصعب من بصره خجلاً من هذا الموقف الذي سببه له أخوه، وتمتم بشفتيه: سامحك الله يا أخي يا فؤاد.
* * *
كان الأستاذ أسامة معلماً ناجحاً، وله تأثير كبير على الأطفال الذين يعلّمهم، فقد كان تلاميذه يحبونه ويحترمونه ويستمعون إلى نصائحه، ويحاولون تنفيذها حسب استطاعة كل واحد منهم.
وكان الأستاذ أسامة خبيراً بنفسيات الأطفال، وكان يعطيهم الكثير من علمه وتوجيهاته ولا يبخل عليهم بشيء مما يطلبونه منه، فتعلق به تلاميذه، وصار لهم بمثابة (أي مثل) الأب ، والأخ الكبير، والمعلم المخلص الذي ينير لهم الطريق الذي يجب أن يسلكوه (أي يسيروا عليه) في حياتهم، لتكون حياتهم ذات قيمة ومعنى.
وكان الأستاذ أسامة يركز في نفوس تلاميذه على حب الخير، حتى يصير فعل الخير سجية (أي عادة) لهم يفعلونه لوجه الله، دون أن ينتظروا أي مقابل لقاء ذلك.
وكان الأستاذ أسامة يلاحظ الفوارق الكبيرة بين الأخوين الشقيقين التوأمين: مصعب وفؤاد، فمصعب تلميذ مثالي، يؤدي واجباته المدرسية على خير ما يرام (أي ما يطلب منه) ولا ينسى واجباته تجاه زملائه التلاميذ، يكرمهم، ويساعد المحتاج منهم، ويندفع في تقديم ما يمكنه تقديمه لهم، ولا ينسى المستخدمين والآذنين في المدرسة حتى اشتهر في المدرسة كلها، وليس في صفه فقط، بالكرم وصنع المعروف وحب الخير، فأحبه المعلمون والطلاب والمستخدمون، وكانوا ينظرون إليه في حب وإعجاب، ويدعو له الصالحون منهم، يدعون الله تعالى أن يكثر من أمثاله، وأن يحفظه من كل سوء، وأن يزيده من فضله، ويجعله قرّة عين لأبويه، وكانوا يقارنون بينه وبين أخيه، وبينه وبين أبيه المتكبر المستعلي على الناس، فيعجبون، ويقول أحدهم:
- سبحان الله.. شوكة خلّفت وردة.
ويقول آخر:
- فؤاد ابن أبيه، ومصعب لأخواله.
ويعلق ثالث بقوله:
- صدقت، أخواله طيبون، بسطاء، صائمون، مصلون.
فيقول الأستاذ أسامة:
- كلامكم كله صحيح.. فأولاً: الولد سرّ أبيه، وكذلك كان فؤاد، والمثل العربي يقول: كادت المرأة تلد أخاها، ومصعب لأخواله.
وسكت الأستاذ أسامة لحظات، ثم قال:
- ولكننا لن نعدم الوسيلة التي تجعل فؤاداً ولداً صالحاً كأخيه مصعب.
* * *
وسار كل واحد من الأخوين الشقيقين في طريق..
مصعب في طريق الخير وفعل الخيرات..
وفؤاد في طريق آخر غير طريق أخيه مصعب، كان يقوده إليه طيش الشباب، والدلال الذي يلقاه من أبويه، ولكنه لم يكن شريراً خالصاً، كانت فيه بعض بذور الخير التي تحتاج إلى من يتعهدها بالسقاية والرعاية لتظهر على سطح الأرض وتنمو، ولهذا كان يظهر عليه التأثر بأخيه في بعض تصرفاته وأحواله، لأن أخاه مصعباً كان شديد الحنو عليه وعلى أمه وأبيه وعلى أخته الصغيرة (هبة) يُؤْثرهم (أي يقدّمهم) على نفسه في كل شيء.. يُؤْثرهم في طعامه وشرابه، ويخدمهم، ويعمل من أجل راحتهم، وكان يشتري لأخته الصغيرة بعض الألعاب والحلوى من مصروفه، ولا يبخل على واحدٍ منهم بما عنده من مال أو من لباس أو متاع مما كان يهديها إليه بعض أخواله أو أعمامه أو أصدقائه فهؤلاء جميعاً كانوا يحبونه، لما يرون مَنْ أخلاقه العالية، ومن الحب الذي يوزعه على من حوله من الأهل ،والأصحاب، ومن الصدق في التعامل معهم، ومن الجد والاجتهاد في المدرسة.. حتى أمه وأبوه كانا يغدقان عليه (أي يعطيانه الكثير) من المصروف والهدايا، لتلك المزايا والصفات التي يتصف بها، على الرغم من أنهما كانا يضيقان – أحياناً - ببعض تصرفاته وخاصة عندما كان يدعوهما إلى الصلاة في إلحاح، ولكن في لطف..
* * *
قال مصعب مرة لأمه:
- لماذا لا تصلين يا أمي؟
أجابت الأم:
- عندما أكبر أصلي.. أنا ما زلت شابة، وأريد أن أستمتع بشبابي.
قال مصعب:
- الشاب التائب حبيب الله يا أمي.
فقالت الأم:
- اطمئن يا مصعب، سوف أتوب إلى الله وأصلي وأصوم وأكون كما تريد عندما أكبر.
قال مصعب:
- عفواً يا أمي.. ألا تخافين من الموت؟
وسمع أبو مصعب كلام ابنه هذا وهو يقترب منهما، حيث كانا يجلسان في حديقة القصر على بساط طبيعي أخضر تحت ظل شجرة الجوز الباسقة (أي الطويلة العالية) وبالقرب من شجيرات الياسمين التي كانت تعطر الجو بعبيرها الأخاذ، فاستاء أبوه مما سمع، وصاح بولده:
- ما هذا يا مصعب؟.. كيف تكلم أمك بهذا الكلام؟
نهض مصعب، وحيّا أباه ثم قال في حياء وهو يغض طرفه:
- عفواً يا أبي.. أليس الموت حقاً؟
هل يستطيع أحد الهرب من الموت؟
فأجابه أبوه، وقد خفف من حدّته:
- هذا صحيح.، ولكن.. لا يجوز أن تخوّف أمك بكلامك هذا.
قال مصعب في حنان ورقة:
- عفواً يا أمي ما قصدت الإساءة إليك.
وقالت الأم، وقد بللت دمعة أهداب أجفانها الطويلة:
- لا يا ولدي.. أنت لم تسئ إليّ.. أنت لا تسيء إلى أحد.. أنت تريد لنا الخير.
وقال أبوه بلهجة تنمّ عن الحب والاقتناع والحنان:
- صحيح.. مصعب يريد لنا الخير، ولكنه لا يحسن التصرف.. لا يعرف كيف ينتقي ألفاظه.. ولا الوقت المناسب لها.. وإلا.. فهل يجوز له أن يذكر الموت في هذا الجو الشاعري الجميل، في هذه الحديقة الجميلة الرائعة؟ في هذا الوقت بالذات؟ أليس كذلك يا مصعب؟
فابتسم مصعب ابتسامة لطيفة ساحرة وقال:
- هذه الحديقة الجميلة الرائعة يا أبي هي التي ذكّرتني بالموت وما بعد الموت.. أريد أن نذهب جميعاً إلى الجنة، لنعيش هناك معاً في جنان النعيم.
فقال أبوه:
- وهو كذلك.. سوف نكون في جنان النعيم إن شاء الله.
فقال مصعب:
- لكن.. لكل شيء ثمن يا أبي.. وثمن الجنة طاعة الله.
فقالت له أمه وهي تبتسم:
- اطمئن يا مصعب.. نحن من عائلة يعيش أفرادها سنين طويلة.. انظر إلى جدك ؟ لقد بلغ الثمانين من العمر ولم يمت، وجدّ أبيك مات في التسعين، وجدي الذي هو أخو جدّ أبيك تجاوز التسعين من السنوات، وأنا وأبوك سوف نصلي ونصوم ونحج عندما نبلغ الستين.
ونظرت إلى زوجها وهي تسأله:
- أليس كذلك يا زوجي العزيز؟
فأجاب أبوه في نزق وخوف:
- بلى.. بلى..
فقال مصعب في ود:
- اسمعي يا أمي.. أنا ابنك، والرسول العظيم يأمرنا بطاعة الوالدين، والنبي الكريم يقول: الجنة تحت أقدام الأمهات، وسوف أدخل الجنة برضاكما عليّ إ ن شاء الله، ولكن..
فسأله أبوه:
- ولكن ماذا يا مصعب؟
فأجاب مصعب في حياء وتردد:
- ولكن.. من واجبي تجاهك يا أبي.. ومن واجبي تجاهك يا أمي، أن أقول لكما.. أن.. أن.. أن أنصحكما، لأني أريد أن ندخل الجنة جميعاً.. معاً..
كان فؤاد يستمع إلى هذا الحوار وهو جالس في شرفة غرفته، فنزل إلى الحديقة، وسلّم، ثم استأذن في الجلوس معهم، فيما كان مصعب يقول:
- الموت يا أمي لا يعرف صغيراً ولا كبيراً.. الأعمار بيد الله.. وقد مات ابن عمّي وهو ابن ثلاثين سنة، وماتت أختي، رحمها الله، وهي طفلة في العاشرة من عمرها..
فنهض أبوه، والضيق ظاهر عليه، وهو يقول:
- لا يا مصعب.. ما هكذا تكون النصيحة..
نهض مصعب مع أبيه، وأمسك يده بكلتا يديه ثم قال:
- أرجوك يا أبي.. أن لا تطعمنا أنا وأمي وأختي وأخي إلا من الحلال.
فصاح به أبوه:
- مصعب..
وتابع مصعب يقول:
- والمال الحلال الذي نريده هو المال المزكّى يا أبي..
لا نريد أن نأكل ولا نشرب ولا نلبس من مال غير مزكّى..
فسحب الوالد يده من بين يدي مصعب، وسار مسرعاً نحو الباب الخارجي، وصوت مصعب يلاحقه:
- أرجوك يا أبي.. المال الحلال هو المال المزكّى يا أبي.. المال المزكّى يا أبي.
* * *
كان حديث مصعب مع والديه قد تغلغل في نفس فؤاد الذي كان يسأل نفسه:
- من أين يأتي مصعب بهذا الكلام؟
أنا لم أفكر يوماً بالحلال والحرام.. المال الحلال هو المال المزكّى.. لا يريد أن يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلا من المال الحلال.. من المال المزكّى.. ولا يريد لأمنا ولا يريد لي ولا لأختي الصغيرة (هبة) أن نأكل إلا من المال الحلال.. المزكّى..
وتذكّر كلام الأستاذ الذي كان يحيطه برعاية خاصة.. تذكّره وهو يقول:
- كل جسد نبت من سُحْتٍ (يعني من حرام) فالنار أولى به..
إنه لا يذكر: هل هذا من كلام الأستاذ أسامة، أم أنه حديث شريف من كلام الرسول عليه السلام.. على أي حال.. إذا لم يكن هذا من كلام الرسول حرفياً، فالأستاذ أسامة قد أخذ معناه من القرآن الكريم أو من الحديث الشريف، فالأستاذ أسامة عنده ثقافة شرعية ممتازة والله أعلم..
ثم عاد يسأل نفسه:
- والموت؟ لماذا يكثر (مصعب) من ذكر الموت، مع أنه ما يزال صغيراً، ولكن صحيح ما قاله (مصعب).. الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً.. والدليل على ذلك: ابن عمي وأختي وزميلنا الذي مات تحت عجلات سيارة كان يسوقها شاب طائش.. الموت حق.. ولكن.. كيف تخطر مثل هذه الأفكار على بال مصعب، ولا تخطر على بالي أنا؟
* * *
كان من عادة فؤاد أن ينام طويلاً صبيحة كل يوم جمعة.. ينام حتى الظهر، إنه ينتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر ليشبع من النوم.. كان يسهر ليلة الجمعة حتى وقت متأخر من الليل، حتى تنتهي أكثر برامج التلفزيون، وهي برامج تكون في العادة طويلة ليلة الجمعة ويسهر عليها كثيرون، وكان فؤاد من هؤلاء الذين يسهرون، وكذلك كان أفراد الأسرة، أمه وأبوه وأخته، حتى الصغار كانوا يسهرون إلا مصعباً كان يصلي العشاء، ثم يأكل لقيمات ثم يدخل إلى غرفته ليقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم،
ثم يقرأ في كتاب من تلك الكتب التي كان يشتريها حسب إرشادات الأستاذ أسامة، ثم ينام هادئ الأعصاب، بلا كوابيس ولا منامات ولا أحلام مزعجة، ففؤاد لا يذكر أبداً أنه سمع شخيراً لمصعب، أو لاحظ أنه يحلم حلماً مزعجاً، كما لم يحدّثه في يوم من الأيام عن منام مزعج.. وهذا أمر مهم عند فؤاد الذي كان كثيراً ما يرى منامات وكوابيس توقظه من نومه وهو يصرخ صرخات عالية، أو صرخات مخنوقة.. كانت الكوابيس تقلقه وتخيفه، حتى صار يكره الليل والنوم، خوفاً من المنامات والكوابيس..